كتب – د. رأفت محمود محمد

الخبير في قضايا أمن الممرات الملاحية والأمن الإقليمي والشأن الأفريقي

باستقلال إريتريا عام 1993 باتت إثيوبيا الواقعة في شرق أفريقيا دولة حبيسة، وفقدت ميناءي عصب ومصوع المنفذين المطلين على البحر الأحمر وبمسافة قدرها 1177 و894 كيلومترًا عن العاصمة أديس أبابا على التوالي[1]، وقد ظلا هذان الميناءان يمثلان جزءًا من الجغرافيا السياسية للإمبراطورية الإثيوبية طوال قرون ماضية، وما تبع ذلك من تفكيك قوتها البحرية وافتقاد جزء كبير من قوتها الإقليمية، ومنذ ذلك التاريخ وأديس أبابا تكثف البحث عن منافذ بحرية دائمة تقلل من حدة المعضلة الجغرافية التي تعانيها، وحتى لا تكون مضطرة لدفع المزيد من التكلفة لمرور تجارتها عبر الموانئ البحرية في المنطقة خاصة أن الحكومة الإثيوبية ترفض أن تُمارس عليها ضغوط إقليمية أو دولية لكونها دولة حبيسة وتقليل الاعتماد على ميناء جيبوتي الذي يستحوذ على 95% من تجارة إثيوبيا مع العالم الخارجي[2]، ما أثار انتباه الإدارة الإثيوبية لضرورة استمرار المساعي من أجل تأمين بدائل استراتيجية لميناء جيبوتي والسعي نحو تأمين أكثر من بديل للتواصل مع العالم الخارجي عبر طرق الملاحة البحرية.  

وفي شهر أكتوبر من العام الجاري ألقى رئيس الوزراء الإثيوبي خطابًا حول ما  أسماه “الضرورة الوجودية لإثيوبيا في الوصول إلى منفذ في البحر الأحمر”[3]، ذلك الخطاب الذي أعاد إلى الأذهان معضلة الجغرافيا السياسية لإثيوبيا منذ استقلال إريتريا، وكذلك أثار توجسات عديدة لدى دول الجوار بشأن النوايا الإثيوبية تجاه الدول المجاورة لها والتي لها منافذ على البحر الأحمر.

أولًا: أسباب التصريحات الإثيوبية الأخيرة بشأن البحر الأحمر

  1. استقرار سلاسل الإمداد بين إثيوبيا والعالم.

تدرك إثيوبيا أن استقرار سلاسل الإمداد، والتي تعتمد على الممرات الملاحية والتي تحوذ على معظم تجارة العالم، يعد أحد أهم عوامل الاستقرار والنمو لتجارتها مع العالم الخارجي، وقد ألقى تقرير المخاطر العالمية الصادر عن منتدى دافوس في عام 2022، والذي صدر في ضوء توترات جيوسياسية إقليمية ودولية متصاعدة نتيجة الأزمات التي يعانيها النظام الدولي حاليًا الضوء على أهمية استقرار الممرات الملاحية والتجارية في العالم وإنه يرتبط تأمين إمدادات الغذاء والطاقة ارتباطًا وثيقًا باستقرار سلاسل الإمداد الدولية والتي تتولى توفير الغذاء والموارد الطبيعية لدول العالم[4].

وتعد الممرات الملاحية الاستراتيجية الأكثر تأثيرًا على حدة تلك الأزمات والأكثر تأثرًا بها أيضًا، وهو العامل الذي تحاول إثيوبيا معالجته حاليًا في ضوء خططها المستقبلية لتكون إحدى القوى الإقليمية السياسية والاقتصادية في المنطقة.

وإذا كانت منطقة خليج عدن والبحر الأحمر من المناطق التي تتعرض لمخاطر تهديدات مختلفة، وأن البحر الأحمر يشبه الأنبوب وله مخرجان والذي إذا تعطل أحدهما تتعطل الملاحة في ذلك الممر الملاحي. تلك المخاطر والطبيعة الجغرافية للبحر الأحمر جعلت إثيوبيا تتحسب للتهديدات التي قد تواجه تجارتها مع العالم الخارجي خاصة اعتمادها على منفذ وحيد لنفاذ تجارتها مع العالم الخارجي، وأن منفذ تجارتها من خلال دولة جيبوتي يقع على رأس منطقة تشهد تهديدات متصاعدة وتنافسات بين قوى عديدة وزيادة عامل التوظيف لتلك الممرات الملاحية الاسترتيجية لتحقيق مصالح قوى إقليمة ودولية، ومنها ما يحدث مؤخرًا من جماعة الحوثيين في اليمن من تهديد للملاحة والاستيلاء على السفن التجارية في ضوء تأثر المنطقة بأحداث الصراع الإسرائيلي مع حماس في قطاع غزة الفلسطيني.

ولعل تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية وارتفاع تكاليف شحن الواردات، ولا سيما الأسمدة الضرورية للمزارعين الإثيوبيين أحد تلك الأسباب، ومن شأن امتلاك إثيوبيا ميناءً بحريًا على البحر الأحمر أن يخفض هذه التكاليف بشكل كبير؛ ما يساعدها على توفير نحو (20–30%) من إيراداتها، كما يمكن أن يسهم في خلق (25–30%) من الناتج المحلي الإجمالي لإثيوبيا وفقًا لدراسة أعدتها الأمم المتحدة في عام 2018.[5]

كذلك فإن محاولات قطع الطريق الرئيسي الواقع في إقليم عفر والواصل بين العاصمة أديس أبابا وميناء جيبوتي خلال الصراع بين الحكومة الفيدرالية وإقليم تيجراي أدت إلى تزايد المخاوف الإثيوبية خلال السنوات الثلاثة الأخيرة بشأن إخفاقها في تأمين أكثر من بديل للتواصل مع العالم الخارجي عبر طرق الملاحة البحرية.

ومن ناحية أخرى تقليل الاعتماد على ميناء جيبوتي الذي يستحوذ على 95% من تجارة إثيوبيا مع العالم الخارجي، ما أثار انتباه الإدارة الإثيوبية لضرورة استمرار المساعي من أجل تأمين بدائل استراتيجية لميناء جيبوتي.

أيضا فإن التفاعلات الإقليمية في القرن الأفريقي تجبر إثيوبيا على التحسب لأي تحولات محتملة في العلاقات مع دولة جيبوتي في المستقبل، لا سيما أن مخاوفها تظل قائمة تجاه تزاحم القوى الدولية في جيبوتي، وما ينطوي عليه من تناقضات في المصالح الاستراتيجية الدولية، وما يمثله ذلك من تهديد للنفوذ الإثيوبي الإقليمي في المنطقة.

ولعل تزايد مخاطر الإرهاب في منطقة القرن الأفريقي يزيد المخاوف الإثيوبية من تهديد تجارتها مع العالم، فهي تنخرط في مجال مكافحة الإرهاب في المنطقة وأفريقيا بشكل عام؛ لتأمين محيطها الجغرافي من الهجمات الإرهابية ومنها علاقاتها التجارية مع دول العالم وكوسيلة لتعزيز نفوذها الإقليمي ونيل ثقة القوى الدولية باعتبارها حليفًا مهمًا في هذا المجال، وهو ما يتجلى في مشاركة القوات الإثيوبية ضمن قوات الاتحاد الأفريقي الانتقالي في الصومال “أتميص”[6] وقبلها “أميصوم”[7] إلى جانب انتشار القوات الإثيوبية في بعض مناطق الصومال خارج سيطرة بعثة الاتحاد الأفريقي، إضافة إلى المشاركة في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة مثل البعثة الأممية في منطقة أبيي المتنازع عليها بين السودان الشمالي وجنوب السودان.

فالتخوفات الإثيوبية من اندلاع بعض الصراعات والنزاعات المسلحة في بعض دول القرن الأفريقي الساحلية مثل جيبوتي والصومال، والتي ربما يترتب عليها انقطاع التجارة الإثيوبية مع العالم الخارجي، هو ما يدفعها نحو تعزيز إمكاناتها البحرية والأمنية من أجل الدفاع عن نفسها ومصالحها الاستراتيجية خارج حدودها.

2 . تعزيز قوتها الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي:

تدرك إثيوبيا منذ تحولها لدولة حبيسة في تسعينيات القرن الماضي بأنها افتقدت جزءًا من مقومات قوتها الإقليمية، خاصة بعدما أعلنت تفكيك القوة البحرية الإثيوبية، وهو ما دفع أديس أبابا نحو تكثيف البحث عن منافذ بحرية دائمة تقلل من حدة المعضلة الجغرافية التي تعانيها، خاصة أن الحكومة الإثيوبية ترفض أن تُمارس عليها ضغوط إقليمية أو دولية لكونها دولة حبيسة، كما أنها لا تريد تكرار تجربة إريتريا في بداية الألفية حتى لا تكون مضطرة لدفع المزيد من التكلفة لمرور تجارتها عبر الموانئ البحرية في المنطقة.

لذا تعمل على حماية السفن الإثيوبية البالغ عددها إحدى عشرة سفينة تتمركز في البحر الأحمر، خاصة مع القرب الجغرافي لإثيوبيا من البحر الأحمر بمسافة تبلغ حوالي 60 كيلومتر تقريبًا، علاوة على تقديم تسهيلات عسكرية ولوجستية للدول الحليفة لها[8].

فإثيوبيا تنظر إلى منطقة شرق أفريقيا، بما في ذلك القرن الأفريقي وحوض النيل والبحيرات العظمى، باعتبارها منطقة نفوذ إقليمي تسعى لإبراز هيمنتها هناك رغبة في توسيع نفوذها على الصعيد القاري لتصبح أحد أقطاب القارة الأفريقية؛ لذا تسعى لتحقيق رؤيتها الاستراتيجية من خلال الوصول إلى جميع الموانئ البحرية في منطقة القرن الأفريقي ضمن المشروع الإقليمي الذي يقوم على ضمان التقدم الاقتصادي والتغلب على كونها دولة حبيسة وربطها باقتصادات دول القرن الأفريقي.

لذا تعمل على تعزيز دورها الإقليمي والظهور كرقم مهم في المعادلة الأمنية للبحر الأحمر، والذي لا يمكن أن يتم إلا بالسعي الإثيوبي بالحصول على موطئ قدم استراتيجي في البحر الأحمر يستهدف الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة والانخراط في لعبة الأمم بإقليم البحر الأحمر، وإبداء الرأي في صياغة الأهداف الأمنية البحرية الإقليمية، وتقديم نفسها للقوى الدولية الفاعلة كشريك وحليف كفء في أمن واستقرار القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وذلك من خلال لعب دور في تأمين التجارة الدولية والملاحة البحرية والمضايق البحرية بما في ذلك مضيق باب المندب الاستراتيجي.

ولعل شعور إثيوبيا بالسخط بعد تجاهل مجلس الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن الذي تأسس في يناير 2020 لها والذي تبنته المملكة العربية السعودية، وهو ما عبَّر عنه آبي أحمد في فبراير 2022 “بأن أمن البحر الأحمر لا يتحقق دون مشاركة إثيوبيا التي ستحافظ على مصالحها الاستراتيجية في المناطق البعيدة خلال السنوات الخمسة عشرة القادمة”. يشير إلى النوايا الإثيوبية تجاه استراتيجيتها تجاه الوجود في معادلة أمن البحر الأحمر لتعزيز دورها الإقليمي.

فالطموح الإثيوبي يسعى إلى جعل البلاد مركزًا إقليميًا لجذب الاستثمارات الأجنبية، لذلك تقود أديس أبابا مبادرة التعاون والتكامل الإقليمي وتحرص على تعزيز أمنها الداخلي وتأمين حدودها في منطقة تشهد اضطرابات وصراعات سياسية وحروبًا أهلية.

3 . موازنة الوجود المصري في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر

تنظر إثيوبيا إلى الوجود المصري في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر على أنه عامل مساعد لتهديد مصالحها في ضوء الصراع بين الدولتين في العديد من الملفات ومنها نهر النيل، وقد اتضح ذلك من إعلان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، دينا المفتي، يوم 5/6/2021، عن عزم بلاده إنشاء قواعد عسكرية في البحر الأحمر، وإشارته إلى أن “دولًا مختلفة تبدي اهتمامًا بالسيطرة على منطقة البحر الأحمر بإنشاء قواعد عسكرية أكثر من أي وقت مضى[9]، وبما يشير إلى اهتمام إثيوبيا بخطط القوى الأخرى في البحر الأحمر ومنهم مصر.

أيضًا وفي ضوء التنافس الإقليميي في منطقة الشرق الأفريقي تعمل إثيوبيا على زيادة القوى الشاملة لإثيوبيا تجاه مصر، خاصة أن البحر الأحمر يعد حلقة وصل بين منطقتي القرن الأفريقي والذي يضم منابع نهر النيل والخليج العربي ذات الثقل الاقتصادي، فالضعف الإثيوبي في جانب القوات البحرية في مقابل مصر  يعد عاملًا محفزًا على البحث عن إنشاء قاعدة بحرية وتأمين الوصول إلى البحر الأحمر لمواجهة النفوذ المصري في البحر الأحمر في ضوء التنافس بين الدولتين إقليميًّا وتحقيق قدر من توازن القوى بين الدولتين.

ثانيًا: الأدوات الإثيوبية لتحقيق نفاذ تجارتها من خلال موانئ دول الجوار الجغرافي المطلة على البحر الأحمر.

تقوم إثيوبيا ببناء الممرات والطرق البرية التي تربط شبكة الطرق والسكك الحديدية الإثيوبية بنظيرتها من دول الجوار الجغرافي وصولًا إلى موانئ هذه الدول مثل خط السكك الحديدية الواصل بين أديس أبابا وميناء جيبوتي بطول 750 كيلومترًا بتمويل من الحكومة الصينية.

أيضًا قامت بتوقيع سلسلة من الاتفاقات مع بعض دول الجوار الجغرافي مثل جيبوتي والصومال وكينيا والسودان إلى جانب أرض الصومال بشأن استخدام الموانئ البحرية، والحصول على حصص فيها لتسهيل التجارة الإثيوبية مع العالم الخارجي مثل الاتفاقيات التي وقعتها مع كل من إريتريا للحصول على تسهيلات ميناءي عصب ومصوع اللذين يستحوذان على أقل من 5% من تجارة إثيوبيا مع العالم ومع جيبوتي للحصول على تسهيلات في ميناء جيبوتي، والذي يستحوذ على 95% من تجارة إثيوبيا مع العالم، ومع أرض الصومال للحصول على تسهيلات في ميناء بربرة الذي يستحوذ على أقل من 5% من تجارة إثيوبيا مع العالم، كذلك مشروع لابسيت LAPSSET الذي يربط بين دول كينيا – ميناء لامو – وإثيوبيا وجنوب السودان[10]..

وفي مايو 2018 أعلنت هيئة موانئ دبي العالمية توقيع اتفاق يمكّن إثيوبيا من الاستحواذ على حصة نسبتها 19% في ميناء بربرة بإقليم أرض الصومال، ومذكرة تفاهم في مايو 2021 لتطوير الطريق البري الرابط بين أديس أبابا وميناء بربرة بأرض الصومال ليصبح أحد ممرات التجارة الدولية بهدف تعزيز المصالح الاقتصادية الإثيوبية في المنطقة، وهي المشروعات التي لم تكتمل بسبب عدم استيفاء الشروط المطلوبة لإتمام الصفقة قبل موعدها النهائي [11].

ومن عوامل الإغراء لدول الجوار الجغرافي لإثيوبيا للحصول على موطئ قدم على المنافذ البحرية لتلك الدول السعي الإثيوبي لتشبيك مصالح دول المنطقة مع المشروعات المائية الإثيوبية من خلال توظيف مشروعات الطاقة المولدة من السدود المائية ومنها سد النهضة بخطط الحصول على موانئ في البحر الأحمر، بحيث تجد المشروعات الإثيوبية دعمًا إقليميًّا متزايدًا وذلك من خلال السياسات الإثيوبية التالية:

ومن ذلك إشارة رئيس الوزراء آبي أحمد أشار خلال حديثه إلى صفقات تجارية سواء إعطاء نسبة من الطاقة النظيفة التي ينتجها سد النهضة، أو أي صفقات تجارية أو دبلوماسية أخرى، وتصريحه: “ليس من المبرر التأكيد على أن النيل يهم إثيوبيا بينما البحر الأحمر ليس كذلك، مع أن الطبيعة لا تهتم بهذا التمايز”. وتشديده على الترابط الوثيق بين البحر الأحمر ونهر النيل، وكلاهما يلعب دورًا أساسيًا في تشكيل مصير إثيوبيا، إما كمحركين للتنمية والريادة الاقليمية أو كمصادر محتملة للخطر.

أيضًا قامت إثيوبيا باتخاذ عدد من السياسات لإعادة إحياء أسطولها الحربي من خلال الاستعانة ببعض الخبرات الدولية لمساعدتها في إعادة تأسيس قوتها البحرية؛ حيث أعلنت في 14 مارس 2019 عن توقيع اتفاق عسكري مع فرنسا بقيمة 96 مليون دولار تتضمن مساعدتها لبناء قوة بحرية إثيوبية[12] في إطار سياسة بناء القدرات العسكرية لإثيوبيا، وأعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال لقائه مع آبي أحمد بدعم بلاده لأديس أبابا في مساعيها لإقامة قوة بحرية إثيوبية، وذلك قبل أن يتم تعليق الاتفاق بسبب اندلاع الحرب الإثيوبية في إقليم تيجراي، وكشفت القوات البحرية الإثيوبية في مايو 2021 عن شعارها الجديد والوسام والزي الرسمي خلال حفل أُقيم في كلية الدفاع الجوي في مدينة بيشوفتو، كما دشنت الحكومة الإثيوبية حجر الأساس لبناء مركز تدريب عسكري بحري في بيشوفتو. 

ثالثًا: تأثير الخطط الإثيوبية بالحصول على منفذ على البحر الأحمر في الاستقرار في منطقة  القرن الأفريقي

الخطط الإثيوبية تجاه البحر الأحمر لم تكن وليدة اللحظة الراهنة، فمنذ استقلال إريتريا وإثيوبيا تفكر في الخروج من أسر الدولة الحبيسة في ضوء تطلعها للقيادة والهيمنة في منطقة القرن الأفريقي، بالإضافة إلى عامل السكان الضاغط على الاقتصاد الإثيوبي، والذي تخطط له بأن يكون أحد أكبر الاقتصادات في قارة أفريقيا، وبما يستلزم معه وجود منفذ بحري لنفاذ تجارتها مع العالم.

ومن ناحية أخرى لا توجد قوى إقليمية بدون قوى بحرية تستطيع من خلالها الحفاظ على مصالحها الحيوية ومنها تجارتها مع العالم ومواجهة مخاطر تهديد مصالحها، وهو الأمر الذى تتحسب له إثيوبيا لذا عقدت الاتفاقات لإعادة إنشاء أسطولها البحري مرة أخرى ويبقى لها المنفذ البحري الدائم على البحر الأحمر والذي بدأت إثيوبيا الإفصاح عن نوياها عنه مؤخرًا.

ويرجح من التصريحات الإثيوبية الأخيرة أن تكون كل من إريتريا وجيبوتي في مرمى الاستهداف الإثيوبي وقد أسهم القضاء على التهديات التي مثلها إقليم التيجراي على الحكومة الفيدرالية، والتي استدعت التحالف مع إريتريا لمواجهته في الإعلان صراحة عن النوايا الإثيوبية تجاه البحر الأحمر، وتُمثل إريتريا الحل الأمثل لتحقيق الطموح الإثيوبي في الوصول إلى البحر الأحمر خاصة ميناء عصب الإريتري، وأيضًا دولة جيبوتي التي يمر منها معظم تجارة إثيوبيا مع العالم الخارجي.

وتنظر دول الجوار الجغرافي للخطط الإثيوبية بريبة وتوجس، وقد تباينت ردود دول الجوار الجغرافي تجاه الخطط الإثيوبية تجاه البحر الأحمر ومنها تصريح رئيس الوزراء الإثيوبي الأخير بشأن الضرورة الوجودية لإثيوبيا في الوجود في البحر الأحمر، فقد انتقدت دول الجوار الجغرافي تصريح رئيس الوزراء الإثيوبي وأصدر بعضها بيانات أشار فيها أن تلك التصريحات تمس السيادة الوطنية لتلك الدول.

فمثًلا في جيبوتي، انتقد أحد كبار مستشاري رئيس جيبوتي “ألكسيس محمد” دعوة إثيوبيا للوصول إلى البحر الأحمر، مؤكدًا أن جيبوتي دولة ذات سيادة، وأن سلامة أراضيها ليست محل شك في الحاضر أو المستقبل.[13]

وبالنسبة إلى إريتريا، فقد أصدرت الحكومة الإريترية عبر وزارة إعلامها بيانًا أكدت فيه (أنها لن  تنجر   إلى أي حوار حول الوصول إلى البحر والموضوعات ذات الصلة التي طُرحت في الآونة الأخيرة بكثرة مفرطة، أيضًا الصومال فقد رفض دعوة إثيوبيا إلى إجراء مفاوضات بشأن إمكانية الوصول إلى ميناء على البحر الأحمر، وأعرب وزير الدولة الصومالي للشؤون الخارجية “علي عمر” التزام بلاده بتعزيز السلام والأمن والتجارة والتكامل الإقليمي، بيد أن ذلك لا يعني أنها تميل إلى منح إثيوبيا إمكانية الوصول إلى أصول ذات أهمية استراتيجية، مثل الموانئ.

فالتشديد الصومالي يرجع إلى الإرث المحمل بتاريخ من التنافس والصراع بين الطرفين، وفي ضوء التغير الحالي في القيادة السياسية الصومالية والتي أتت بعد قيادة صومالية سابقة كانت تنسق وتتعاون مع التطلعات الإثيوبية فإنه يرجح عدم موافقة الحكومة الصومالية على سياسات إثيوبيا تجاه الحصول على موانئ صومالية على البحر الأحمر.

وقد بدأت إثيوبيا مؤخرًا تحدد وجهتها التي ترغبها في الوجود البحري وهى دولة إريتريا؛ حيث صرح رئيس الوزراء الإثيوبي بأن حصول بلاده على المنفذ البحري، لا يمثل انتهاكًا للسيادة الإريترية،[14] الأمر الذي ضاعف التوتر السياسي بين أديس أبابا وأسمرة، ولعل عدم اللقاء المباشر بين الرئيس الإريتيري ورئيس الوزراء الإثيوبي خلال القمة الأفريقية – السعودية التي انعقدت في الرياض أخيرًا، يوضح تأثير النوايا الإثيوبية على طبيعة العلاقات الإريترية الإثيوبية.

ومن ناحية أخرى سعت إثيوبيا لنزع فتيل الأزمة مع جيبوتي وتحييدها عن خطة الحصول على المنفذ البحري ما اعتُبر محاولة لتدارك فتيل الأزمة بين أديس أبابا وجيبوتي، خاصة أن الأخيرة لا تزال تمثل الميناء الوحيد الذي تعتمد عليه الأولى، في جميع مناشط الاستيراد والتصدير.

وقد تم عقد اتفاق أمني بين جيبوتي وإثيوبيا يحمل في طياته دلالات كثيرة أهمها هو طبيعة العلاقات بين الدولتين حاليًا وإريتريا؛ حيث تتوتر العلاقات الجيوبوتية الإريترية والإثيوبية الإريترية وبما يشير إلى تصاعد في التوترات السياسية والأمنية في منطقة القرن الأفريقي خلال المرحلة المقبلة خاصة وأن إثيوبيا حددت وجهتها للحصول على منفذ بحري ويبدو من طبيعة تصريحاتها مؤخرًا عزمها على البدء في التنفيذ.

ختامًا:

تعمل إثيوبيا على تأمين تواصلها مع العالم الخارجي من خلال توسيع رقعتها الجغرافية الضيقة الحبيسة على حساب دول الجوار الجغرافي، خاصة فيما يتعلق بإيجاد منفذ دائم على البحر الأحمر، وذلك لتأمين تواصلها مع العالم الخارجي ولتحقيق أهدافها تجاه منطقة القرن الأفريقي بأن تكون إحدى القوى الإقليمية المهيمنة والاقتصادية الكبرى في قارة أفريقيا، الأمر الذي يفرض على صانع القرار الإثيوبي تأمين سلاسل أمداد وتواصل مع العالم الخارجي لا تخضع لتهديدات أو تغير لسياسات الدول؛ لذا فإن توسيع رقعتها الجغرافية الضيقة الحبيسة على حساب دول الجوار الجغرافي، يوضح أن العلاقات الإثيوبية مع تلك الدول قد تشهد حالة من عدم الاستقرار وقد تصل إلى الصراع في حال تهديد تواصل إثيوبيا مع العالم الخارجي ومنها دولة إريتريا والتي تسعى إثيوبيا إلى الوجود الدائم داخل أحد موانئها وكحق شرعي وفق تصريح رئيس الوزراء الإثيوبي بأن حصول بلاده على المنفذ البحري لا يمثل انتهاكًا للسيادة الإريترية.


[1] هاشم علي حامد محمد، ” هل تجد إثيوبيا “الحبيسة” ضالتها على البحر الأحمر؟”، الإندبندنت عربية، بتاريخ 20 أكتوبر 2023، متاح على الرابط:
https://rb.gy/5uvsdo

[2] أحمد عسكر، “لماذا تسعى إثيوبيا لامتلاك منفذ بحري”، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، بتاريخ 31 مارس 2023، متاح على الرابط:

https://acpss.ahram.org.eg/News/18849.aspx
[3] محمود أبو بكر، ” مطالب إثيوبيا بالحصول على منفذ في البحر الأحمر أثارت مخاوف الجوار”، الإندبندنت عربية ، بتاريخ 23 أكتوبر 2023، متاح على الرابط:
 https://rb.gy/mqktze

[4] د. رأفت محمود، “إيجاد آلية مؤسسية عربية وإقليمية ودولية لإدارة شؤون أمن الممرات الملاحية في المنطقة”، مجلة آراء الخليج، مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، بتاريخ 29 مارس 2023، متاح على الرابط:

https://araa.sa/index.php?option=com_content&view=article&id=6508:2023-03-29-11-44-24&catid=4641&Itemid=172

[5] د. محمود ذكريا، “منفذ بحري – كيف تصاعدت التوترات بين إثيوبيا والصومال؟ إنتريجونال للتحليلات السياسية، بتاريخ 26 أكتوبر 2023، متاح على الرابط:

https://www.interregional.com/article/%D9%85%D9%86%D9%81%D8%B0-%D8%A8%D8%AD%D8%B1%D9%8A:/2014/Ar
[6] بي بي سي عربية، إثيوبيا تسحب بعضًا من قواتها في الصومال بسبب التمويل”، بتاريخ 26 أكتوبر 2016، متاح على الرابط:
https://www.bbc.com/arabic/world-37783051

[7] بي بي سي عربية، “إثيوبيا تنضم إلى قوة السلام الأفريقية في الصومال”، بتاريخ 22 يناير 2014، متاح على الرابط:

https://www.bbc.com/arabic/worldnews/2014/01/140122_somalia_ethiopian_troops

[8] أحمد عسكر، مرجع سابق

[9]العربية نت، إثيوبيا تعلن عزمها إنشاء قواعد عسكرية في البحر الأحمر”، بتاريخ 2 يونيو 2021، متاح على الرابط:

https://rb.gy/izvcvt
[10] عبير مجدي، “كيف يهدد طموح إثيوبيا البحري الاستقرار في القرن الأفريقي؟”، مركز رع للدراسات الاستراتيجية، بتاريخ 3 نوفمبر 2023، متاح على الرابط:
 https://rcssegypt.com/15603

[11] أحمد عسكر، “مرجع سابق

[12] جريدة الشروق المصرية، “رغم كونها دولة حبيسة.. إثيوبيا توقع اتفاقًا مع فرنسا لإنشاء قوات بحرية”، بتاريخ 13 مارس 20219، متاح على الرابط:

https://www.shorouknews.com/news/view.aspx?cdate=13032019&id=c0209cbf-cf14-498b-940c-a94396fe576f

[13] د. محمود ذكريا، مرجع سابق

[14] محمود أبو بكر، “أي دلالات يحملها اتفاق الدفاع المشترك بين إثيوبيا وجيبوتي؟” الإندبندنت عربية ، بتاريخ 23 نوفمبر 2023، متاح على الرابط:

https://rb.gy/5uvsdo