كتبت – أماني ربيع
لمصر طريقتها الخاصة في تحويل المناسبات، حتى الدينية منها، إلى طقس احتفالي، وفيما يتعلق بالحج تعددت طقوس المصريين الشعبية للاحتفال بموسم الحج والاحتفاء بحجاج بيت الله الحرام.
غنى المصريون شوقا لبيت الله وزيارة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ورسموا على حوائط منازل الحجاج الكعبة المشرفة وروضة النبي، وكان موكب كسوة الكعبة الذي يبدأ من حي الخرنفش في القاهرة حدثًا سنويًا منتظرًا في شوارع المحروسة في الماضي.
أناشيد الحج
يستقر في الوجدان الإسلامي والعربي والمصري أن سعداء الحظ من الحجاج على موعد مع ولادة جديدة يتطهرون فيها من الذنوب ويعودون أنقياء كما ولدتهم أمهاتهم، وعلى شرف هؤلاء الحجاج أقام الناس الاحتفالات واجتمعوا للغناء بأناشيد متوارثة على أنغام الدفوف والمزمار والربابة.
تنوعت هذه الأناشيد بين أهازيج لتوديع الحجاج أو لاستقبالهم عند العودة، بعضها كان يشرح مناسك الحج بطريقة مبسطة، وأخرى غنوها لمدح صفات النبي صلى الله عليه وسلم.
وكانت هناك أناشيد أخرى تدعو لمن لم يكرمه الله بأداء الفريضة الغالية بأن يفوز بها في الأعوام التالية، هذا بخلاف الأناشيد التي غناها الحجاج أنفسهم للترويح عن أنفسهم في الطريق الطويلة الشاقة إلى بيت الله، حيث كان معظم الحجاج يسافرون لأيام في رحلة برية مرهقة.
جدران البيوت سجل بصري لرحلة الحج
شكلت جدران البيوت المصرية سجلًا بصريًا لفرحة المصريين بموسم الحج، وتحول إلى طقس احتفالي لاستقبال الحجاج العائدين وبخاصة في الريف والأحياء الشعبية، كان يتم طلاء جدران بيت الحاج مع رسومات بسيطة نابعة من إحساس فطري بقدسية الفريضة.
كانت أغلب الرسومات تتضمن الكعبة مع وسيلة سفر الحاج سواء الجمل أو السفينة، مع عبارات مثل: “حج مبرور وذنب مغفور” أو كتابة الآية 97 من سورة آل عمران ﴿ ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلا ﴾.
ورصد الكاتب أفون نيل والمصورة آن باركر في كتابهم “رسومات الحج: فن التعبير الشعبي المصري عن الرحلة المقدسة”، جماليات هذه الجداريات التي سجلت رحلة الحج في تقليد يحاكي المصريين القدماء الذين رسموا طقوسهم الاحتفالية ومناسباتهم الدينية على جدران المعابد.
“موكب المحمل” رمز الهيبة المصرية
وبعيدًا عن الطقوس الخاصة بالحجيج، كان الانطلاق بكسوة الكعبة بعد الانتهاء منها حدثًا بهيجًا ينتظره المصريون الذين تكتظ بهم الشوارع في انتظار خروج الكسوة المشرفة الموضوعة على جمل مزين بالحرير والفضة في موكب كبير يبدأ في حي الخرنفش وينتهي في الحجاز كان يسمى بـ “موكب المحمل”، ويزين الناس الشوارع بالأعلام ويخرجون وراء جمل المحمل منشدين الأهازيج مع التهليل والتكبير.
كان “المحمل” يطوف القاهرة مرتين قبل رحيله، المرة الأولى في شهر رجب، والثانية في شهر شوال، حيث يخرج موكب المحمل يتقدمه أمير الحج الذي يعينه الحاكم من أجل حماية الموكب، يصاحبه جنود الجيش يتبعهم عدد من دراويش الطرق الصوفية الذين يدقون على الدفوف مرددين الأهازيج الاحتفالية.
بدأ تقليد “المحمل” في عهد شجرة الدر واستمر حتى عام 1962 حيث كانت آخر مرة تُرسل فيها مصر كسوة الكعبة، وكانت البداية في عام 1265، وهو العام الذي شهد تأدية شجرة الدر زوجة السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين فريضة الحج على متن هودج فوق ظهر جمل.
في العام التالي، أرسلت شجرة الدرة نفس الهودج المحمول على الجمل مع قافلة الحجاج المصريين، واستمر إرسال الهودج لإضفاء هيبة الدولة المصرية على قافلة الحجاج.
أما تحويل “المحمل” إلى طقس احتفالي فيعود إلى عهد السلطان بيبرس وتحديدًا في عام 1272، وبدأت منذ ذلك الوقت إقامة طقوس دينية مصحوبة بمراسم ملكية مهيبة، تحولت بمرور الزمن إلى عرف يتبعه الحكام المصريون كدلالة على هيبتهم وسلطتهم، وخلال تلك الفترة كان الهودج يُرسل فارغًا بينما توضع الكسوة في صناديق خشبية.
من الخرنفش إلى مكة
وكلمة “المحمل” تشير إلى مربع خشبي ذي قمة هرمية مُغطى بالقماش المقصب باللون الأسود، طُرِّز هذا القماش بخيوط الذهب وأرضيته من الحرير الأخضر والأحمر، بينما تتدلى من حروفه المربعة شرّابات علقت فيها كرات من الفضية، وفي الجزء العلوي يوجد منظر للكعبة مشغول بالذهب وفوق القمة الهرمية يوضع رمز السلطان.
تكون “موكب المحمل” من 20 جملًا، كانت تربى في حي بولاق، ويقع الاختيار على الجمل الأفضل لينال شرف حمل الكسوة الشريفة، ويُعفى هذا الجمل من أية أحمال شاقة لبقية حياته، ويظل في عناية وراحة تامة حتى موسم الحج التالي.
كانت الكسوة تُصنع في مكان مخصص بحي الخرنفش وخصصت لها ميزانية للإنفاق عليها، وكان المسؤول عنها يُدعى بناظر الكسوة وبعد الانتهاء من صناعتها تخرج محمولة على الهودج وأمامها تشريفة تضم فرقًا مختلفة من الجيش والمشايخ إلى ميدان الرميلة في القلعة؛ حيث يتوقف الموكب وتُضرب طلقات المدافع تكريمها لها.
بعد ذلك، يسير المحمل إلى باب الوزير ويدخل إلى القلعة، ويُكمل الموكب طريقه إلى حي العباسية، ثم ينطلق المحمل في القطار إلى السويس ومنها إلى جدة ثم يحط رحاله أخيرًا في مكة.
وكان حجاج المغرب العربي وأفريقيا والأندلس يبدأون رحلة الحج مبكرًا لضمان وصولهم إلى مصر في نهاية شهر شوال، وحضور احتفالات موكب المحمل ويستكملون معه رحلتهم في طريقه إلى الحجاز.
أين تذهب كسوة الكعبة القديمة؟
وبعد نهاية موسم الحج، كان “المحمل” يعود بكسوة الكعبة التي تم استبدالها، وكانت تقسم إلى قطع توزع على النبلاء والأعيان للتبرك بها، وبعض هذه القطع لا يزال موجودًا في متحف كسوة الكعبة.
بعد العودة من الحج، تصبح بيوت الحجاج مقصدًا للأهل والأحباب الذين يأتون مهنئين، وقديمًا كان الرجال يخرجون حاملين الأعلام البيضاء على الخيول، ويعودون إلى البيوت متبوعين بالغناء وتستقبلهم النساء بالزغاريد بينما تقام ليالٍ احتفالية للإنشاد وإطعام الفقراء.