كتبت – أماني ربيع
على الطريق بين مكة والمدينة تقع قرية “ذو الحليفة” التي تبعد عن المدينة نحو 12 كيلو مترًا، وتعد من مواقيت الإحرام الرئيسية خلال رحلة الحج.
يعرف كل من يؤدي مناسك الحج هذه المنطقة باسم “أبيار علي” وهي ميقات أهل المدينة ومن مّر بها سواء للحج أو العمرة، وفي الماضي كان يُعتقد بأن هذه المنطقة سُميت بهذا الاسم نسبة إلى الإمام علي بن أبي طالب، لكن القصة وراء اسم “أبيار علي” بطلها رجل من السودان.
إعمار ميقات المدينة
في عام 1898 جاء إلى الميقات رجل يُدعى علي بن دينار الذي كان سلطانًا لدارفور بالسودان، وجد الميقات مكانًا مقفرًا لا يلبي حاجة الحجاج الذي يمرون به، ويكونون في حاجة للتزود بالماء أو الطعام، فقرر بن دينار أن يحفر آبارًا ترتوي منها قوافل الحجاج وعندها يُطعمون ويُكرمون.
في هذا المكان أيضًا، يقع مسجد “الشجرة” لأنه شُيد في المكان الذي صلى فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم في أثناء رحلته من المدينة المنورة إلى مكة، وعُرف بعد ذلك بمسجد “ذي الحليفة” وكذلك مسجد الميقات لوقوعه عند ميقات أهل المدينة ويُعرف اليوم بمسجد “أبيار علي” وهو من المساجد التاريخية الهامة في السعودية.
عند قدوم علي بن دينار للحج في نهاية القرن التاسع عشر، لم يكن مسجد الميقات في حال جيدة فعمل السلطان السوداني على تجديده وإعادة بناء ما تهدم فيه، ولهذا سُميت المنطقة بـ “أبيار علي” تكريمًا له.
من هو علي بن دينار؟
علي بن دينار هو السلطان الأخير لإقليم دار فور في غرب السودان، ولد عام 1865، وتولي حكم سلطنة قبيلة الفور عام 1898، وخلال فترة حكمه، عُرف بعدله وحرصه على تعاليم الشريعة الإسلامية داخل سلطنته، وكانت دارفور تُعرف بأرض “دفتي المصحف” لأن أكثر من نصف أهلها يحفظون القرآن ويجيدون تلاوته، وكانوا حريصين على تلقي علومه في الأزهر الشريف بمصر، وكان لهم رواق شهير يُعرف برواق دارفور.
ارتبطت سيرة بن دينار بموسم الحج حيث كان حريصًا على إطعام الفقراء والمحتاجين خلال أيام الحج ويرسل الغلال إلى الحجاز، وفي إحدى الفترات أعاقت سلطات الاستعمار البريطاني في مصر إرسال “موكب المحمل”، وهو تقليد سنوي اعتادت الدولة المصرية من خلاله إرسال كسوة الكعبة المشرفة في موكب مهيب من القاهرة إلى مكة، وعندما سمع بن دينار بذلك قام بإرسال قافلة تحمل كسوة الكعبة، ويقال إنه ظل يرسل الكسوة الشريفة إلى مكة نحو 20 عاما.
صرة الحرم الشريفة
ومع كسوة الكعبة، أرسل بن دينار الهدايا والطعام لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين من الحجاج، وأوقف سلطان دارفور بعضًا من منتجات سلطنته من إبل أو محاصيل زراعية لتمويل ميزانية المحمل، وكانت هذه المنتجات تباع في مصر، وتسمى حصيلة البيع بـ “صرة الحرم الشريفة” ولها مسؤول خاص يسمى “أمين الصرة”.
وكانت “الصرة” تُرسَل مع المحمل في صندوق يتم التوزيع منه على الفقراء خلال موسم الحج، وحتى بعد انقطاع السلطنة عن إرسال المحمل، ظلت ذكريات تلك الفترة إرثًا لا يُنسى في تاريخ السودان وبخاصة في إقليم دارفور.
وبخلاف ذلك، قام جيش سلطان دارفور بحماية قوافل الحجاج القادمين من منطقة غرب أفريقيا في رحلتهم إلى مكة، وكانت هذه القوافل تبدأ رحلتها من الفاشر، عاصمة دارفور، ومنها إلى جزيرة سواكن في الشرق التي من عندها يستكمل حجاج بيت الله رحلتهم إلى الأراضي المقدسة عبر البحر.
متحف سلطان دارفور الأخير
كان بن دينار من المناضلين ضد الاستعمار البريطاني، وانتهى عهد السلطنة في دارفور برحيله عام 1916، حيث قتل مع الآلاف من جنوده خلال معركة برنجية ضد القوات البريطانية، ليسقط إقليم دارفور تحت قبضة الإنجليز.
ورغم النهاية الأليمة، لا تزال الحكايات عن علي بن دينار تتردد في السودان، وتحول قصره الذي أنشأ بإشراف مهندس تركي عام 1912 إلى متحف في عام 1977، حيث كان القصر شاهدًا على آخر سنوات سلطان دارفور، ومن بعده قوات الاستعمار البريطاني التي اتخذته كمقر لها حتى استقلال السودان عام 1956، وفي عام 2021، أدرجت منظمة اليونسكو القصر ضمن لائحتها للتراث العالمي.