كتبت – أماني ربيع
عند كتابة قصة أو نص سينمائي عن حركة بوكو حرام المتمردة في نيجيريا، سيكون عليك تناولها من زاويتي التعصب الديني من جهة، وعدم كفاءة الحكومة في إدارة صراعها مع الحركة المتشددة من جهة أخرى، ومن يفكر في ذلك سيكون أشبه بمن يسير على حبل مشدود يحتاج إلى كثير من الحذر.
وفي فيلم “The Milkmaid”، يتجرأ المخرج النيجيري ديزموند أوفبياجيلي، ويرفض السير على قشر البيض عند روايته للحقيقة المؤلمة التي تركها المتمردون في جسد الدولة الأفريقية الأكثر سكانا.
زفاف أم مذبحة
ابتسامات كبيرة وجو مفعم بالحماسة والفرح، مع إعلان حفل زفاف في إحدى قرى غرب أفريقيا، العروس ترتدي زي العرس الملون المطرز التقليدي لقبيلة فولاني، وعلى وجهها تضع حجابا ورديا، تشق طريقها إلى ساحة الزفاف وسط حشد من النسوى المبتهجات اللاتي يرقصن على إيقاع طبول يحملنها في أيديهن مع الزغاريد.
لكن سرعان ما يتحول الاحتفال البهيج إلى مذبحة عندما يهاجم عناصر الجماعة الإرهابية العرس ويسقط المدعوون بطلقات الرصاص نرى طفل يبكي فوق جثة والدته، في قصة صغيرة من بحر المآسي، ثم يتم اختطاف العروس وباقي الفتيات بعيدا حيث يبدأن حياتهن الجديدة كعبيد وعرائس مقاتلات.
مع سير أحداث الفيلم يسيطر العجز على مشاعر من يشاهده، خاصة رؤية محاولات الشخصية الرئيسية عائشة التي تؤديها الممثلة أنتونيتا كالونتا لإنقاذ أختها زينب وتؤديها الممثلة مريم بوث، من المتمردين الذين هاجموا قريتهما.
يأخذ الفيلم النيجيري الجديد “The Milkmaid” المشاهدين في رحلة حميمة إلى حياة نادراً ما يشاهدونها، ربما سمعوا عنها في نشرة الأخبار، أو شاهدوها في عناوين الصحف التي من كثرة حديثها عن الإصابات وأعداد الموتى أصبح تاثير ذلك على الناس فاترا وعابر، وأصبح من السهل أن ننسى أنه وراء هذه الأرقام هناك أحلاما حقيقية وأرواحا حقيقية.
تتحول عائشة وزينب إلى رمز يجسد التجارب المأسوية للفتيات ضحايا بوكو حرام، صدمة العنف والمجاعة وضعف الأطفال الذين خرجوا لحياة مريرة بسبب اغتصاب الشابات اللاتي وقعن فريسة لليأس بعد إدراكهم أنه لا عون أو حرية في الأفق.
ورغم حالة الشتات والفرار من مصير مخيف، يبدو الوطن متمثلا في القرية الآمنة حاضرا دوما في قلب وعقل عائشة، التي من وقت لآخر تعيدنا بكلماتها إلى منزلها حيث وجود الأسرة الدافئ وحبها لعائلتها كابنة مخلثة وأخت وفية، ويأخذنا المخرج أوفيباجيلي إلى بعض من لقطات حياة عائشة السابقة عبر مشهد زفاف يستحضر جمال الثقافة التقليدية في نيجيريا.
هذه اللحظات الصغيرة البسيطة هي كل ثروة عائشة، التفاصيل اليومية مثل الأم تضفر شعر ابنتها، وتجهيز النساء العروس للقاء زوجها، وضيوف الزفاف الراقصين، يبدو المشهد كأنما تم تصويره في قطعة من الجنة على هضبة Mambilla Plateau، أعلى هضبة في نيجيريا، ونجح مدير التصوير ينكا إدوارد في تقديم جمال الريف بصورة تخطف الأنفاس، إلى جانب إبراز تفاصيل ملابس أوبيجا أورو الخلابة، مع تصميم الإنتاج الممتاز لبات نيبو، كل هذا مع النوتة الموسيقية المدهشة لمايكل تروث أوجوليند، الذي يجمع كل هذه المشاعر لخدمة رؤية الفيلم المليئة بالمشاعر.
للأسف لا تتمتع بطلات الفيلم بلحظة راحة، بعد غزو المتطرفين لقريتهم واختطاف الأختين زينب وعائشة وصديقتهما حوا وتزويجهن رغما عنهن في مشهد مؤلم، مع تصوير التأثير الجسدي والنفسي لهذا على الفتيات حيث المرأة مجرد شيء تنتزع منها كل حقوق الإنسانية، لايملكون القدرة على الكلام، لكن عيونهن حية ومعبرة تقول كل شيء.
ورغم هذه المآسي، كانت لغة الفيلم هي الرصانة والاتزان في التناول والطرح، تم تصويره في تارابا بواسطة مدير التصوير ينكا إدوارد الذي نجح في تقديم الطبيعة الجبلية ذات الجمال الخلاب مع إبراز الثقافة الملونة الغنية لقبيلة الفولاني.
يبدو “The Milkmaid” مثل صرخة احتجاج تُروى بحزم، احتجاج يشير بإصبعه إلى الحكومة والمحكومين، ورسالة مهمة لدور السينما وكيف يمكن أن تقدم قصصا تصنع تأثيرا.
نجاح دولي
نفذ أوفبياجيلي فيلمه بعين حساسة ومتعاطفة مع موضوعه، وتبدو قصته المحلية عالمية من منظور إنساني، يجسد بعض ملامح اختطاف فتيات شيبوك عام 2014، حيث خطفت جماعة بوكو حرام أكثر من 270 تلميذة من بلدة شيبوك بشمال شرق نيجيريا، ونوه المخرج عن التكلفة البشرية لصراع بوكو حرام في نيجيريا، ومحنة المشردين داخليًا، وتعقيدات التطرف الديني في البلاد، عبر قصصا عن أشخاص عاديين من الذين يبقون دوما مجهولي الهوية وأسماءهم غير معلنة مجرد أرقام تشير إلى أعداد في زوية جريدة ما، وهو قصة مؤثرة عن البقاء والنجاة في بيئة خانقة للفتيات.
وقال: “شعرت أنه من المهم أن نضع وراء كل ما نسمعه من أرقام وإحصاءات عن الضحايا، قصصا وشخصيات من لحم ودم، وكان هدفنا هو لفت الانتباه إلى محنة الضحايا الذين لا يعرفهم أحد.”
ربما يتناول الفيلم حكاية واقعية، لكن بخلاف الواقع يدفع شرير الفيلم دانجانا ثمن جرائمه البشعة ضد الإنسانية والدين، في نهاية سعيدة ومرضية للجميع وكأن السينما تربت على كتف هؤلاء الفتيات وتقول لهم إن الأمل لازال ممكنا.
نجح الفيلم في تحقيق الثناء النقدي والتواجد في ترشيحات الجوائز المحلية والإقليمية، فترشح لـ 8 فئات بجوائز African Movie Academy منها أفضل فيلم وأفضل مخرج لأوفيبياجيلي، كما ترشح لجائزة عثمان سامبين لأفضل فيلم بلغة أفريقية، وجائزة NFVCB لأفضل فيلم نيجيري، وأفضل تصوير سينمائي لينكا إدوارد، وأفضل مكياج لراحيلا مانجا.
كما تم ترشيح أنتونيتا كالونتا بطلة الفيلم إلى جائزة أفضل ممثلة واعدة، بينما حصلت مريم بوث على جائزة أفضل ممثلة مساعدة.
وقال مخرج الفيلم: “سعينا لإنتاج فيلم يعرض ثقافة الفولاني الأنيقة والنابضة بالحياة في شمال نيجيريا، جنبًا إلى جنب مع تصوير عميق للصراعات المروعة بالمنطقة، وتأثيرها على الضحايا والآثار الشخصية والمجتمعية للصدمة النفسية التي تعرضن لها”.
حاز الفيلم على احتفاء دولي كبير، وتم دعوة طاقمه لعرضه في اكثر من مناسبة نظمها البنك الدولي ومبادرة للأمم المتحدة، إلى جانب الدعم الكبير من قادة صناعة السينما في نيجيريا، ونجح الفيلم في أن يكون ضمن الترشيحات الأولية لجائزة أوسكار أفضل دولي، ورغم أن نيجيريا دولة ناطقة بالإنجليزية وهو الأمر الذي يتعارض مع شروط الأوسكار للترشح في فئة الفيلم الدولي، إلا أن صناع الفيلم جعلوا الشخصيات تخاطب بعضها البعض بلغات الهوسا والعربية والفولفيد المتداولة محليا.
لكن واجه الفيلم في طريقه إلى سباق الأوسكار منافسة شرسة مع الفيلم القادم من ساحل العاج ” NIGHT OF THE KINGS”، والذي نجح بالفعل في الوصول إلى القائمة القصيرة لجوائز الأوسكار في فئة أفضل فيلم دولي.
ورغم ذلك، تسعى شركة Danono Media، منتجة الفيلم حاليا للحصول على صفقة مع منصات البث الرقمية الكبرى لضمان مشاهدات عالمية أكبر.
نغمة شاذة في نوليود
ومع نجاحه الدولي، واجه الفيلم مشكلات رقابية من قبل السلطات في نيجيريا التي لم يشاهده فيها سوى عدد محدود جدا، بينما لايعرف الكثيرون أصلا أنه موجود، وبررت السلطات موقفا من الفيلم بحجة أنه استفزازي، وتم حذف نحو 30 دقيقة من أحداث الفيلم منها مشهد يخطط فيه المتطرفون لمهاجمة مدرسة في حدث وقع بالفعل وليس من اختلاق المخرج.
وليست هذه هي المرة الوحيدة التي يشكو فيها صناع السينما والمبدعين من رقابة مجلس الأفلام النيجيري، الذين يعبترونه مهددا للإبداع المحلي، لكن يصبح الأمر مفهوما إلى حد ما مع التوترات التي تعانيها نيجيريا حول الدين والعرق والأعراف الاجتماعية، لاسيما بين الشمال الذي تسكنه أغلبية مسلمة والجنوب المسيحي، ويخشى المراقبون خطر العنف.
أوفبياجيلي مخرج الفيلم الذي ترك عمله كمصرفي من أجل السينما، رفض المقايضة على فيلمه في نيجريا وتحول إلى أسواق بديلة مثل زيمباوي والكاميرون.
وعلق على ذلك قائلا: “أشعر بالحزن من أجل الأشخاص الذين نحاول تصوير حياتهم، لأن ما يريد الرقيب أن نظهره لا يمثل أوضاعهم بإنصاف، وهدفنا هو إظهار معاناتهم للعالم.”
يعتبر “The Milkmaid”، نغمة شاذة في عالم نوليود، التي نادرا ما تناقش قضايا الإرهاب في أفلامها، وهي الصناعة الكبرى التي تنتج أفلاما أكثر من هوليود نفسها، لكنها تفضل الكوميديا والأفلام تعرض حياة أثرياء نيجيريا حيث المنازل الفخمة، والحفلات الكبيرة، والسيارات المبهرجة على تقديم قصص حول الشجاعة والأحداث الصعبة التي يواجهها أفراد المجتمع النيجيري.
والمجلس الوطني للرقابة على الأفلام والفيديو مسؤولا عن تصنيف وتنظيم الأفلا بنيجيريا، لكن النقاد يتهمون الوكالة الحكومية باستخدام نهج أكثر صرامة في التعامل مع الأفلام المحلية مقارنة بالأفلام الأجنبية.
يقول الناقد السينمائي النيجيري أوريس إيجبوخافبولو: “أعرف صناع أفلام يعملون على أطراف نوليوود ويخرجون أفلامًا لن تُعرض أبدًا في نيجيريا، يناقشون افرها وموضوعات اجتماعية صعبة حول الحرب والفقر.
ويضيف: “الطريقة التي يعمل بها مجلس الرقابة هي لا ترى شر يعني أنه لا يوجد شر: إذا لم يتمكن أحد من رؤيته ، فهذا يعني أنه غير موجود”.
وحذر من أن النتيجة هي ركود الفن وتقلص المساحات المخصصة للأفلام التي من شأنها تعزيز المحادثات الفكرية والثقافية في البلاد.
عادة ما يتم تصنيف “نوليوود” جنبًا إلى جنب مع هوليوود وبوليوود من بين أفضل ثلاثة مدن لصناعة السينما في العالم من حيث الحجم.، لكن إصداراتها، نادرًا ما حظيت بتعرض كبير خارج المنطقة، ومن جهتهم يرى الصناع أن السوق المحلية للبلد المزدحم بالسكان يشكل تعويضا عن هذا النقص.