كتبت – أسماء حمدي

في الركن الجنوبي الشرقي من الجزائر، تقع هضبة طاسيلي ناجر، والتي تعد من أكثر بقاع العالم غموضًا وسحرًا، إذ تكشف المنطقة أسرار السكان القدامى، وتقدم صالات العرض المفتوحة في الهواء الطلق سجلا كبيرا للحضارات القديمة.

تتألف المنطقة من بقايا هضبة شاسعة من الحجر الرملي تعود إلى عصر ما قبل الكمبري (أقدم فترة زمنية من تاريخ الأرض)، تمتد عبر 2780 ميلا مربعًا من وسط الصحراء على الحدود مع ليبيا والنيجر.

متحف للفن الصخري

تحتوي طاسيلي ناجر على رسومات تعود إلى العصر الحجري، وكهوفًا تحمل أسرار الإنسان القديم، الذي ترك فيها نقوشًا وآثارًا تعبر عن مراحل حياته، يعود بعضها إلى 12ألف سنة قبل الميلاد.

وسلطت مجلة «ناشيونال جيوجرافيك» الضوء على طاسيلي، ووصفتها بأنها «أعظم متحف لفن ما قبل التاريخ»، وأنها أرض عجائب جيولوجية من التكوينات الصخرية الغريبة التي تحيط بها الكثبان البرتقالية.

تتميز الهضبة بطبيعة جيولوجية ساهمت فيها العديد من العوامل الطبيعية كالزلازل والبراكين، كما سهامت فيها بصورة خاصة الرياح والمياه، إذ شكلت دهور من التعرية الحجر الرملي إلى قمم وفتحات كبيرة، وكونت النتوءات أشكال سريالية وحيوانية، ويعتقد أنها تحتوي على أكثر من 300 قوس طبيعي.

كان الرحالة برنان هو أول من اكتشف طاسيلي وهو الذي اكتشف الرسوم والنقوش، وتواصلت بعده الاكتشافات، فجاءت اكتشافات عالم الآثار الفرنسي هنري لوت، الذي له دراسات قيمة جدًا قدمها للبحث العلمي، إذ تطرق للحياة اليومية للإنسان ما قبل التاريخ، من خلال الرسومات والمشاهد الموجودة بالمنطقة.

في عام 1982 ضمت اليونيسكو طاسيلي إلى قائمة التراث العالمي، واليوم يعيش بها بعض من أبناء قبائل الطوابق.

تقول المديرة المسؤولة عن طاسيلي، أوساك ويقاتي عائشة: “البحوث الأثرية أوضحت أن الإنسان استغل الطبيعة واكتشف أن الأدوات الحجرية الموجودة يمكن أن تكون فعالة ويستعملها في حياته اليومية كالصيد، والتي تعود إلى فترة تسمى العصر الحجري القديم”.

تضيف عائشة: “كان الإنسان في هذه الفترة يتطفل على الطبيعة ولم يعرف الاستقرار، إذ كان يعيش على صيد الحيوانات وقطف الثمار البرية، ووجدت هذه الأدوات الحجرية مجتمعة ببقايا حيوانية، وهذه البقايا تعتبر كمرجع يدل على نوع الحيوانات التي كانت تعيش في هذه المنطقة”.

تادرارت الحمراء

هناك 4 فترات للفن الصخري في طاسيلي ناجر، والتي تتشمل مرحلة رسومات الرؤوس المستديرة، ثم مرحلة الفقاريات ثم مرحلة الأحصنة والعربة، ثم الفترة الأخيرة وهي فترة الجمل والكتابات، وتبدأ هذه الفترات من ألف سنة قبل الميلاد.

من بين أجمل مناطق طاسيلي، هي منطقة تادرارت الحمراء والتي يطلق عليها الكوكب الأحمر، وهي منطقة تتخللها سلسلة جبال تقع بمدينة جانت ولاية إليزي في الجنوب الشرقي للجزائر، على بعد ساعتين ونصف الساعة من عاصمة البلاد.

عند زيارة تادرارت غالبًا ما يرى الزوار نقوشًا ولوحات قديمة تزين الصخرة، والتي تباهى بها هنري لوت، الذي وثق العديد من القطع الفنية الصخرية لطاسيلي البالغ عددها 15000 قطعة في الخمسينيات من القرن الماضي، وجرى إدانته لاحقًا بسبب ممارساته العملية التخريبية، بالمنطقة باعتبارها “أعظم متحف لفن ما قبل التاريخ في العالم بأسره”.

تمثل صالات العرض هذه في الهواء الطلق سجلًا إثنولوجيًا بليغًا للشعوب التي جرى رسمها في المنطقة عبر العصور، وتصور العديد من أبرز وأشهر النقوش الصخرية الثدييات الكبيرة المرتبطة بشكل أكثر شيوعًا بإفريقيا، بما في ذلك الأفيال والزرافات ووحيد القرن وفرس النهر.

عندما كانت الصحراء خضراء

يشير حجم التعرية، لا سيما في أنظمة الوديان العميقة المنحوتة إلى الشمال، إلى أن هضبة طاسيلي القاحلة كانت تتقاطع مع الممرات المائية.

وتوقع علماء المناخ القديم أن التغيرات في ميل الأرض ومدارها بالنسبة للشمس أدت إلى تدفئة نصف الكرة الشمالي في الفترة ما بين 11.7 و 5.5 ألف سنة.

خلال هذه الفترة، ملأت الرياح الموسمية الصيفية الأطول والأكثر كثافة الأحواض الجيولوجية بالبحيرات والأراضي الرطبة، وربطت الأنهار العظيمة بالمحيط الأطلسي وبشاطئ البحر الأبيض المتوسط في المغرب العربي، وجابت الثدييات الكبيرة المراعي التي لا نهاية لها.

الأبقار الباكية

يتتبع الفن الصخري في طاسيلي ناجر التحولات المناخية، ومع تطور أنماط الطقس في المنطقة، وكذلك تطور المجتمع البشري، تتميز العديد من المتراكبات بصور مفصلة وطبيعية لأبقار بيبالد، مما يشير إلى الانتقال من الصيد والجمع إلى الرعي المتنقل.

رسمت العديد من الصور الباقية من هذا العصر بالطلاء القرمزي، المشتق من الحجر المسحوق الممزوج بدم البقر، باستثناء عمل واحد من بين هذه الأعمال الفنية الأكثر شهرة في المنطقة وهو الأبقار الباكية.

على نتوء وحيد بالقرب من الطريق الذي يمتد اليوم بين جانت والحدود الليبية، نقش ما يُعرف باسم الأبقار الباكية، والتي جرى نحتها من قبل حرفي ماهر، وهي تُظهر مجموعة من الأبقاء والتي تتجه رؤوسها نحو الناظر، ولكل منها دمعة كبيرة تحت إحدى عينيها.

 تقول الأسطورة المحلية إن نقش الأبكار يمثل قلق الرعاة مع جفاف الأمطار، وانحسار الغطاء النباتي في الساحل الذي عانى من ثدييات كبيرة لعدة آلاف من السنين.

وتعد الأبقار الباكية هي مظهر من مظاهر الصحراء القاحلة، نظرًا لأن عصر الخصوبة قد تلاه عصر من الغبار، والتي تعد كإمضاء للأشخاص الذين يعيشون في حالة تنقل وكأنهم يقولون: “كنت هنا”.

في العقود الأخيرة، أدى عدم الاستقرار المحلي، وعلى الأخص الذي تسببت به الحروب الأهلية في ليبيا والنيجر وبعض مناطق إفريقيا، إلى حظر الوصول إلى الكثير من الحدائق الوطنية والمفتوحة، لكن بسبب كون طاسيلي ناجر غير مستكشفة بالكامل حعلها بعيدة عن متناول الدوريات العسكرية الجزائرية.