كتب – حسام عيد

مع عائد السندات المرتفع بنسبة 27.9%، تواجه تونس أعلى تكلفة اقتراض في أفريقيا. ونظرًا للتخفيض المستمر للتصنيف الائتماني للدولة الواقعة في شمال القارة، والذي يعيق الوصول إلى قروض رخيصة، لجأت تونس في البداية إلى التوصل لاتفاق بشأن قرض إنقاذ بقيمة 1.9 مليار دولار من صندوق النقد الدولي في أكتوبر 2022. ومع ذلك، فقد رفضها رئيس البلاد، قيس سعيّد، على أساس تزايد عدم المساواة المحلية والتوتر الاجتماعي.

التحديات الاقتصادية المتشعبة.. وتفاقم أعباء الديون

إن تحديات الديون التي تواجهها تونس كانت في معظمها ناجمة عن عوامل خارجية. حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ظل مستوى الدين العام في تونس منخفضًا نسبيًا؛ حيث بلغ متوسط ​​نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي 48% سنويًا بحلول عام 2002 وانخفض إلى 39% في عام 2010. وقد تميزت هذه الفترة بسياسة تونس الحكيمة لإدارة الديون من خلال ابتكار أدوات حكومية محلية للدخل الثابت، والالتزام بالاستدامة المالية في إطار خطة التنمية الخمسية.

ومع ذلك، أدت الأزمة المالية العالمية عام 2008، والربيع العربي، والهجمات الإرهابية مجتمعة إلى توسيع العجز المالي للبلد الذي يعتمد على التجارة من 0.6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010 إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2017، مما أضعف قدرة تونس على سداد الديون.

وفي الآونة الأخيرة، تفاقمت التحديات الاقتصادية التي تواجهها تونس بسبب جائحة كوفيد-19 والحرب الروسية الأوكرانية. وقد أدى ذلك إلى تقييد السيولة؛ حيث تم إنفاق الموارد المالية على الاستجابات لفيروس كورونا، إلى جانب ارتفاع التضخم واستنفاد احتياطيات النقد الأجنبي والواردات. قبل الجائحة، كان متوسط ​​نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في تونس 70.1% في الفترة من 2015 إلى 2019 ــ وهو ما يتجاوز عتبة ديون صندوق النقد الدولي البالغة 70% إلى الناتج المحلي الإجمالي بموجب تحليل استدامة الديون للأسواق الناشئة في البلدان القادرة على الوصول إلى الأسواق. اعتبارًا من عام 2022، قُدر الدين العام في تونس بنحو 90% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يوضح مدى تأثير الأزمات الخارجية على الحيز المالي للبلاد.

ولوضع ذلك في السياق، بلغ إجمالي الدين الخارجي لتونس 41.6 مليار دولار في عام 2021، وهو ما يمثل 3.87% فقط من إجمالي الدين الخارجي الأفريقي. علاوة على ذلك، لا تمثل ديون أفريقيا سوى 1.16% من الدين الخارجي العالمي، مما يسلط الضوء على الروايات المضللة التي تقول إن القارة مثقلة بالديون وتضع عبئا كبيرًا من الديون على بقية العالم، كما كشفت مجلة “أفريكان بيزنس”.

ومع ذلك، ليست هذه هي المرة الأولى التي تشارك فيها تونس وصندوق النقد الدولي في إعادة هيكلة الديون. على مدى العقدين الماضيين، أصدر صندوق النقد الدولي قروضا بقيمة 1.74 مليار دولار (2013) و2.9 مليار دولار (2016) لتونس. ومع ذلك، كان لهذا تأثير محدود. وظل النمو الاقتصادي راكدا في حين زادت خدمة الديون لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

من الواضح أن خفض الإنفاق وتقليص أولويات النمو ليس ناجحا؛ حيث كشفت دراسة أن الإصلاحات المالية التي يحركها صندوق النقد الدولي والتي يقودها التقشف لن تفعل الكثير لخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في تونس إلى ما دون عتبة القدرة على تحمل الدين التي يتحملها صندوق النقد الدولي بغض النظر.

التمويل الميسر.. ومستهدفات النمو الطويل الأجل

على الرغم من أن البلاد تتمتع بنسبة عالية نسبيًا من سكانها بإمكانية الوصول إلى مياه الشرب المُدارة بشكل آمن (بنسبة 79% في عام 2020) وإمكانية الوصول شبه العالمي إلى الكهرباء (بنسبة 99.9% في عام 2021)، إلا أن 16.6% من السكان لا يزالون يعيشون تحت معدل الفقر الوطني. في الواقع، تونس ستحتاج إلى استثمار ما بين 18% إلى 24% من ناتجها المحلي الإجمالي سنويًا (8.9 مليار دولار – 12 مليار دولار) لتطوير البنية التحتية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة -مما يدل على أن إن القرض المقترح من صندوق النقد الدولي بقيمة 1.9 مليار دولار هو قطرة في محيط من حيث احتياجات التمويل.

علاوة على ذلك، سيتعين على تونس تلبية شروط قرض صندوق النقد الدولي الصارمة، بما في ذلك خفض دعم الوقود، وإلغاء دعم السلع الاستهلاكية، وخفض فواتير الأجور العامة، وإعادة هيكلة الكيانات المملوكة للدولة -وكلها تؤثر على الفئات السكانية الأكثر ضعفا. مع مقاومة، بما في ذلك من جانب الرئيس سعيد ضد “الإملاءات الخارجية” لصندوق النقد الدولي، والانقسامات الحكومية حول الصفقة، ومقاومة الاتحاد العام التونسي للشغل.

صعوبة الحصول على قروض “رخيصة”

واجهت تونس خلال أزماتها الراهنة، معضلة خفض تصنيفها الائتماني من قبل وكالات التصنيف الائتماني الثلاث؛ حيث قامت وكالة فيتش مؤخرًا بتعيين “CCC-” -انخفاضًا من “CCC+”. وفي نهاية المطاف، سيؤدي هذا إلى زيادة تكلفة القروض.

وتشير دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مؤخرًا إلى الانحرافات غير المتسقة في التصنيفات الائتمانية الأفريقية من قبل مختلف وكالات التصنيف الائتماني للبلدان التي تعاني من أوضاع مماثلة، وذلك بسبب عدم كفاية البيانات والاعتبارات الذاتية. وتشير التقديرات إلى أن مثل هذه التصنيفات الائتمانية المتحيزة ستكلف أفريقيا 74.5 مليار دولار.

وأشار تقرير صادر عن الآلية الأفريقية لمراجعة النظراء واللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة إلى أن مثل هذه التصنيفات المتحيزة هي نتيجة لوجود وكالات التصنيف الائتماني خارج القارة، والأخطاء في نشر التقييمات والتعليقات، وسلوك القطيع لدى وكالات التصنيف، والتقييمات والإعلانات التلقائية التي تقع خارج الجداول الزمنية لتقويم التصنيف.

فيما تعتمد تصنيفات رأس المال على تحليلات مستوى المعيشة المتحيزة، والتي تراقب وتطبق فقط على البلدان ذات الدخل المنخفض والمتوسط، مما يعني ضمناً أن هذه البلدان هي وجهات استثمارية “محفوفة بالمخاطر”. وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية لعدم حصول تونس على التمويل الكافي للتنمية، وارتفاع أسعار الفائدة عندما تقترض، وطرحها بوصفات صندوق النقد الدولي التي تعيق في الواقع استدامة التنمية على المدى الطويل.

وختامًا، تونس لا تستحق أعباء الدين الباهظة أو الشروط الصارمة لصفقات صندوق النقد الدولي. إن الإصلاح ضروري لمعالجة نظام القدرة على تحمل الديون والمقيد بسرد الديون ذاتية التحقق. وإصلاح القدرة على تحمل الديون أمر ممكن -وينبغي للتقييم أن يأخذ في الاعتبار الجانب “الإيجابي” من الديون، مثل إنشاء البنية التحتية المنتجة والمحفزة للنمو، إلى جانب دعم الحكومات الأفريقية في إجراء تحليلات القدرة على تحمل الدين الخاصة بها للحد من التحيزالمبرر في وكالات التصنيف الدولية.

ومن الممكن أن تساعد هذه النظرة الشاملة للديون في خفض أسعار الفائدة وفتح المزيد من التمويل للتنمية. إن القروض الرخيصة التي يسهل الوصول إليها وبأحجام كبيرة هي وحدها التي ستدعم البلدان الأفريقية بشكل كافٍ، مثل تونس، لمعالجة فجواتها التمويلية لتحقيق نمو مستدام طويل الأجل.