كتب – أماني ربيع
كل يوم يخرج في مؤتمر صحفي، كلماته تلف العالم، ورغم الأضواء وضغط الإعلام المستمر للوصول إلى إجابات، فإنه يظل هادئًا وودودًا، ومع نهاية كل مؤتمر صحفي، تكون النهاية نفسها، يلملم مجموعة الأوراق أمامه، مع ابتسامة مع كلمتيه: “أراكم غدًا”.
يا له من تحدٍّ أن تكون رئيسًا لمنظمة الصحة العالمية في وقت تفشي الفيروس التاجي “كوفيد-19” المعروف عالميًّا بكورونا.
الكوكب كله أصبح على انتظار كلمة منه، يدقق في كل تفصيلة يقولها خلال المؤتمرات الصحفية اليومية من مقر المنظمة في جنيف، حيث يصرح عن تطورات المرض أو عن تفاصيل انتشار حالات الإصابة التي تتزايد حول العالم بشكل مطرد.
للأسف كان هذا نصيب الإثيوبي تيدروس أدهانوم جيبريسوس، أول رئيس أفريقي لمنظمة الصحة العالمية، الذي تولى منصبه قبل عامين ونصف العام، مع وعود بإصلاح المنظمة ومعالجة الأمراض القاتلة التي تحصد آلاف الأرواح سنويًّا مثل: الملاريا والحصبة أو الالتهاب الرئوي، وفيروس نقص المناعة البشرية “الإيدز”.
وبينما عملت منظمة الصحة العالمية بجد للقضاء على هذه الأمراض، حوصر الدكتور تيدروس بعد تولي المنصب أولًا بتفشي فيروس إيبولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والآن بـ”كوفيد-19″، وكلا الفيروسين تم الإعلان عنهما باعتبارهما أوبئة عالمية، تستدعي الطوارئ.
ما يعني أن مكافحتها تتطلب مراقبة دائمة على مدار الساعة، ونشر الطواقم الطبية والأجهزة والأدوية، وإجراء مناقشات يومية مع البلدان المتضررة، والدول التي قد تتأثر، وبالطبع تدفق مستمر من المعلومات الموثوقة لعالم متلهف، ويائس للحصول على إجابات فورية.
دكتور بدرجة دبلوماسي
“ساحر” و”متواضع”، هذه بعض الكلمات التي يستخدمها أولئك الذين يعرفونه لوصف دكتور تيدروس، البالغ من العمر 55 عامًا.
وفي مؤتمره الصحفي الأول كمدير عام لمنظمة الصحة العالمية، كان الصحفيون في جنيف في حالة ارتباك بسبب أسلوبه، فهو يسير مبتسمًا، ويجلس ويتحاور بطريقة تشبه الدردشة المريحة مع صديق، ويتحدث بصوت هادئ، وهو تغيير كبير قياسًا بمارجريت تشان المديرة السابقة للمنظم والتي اتسمت بطابع أكثر رسمية.
لكن خلف هذا المظهر الهادئ كان هناك رجلًا طموحًا، ومصممًا على تحقيق أهدافه، فما هو تاريخ تيدروس أدهانوم جيبريسوس قبل أن يصبح رئيسًا لمنظمة الصحة العالمية.
وُلد الدكتور تيدروس عام 1965 في أسمرة، التي أصبحت عاصمة إريتريا بعد استقلالها عن إثيوبيا عام 1991، ونشأ في منطقة تيجراي في شمال إثيوبيا، وحصل على شهادة الدكتوراه في مجال صحة المجتمع من جامعة نوتنجهام، وعلى شهادة الماجستير في علوم المناعة والأمراض المعدية من جامعة لندن.
أصبح عضوًا في جبهة تحرير شعب تيجراي (TPLF)، التي كانت سببًا في الإطاحة بالديكتاتور الإثيوبي منجستو هايلي مريم عام 1991.
شغل الدكتور تيدروس قبل ذلك، منصب وزير خارجية إثيوبيا في الفترة من 2012 إلى 2016، كما شغل منصب وزير الصحة بإثيوبيا في الفترة من 2005 إلى 2012، وقاد في ذلك الوقت جهودًا شاملة لإصلاح النظام الصحي في البلاد، عبر توظيف الاستثمارات في البنية التحتية الصحية، وزيادة أعداد القوى العاملة بالمجال الصحي، كما انتخب رئيسًا لمجلس الصندوق العالمي لمكافحة الإيدز والسل والملاريا في عام 2009.
ومُنِح في عام 2011 جائزة جيمي وروزالين كارتر للشؤون الإنسانية تقديرًا لإسهاماته في مجال الصحة العامة.
انتخب الدكتور تيدروس، مديرًا عامًّا لمنظمة الصحة العالمية لمدة خمس سنوات أثناء انعقاد جمعية الصحة العالمية السبعين في مايو 2017، وهو أول مدير عام للمنظمة تنتخبه جمعية الصحة العالمية من بين عدة مرشحين، وهو أول شخص من الدول الأفريقية التابعة للمنظمة يشغل هذا المنصب.
وبعد تقلده للمنصب في يوليو 2017، كشف عن أولويات المنظمة في عهده وهي: التغطية الصحية الشاملة؛ والطوارئ الصحية؛ وصحة المرأة والطفل والمراهق؛ والآثار الصحية للمناخ والتغير البيئي؛ وتحوّل المنظمة.
وفي نوفمبر الماضي تحدث مع مجلة “تايم” حول إحدى التجارب المحفزة التي مر بها في صغره، وهي وفاة شقيقه الصغير في عمر 4 سنوات، بسبب الحصبة، لم يكن تيدروس يعرف سبب الوفاة وقتها، لكنه لاحقًا عرف أن الحصبة هي التي قتلته، وعن ذلك قال: “لم أقبل ذلك، ولا أستطيع تقبله حتى الآن، من الظلم أن يموت طفل من مرض يمكن الوقاية منه لمجرد أنه وُلد في المكان الخطأ”.
وقال -أمام جمعية الصحة العالمية قبل فترة قصيرة من انتخابه رئيسًا لمنظمة الصحة العالمية- “يجب أن تؤدي جميع الطرق إلى تغطية صحية شاملة، تصل إلى الجميع، لن أرتاح حتى يحدث ذلك”.
بصفته وزيرًا في الحكومة منذ عام 2005، كان يُنظر إليه على أنه أكثر ودية، مقارنة برفاقه الأكثر تشددًا وصرامة، وتمت الإشادة بجهوده في إصلاح القطاع الصحي وتحسين فرص الحصول على الرعاية الصحية في إثيوبيا، الدولة الأفريقية الأكثر سكانًا بعد نيجيريا.
وظهرت خلال توليه منصب وزير الصحة في الحكومة الإثيوبية مزاعم تدعي أنه قام بالتغطية على الأعداد الحقيقية للمصابين بالكوليرا في البلاد، وخلال حملته الدعائية الناجحة لقيادة منظمة الصحة العالمية، رفض أنصار دكتور تيدروس هذه الادعاءات تمامًا.
خلال حملته عالية الكفاءة والنجاح في نهاية المطاف لقيادة منظمة الصحة العالمية، رفض أنصار الدكتور تيدروس الادعاءات بأنه قد غطى تفشي الكوليرا.
وتتميز شخصية الدكتور تيدروس بالقدرة على الإقناع والتفاوض الهادئ، ربما لخبرته السابقة كوزير وسياسي، فقد شغل منصب وزارة الخارجية في إثيوبيا، وهو يعلم جيدًا أن نجاح منظمة الصحة العالمية في معالجة الأزمات الصحية العالمية يعتمد على تعاون الدول الأعضاء في المنظمة البالغ عددها 194 دولة.
وهكذا خلال تفشي الإيبولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية، رأيناه يسافر إلى هناك عدة مرات، ليس فقط لرؤية الوضع ولكن أيضًا للتحدث مع قادة الحكومة، كما قام بسرعة بزيارة بكين عندما ظهرت أنباء عن تفشي الفيروس التاجي.
وتقول لورنس جوستين -أستاذة قانون الصحة العالمية بجامعة جورج تاون، والتي قادت حملة ضد تعيين تيدروس مديرًا لمنظمة الصحة العالمية- “إن استراتيجيته كانت إقناع الصين بالشفافية والتعاون الدولي بدلًا من توجيه الانتقادات”.
هل نجح تيدروس في مهمته!
انتقد بعض مراقبي منظمة الصحة العالمية المديح المليء بالحماس للصين بسبب تدابير احتواء فيروس “كوفيد-19″، حيث قال تيدروس -بعد رحلته إلى بكين- إن الصين وضعت “معيارًا جديدًا لمكافحة تفشي المرض”.
وبعد أيام قليلة، أخبر قادة العالم المجتمعين في مؤتمر ميونيخ الأمني أن تصرفات الصين “وفرت الوقت على العالم”، وهو الأمر الذي يتعارض مع المعلومات حول اعتقال الصين للعاملين بالقطاع الصحي الذين أثاروا الحديث عن خطورة الفيروس وإمكانية تفشيه.
تقول الدكتورة جوستين: “إنني قلقة إلى حدٍّ ما مِن أنّ مدحه المبالغ للصين يمكن أن يشوه على المدى الطويل سمعة منظمة الصحة العالمية كسلطة علمية موثوقة ومستعدة لقول الحقيقة”.
حسنًا، يقولون: إن هذا بسبب خلفية الدكتور تيدروس كسياسي، لكن المعارضين لأسلوبه يقولون: إن الكثير من هذا الجهد السياسي يُنفق في طمأنة الحكومات الاستبدادية غير الشفافة، في محاولة لجعلها تعمل مع منظمة الصحة العالمية لمعالجة الأمراض التي تهدد الصحة العالمية.
وبالنظر إلى كيف يمكن للحكومات في الديمقراطيات الغربية أن تقيم هذا الجهد، ندرك أن مهارات دكتور تيدروس السياسية بحاجة إلى النظر فيها.
ولنعد إلى الوراء قليلًا، فبعد فترة وجيزة من توليه منصبه ، اقترح اسم روبرت موجابي، رئيس زيمبابوي في ذلك الوقت، كسفير للنوايا الحسنة لمنظمة الصحة العالمية، قائلًا: إن “زيمبابوي دولة تضع التغطية الصحية الشاملة وتعزيز الصحة في صميم سياساتها”، لكن اقتراحه قوبل بغضب ليس من الحكومات فحسب، بل ومن جماعات حقوق الإنسان أيضًا التي لفتت إلى الحرمان الذي ألحقه نظام موجابي بشعبه، وتحت هذا الضغط سحب الدكتور تيدروس اقتراحه.
ومن الأمور التي أخذت عليه، هو تأخره في إعلان “كوفيد-19” كوباء، لكن البعض ومنهم كبار المسؤولين في منظمة الصحة العالمية، قالوا إنها كلمة واحدة فقط، وإعلانها لن يغير استراتيجية منظمة الصحة العالمية لاحتواء المرض.
ويرى بعض علماء الفيروسات والأوبئة، أن نصيحة منظمة الصحة العالمية للدول الأعضاء باعتماد تدابير احتواء “قوية وعدوانية” هو نوع من المبالغة في رد الفعل.
وهو انتقاد سبق وتعرضت له الدكتورة مارجريت تشان، بسبب رد الفعل المبالغ فيه تجاه تفشي أنفلونزا الخنازير عام 2010، والتي أُعلنت كوباء، وتم نصح الدول بإنفاق الملايين على الأدوية التي لم تكن بحاجة إليها في النهاية.
تعتقد البروفيسور جوستين أن الدكتور تيدروس أصبح “رمزًا للقيادة” في أزمة الفيروس التاجي، لكن ورغم ذلك فإن سفينته ضعيفة إلى حد ما، فنقاط الضعف الأساسية لدى منظمة الصحة العالمية لا تزال موجودة، بما في ذلك التمويل الهزيل.
بالطبع، لا يمكن الآن إصدار حكم على نجاح الدكتور تيدروس، ومنظمة الصحة العالمية ككل، في معالجة أزمة “كوفيد-19” إلا بعد أن تنتهي الأزمة، وحتى الآن سيستمر الدكتور في تقديم النصائح والمشورة للدول للاستعداد والتشخيص والتتبع والاحتواء.
أما من جهته، فيرى دكتور تيدروس أن النتيجة الإجابية الوحيدة لفيروس كورونا حتى الآن، هو أنه ذكّرنا كيف تتجمع الشعوب في وقت الأزمات، وقال: إن التضامن العالمي في مواجهة هذا التهديد المشترك هو السبيل الوحيد للتغلب عليه، وأن التزام دور مجموعة العشرين بالعمل معًا، لزيادة إنتاج وتورد المنتجات الأساسية يظهر أن العالم يمكن أن يتعاون معًا.
وأضاف: “كوفيد-19″ ذكرنا بمدى ضعفنا ومدى ارتباطنا واعتمادنا على بعضنا البعض”.
قائد مرن
اختارته مجلة “ويرد” الأمريكية ضمن 50 شخصا سوف يغيرون العالم عام 2012، وذلك تقديرا لاستخدامه حلولا مبتكرة لدعم القطاع الصحي في إثيوبيا، حيث استثمر في العاملين بالقطاع الصحي، ومكن نساء بلاده من الوصول بشكل أفضل لبرامج تنظيم الأسرة، كما قدمت لقاحات لعلاج الأمراض القانلة مثل الملاريا لملايين الأطفال، ما خفض معدل وفيات الأطفال في إثيوبيا إلى 28%.
وفي عام 2015، صنفته مجلة “نيو أفريكان” البريطانية واحدا من أكثر 100 أفريقي نفوذاً لعام 2015 في فئة السياسة والخدمة العامة، ووصفته بالقائد الذي وضع الناس في صميم سياساته.
وخلال توليه وزارة الخارجية في إثيوبيا، جلس على طاولة المفاوضات مع مصرخلال مباحثات سد النهضة، واتسمت مواقفه إلى حد بالمرونة، وهو ما دفع مصر إلى إعلان تأييدها له عند ترشحه لمنصب مدير منظمة الصحة العالمية عام 2017.
ونشر تيدروس عند بداية تفشي فيروس كورونا، مقطع فيديو خلال مشاركته في تحدى الأيدي النظيفة “Safe Hands Challenge”، بهدف تشجيع الناس على المشاركة في التحدى والمحافظة على النظافة الشخصية لتجنب الإصابة بالفيروس، ورشح عبر تغريدة على تويتر عدد من قادة وزعماء العالم للمشاركة في التحدى ليكونوا قدوة لشعوبهم.
وقال مدير منظمة الصحة العالمية، “أرشح الرئيس عبد الفتاح السيسي، والبابا فرنسيس بابا الفاتيكان، ورئيس وزراء سنغافورة لي هسين لونج، وشينزو آبي رئيس وزراء اليابان، ووزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، وميما موتلي رئيسة وزراء باربادوس، ورئيس السلفادور نجيب أبو كيلة، لمواجهة تحدى SafeHands، ومشاركة مقاطع الفيديو الخاصة بهم والاتصال بـ3 أشخاص آخرين على الأقل للانضمام إلينا.. معًا ضد COVID19”.
وهو من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، خيث يتابعه علىف يسبوك مليون و16 الأف متابع، بينما يتابعه عبر تويتر نصف مليون متابع، فهو يحب التواصل مع الناس بشكل دائم، وبعيدا عن الدوائر الرسمية.