بقلم – أماني ربيع
لأول مرة تجتمع في متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك مقتنيات تعود للحضارة المصرية القديمة، وأخرى من أفريقيا جنوب الصحراء في معرض فريد من نوعه بعنوان “الأصل الأفريقي للحضارة”، والذي يعتبر نوعًا من الاعتراف الصريح بأن أفريقيا منبع الحضارة والثقافة الإنسانية.
يضم المعرض 42 منحوتة في إحدى صالات العرض المصرية في متروبوليتان، ولأول مرة هنا، نشاهد قطعًا من مقتنيات مصر القديمة، جنبًا إلى جنب مع أفريقيا جنوب الصحراء، حتى لو كانت تفصل بينهم قرون، فأقدم عمل معروض من جنوب الصحراء الكبرى يعود للقرن الثالث عشر.
أفريقيا الأصل
وقال متحف متروبوليتان -في بيان نشره عبر موقعه الإلكتروني حول المعرض- “يعترف العلماء اليوم بأن أفريقيا هي أصل أسلافنا المشترك، وفي عام 1974، صدم الباحث السنغالي الشيخ أنتا ديوب المؤرخين وتحداهم بتأكيده على تأثير الحضارات الأفريقية القديمة في كتابه الرائد «الأصل الأفريقي للحضارة: أسطورة أم حقيقة»، يكرم هذا المعرض ديوب بتقديم روائع من مجموعات المتحف من غرب ووسط أفريقيا إلى جانب فن من مصر القديمة لأول مرة في تاريخ متروبوليتان”.
وأضاف البيان: “من خلال واحد وعشرين زوجًا من الأعمال من مختلف الثقافات والعصور الأفريقية، يوفر هذا المعرض فرصة نادرة لتقدير الإبداع الاستثنائي للقارة عبر خمسة آلاف عام ، ويكشف عن أوجه تشابه وتناقضات غير متوقعة، على الرغم من عدم وجود اتصال بين المبدعين، إلا أن الأعمال تشترك في تواريخ عميقة وغير معترف بها”.
وتابع: “سيبقى الأصل الأفريقي للحضارة معروضًا بينما يتم إغلاق صالات عرض متروبوليتان للفنون الإفريقية جنوب الصحراء الكبرى للتجديد الكامل لجناح Michael C. Rockefeller Wing. من المتوقع إعادة افتتاح الجناح المعاد تصوره في عام 2024، وسيضم ثلاثة أجنحة متميزة من صالات العرض للفنون الأفريقية جنوب الصحراء، والفن الأمريكي القديم ، والفن المحيطي.
ولفت المتحف إلى مبادرته بتقديم أعمال مختارة من غرب ووسط أفريقيا في صالات العرض في جميع أنحاء المتحف ، مما يكشف عن روابط مفاجئة بين الأعمال الفنية من ثقافات مختلفة. التركيبات الأربعة الأولى معروضة في صالات العرض الخاصة بفن الشرق الأدنى القديم (معرض 403) والفن اليوناني والروماني (معرض 154) وفن العصور الوسطى (معرض 304) واللوحات الأوروبية (معرض 601). من المقرر أن تظهر التركيبات الجديدة في وقت لاحق من الشتاء والربيع.
ويأتي المعرض في وقت يخضع فيه تاريخ الفن الأفريقي في المتاحف الغربية للتدقيق حيث تثار التساؤلات حول كيف وصلت القطع الفنية الأفريقية إلى هناك وكيف تم التعامل معها.
عادة ما يتم تثبيت مقتنيات متروبوليتان من القارة الأفريقية في قسمين متباعدين بعيدًا بالمعنى الحرفي، على طرفي نقيض ما يعكس الفروق الغربية القديمة والعنصرية بين الثقافة “العالية” التي تمثلها مصر، والثقافة “البدائية” التي تمثلها معظم باقي أفريقيا، لذا يقدم العرض ما يُشبه بادرة توحيد.
يتزامن المعرض أيضًا مع وقت يزداد في الوعي الدولي حول الاستعمار الغربي في أفريقيا، والتاريخ الدموي لكثير من المجموعات الفنية في القارة، وفي بعض البلدان الأوروبية – بلجيكا وفرنسا وألمانيا – يجري العمل على محاولات لتعويض الدول الأفريقية عن هذه السرقات الفنية التي استغلت الأوضاع المضطربة في القارة، وفقا لـ “نيويورك تايمز”.
أعادت المتروبوليتان نفسه مؤخرًا، اثنين من العديد من منحوتات بنين ضمن مقتنياتها إلى نيجيريا، ومع ذلك، لا يوجد في العرض تقريبًا أي ذكر صريح لهذا الأمر.
فالأمر سيحتاج نوعا إلى تسييس فن السرد التاريخي، والحديث حول الاستعمار، وحول كيفية نقل هذا الفن، هل عن طريق العدوان أو الاتفاق، ولا توجد طريقة أخلاقية ، على سبيل المثال ، يمكنها تلطيف رواية عن الاحتلال العسكري البريطاني لبنين في القرن التاسع عشر، ووحشيته ونهبة لكنوزها الفنية من مجموعة المنحوتات البرونزية الشهيرة.
الفنون الأفريقية ليست بدائية
نظم المعرض، أليسا لاجاما، المنسقة المسؤولة عن قسم الفنون في أفريقيا وأوقيانوسيا والأمريكتين، وديانا كريج باتش، المنسقة المسؤولة عن قسم الفن المصري، بشكل يعطي تاريخًا مختلفًا وأصغرًا عن المقتنيات الفنية من أفريقيا، والتغييرات في الإدراك الثقافي والجمالي الذي ينطوي عليه هذا التاريخ.
لطالما أعجب مؤسسو متحف متروبوليتان بالفن المصري القديم، وبالنسبة لهم، لم يكن أي فن آخر من أفريقيا تقريبًا يسمى “فنًا”، وكان عادة ما تذهب المقتنيات الأفريقية إلى المتحف الأمريكي للتاريخ الطبيعي في سنترال بارك.
لم يتجل التغيير في الموقف المؤسسي إلا في أواخر الستينيات عندما بدأ متروبوليتان في الحصول على مجموعة Nelson A. Rockefeller’s Museum of Primitive Art ، وفي عام 1982، قام ببناء جناح للاحتفاظ بها.
حاول منظمو المعرض استثمار مقتنيات المتحف في تقديم فن أفريقيا والترويج له، ليتضمن مجموعة مختارة من أكثر المجموعات الأفريقية نجاحا ضمن المقتنيات التي يتولون مسؤوليتها، لنجد كتفا إلى كتف أزواج متباينة من المنحوتات التي تعبر عن ثراء القارة الأفريقية الثقافي واختلاف الرؤى الفنية بين الحضارة المصرية القديمة وأفريقيا جنوب الصحراء.
تحت عنوان “الاقتران الأساسي” ، يوجد تمثالان من نفس الحجم تقريبًا، يبلغ ارتفاعهما نحو ثلاثة أقدام، ويفصل بينهما آلاف السنين، حيث نرى نحت مصري بارز من الحجر الجيري ، يعود تاريخه إلى ما بين 2575-2465 قبل الميلاد، النحت يمثل رجل وامرأة يُدعيان “ميمي وسابو” ينظران للأمام كما لو كانا متجمدين لالتقاط صورة.
وإلى جانب “ميمي وسابو”، يقبع النحت الثاني، “زوجان جالسان” من مالي، الذي تم نحته من كتلة واحدة من الخشب بواسطة فنان دوجون في مالي في القرن الثامن عشر أو أوائل القرن التاسع عشر.
وبالمقارنة بين التمثالين نرى الموازنة الهرمية للحجم على أساس الجنس، وكيف تتساوى الأشكال تقريبا في الارتفاع مع ملامح بها الكثير من الدقة الرياضية، كما يظهر أيضا من خلال نحت “زوجان جالسان” من مالي السمات التي تحدد أدوارهما في الحياة: جعبة السهام المثبتة على ظهر الرجل والطفل الذي تحمله المرأة.
في متروبوليتان، كانت هناك معايير معينة لجمال النحت تم من خلال التقليد الغربي “الكلاسيكي”، ومن هذا المنطلق تم تكريم فن مصر القديمة بشكل مشرف، بينما تعرضت فنون أخرى للتعبئة على أنها صورة للفن البدائي، لكن عندما ترى المنحوتتين متجاورتين يمكن أن ترى فنا يعبر عن الاختلاف وفقا للبيئة التي نبع منها هذا الفن.
ولا يحاول القيمون على المعرض إثبات أن فن مصر القديمة كان مصدرًا مباشرًا لفن القرنين التاسع عشر والعشرين من غانا أو مالي أو السودان.
يتجاور في المعرض أيضا شخصية شبيهة بقبضة اليد لشبل أسد ، محفورة ومقتطعة من الكوارتزيت الأبيض صنعت في أوائل عصر الأسرات في مصر، وتعبر عن التعاطف بين الإنسان والحيوان، ونمر إيدو النحاسي الأنيق، المصبوب في مشغل بلاط بنين في ما يعرف الآن بنيجيريا ويعود تاريخه إلى الفترة (1550 إلى 1680).
أيضا يمكن مشاهدة تمثال لجسم قوي على شكل فرس النهر يعود إلى النصف الأول من القرن العشرين في مالي يشبه القنبلة اليدوية، وفي نفس الواجهة الزجاجية تمثال فرس النهر الصغير الذي صُنع في المملكة الوسطى في مصر، وقد عُرف باسم “ويليام” لأجيال من زوار ميتروبوليتان.
وتحت فئة “الوسائد الرائعة”، تجد مسند رأس مصري من المرمر، مضيء مثل زهرة اللوتس، مصنوع للنوم الأبدي ، ومسند خشبي من القرن التاسع عشر من جمهورية الكونغو الديمقراطية مصمم لحماية تسريحة شعر المرأة النائمة، ويُعرف الفنان الذي نحتها باسم Master of the Cascade Coiffure.
كذلك توجد قلادة عاجية من القرن السادس عشر، والتي تعد أيقونة جناح روكفلر، تصور الأم والمستشار الرئيسي لملك بنين، ووجه رجل عجوز ذو ندوب لرجل مسن بشفتين مقلوبتين وعينين ثقيلتين للملك المصري سنوسرت الثالث.
تعزيز الروابط عبر الثقافات والعصور
من الناحية الفنية ، يمتد المعرض إلى المتحف الأكبر، حيث يتواجد الفن الأفريقي بشكل متناثر في صالات العرض المختلفة بمتروبوليتان، حيث يمكن مشاهدة شخصية كونغو قوية العينين المكرسة لمطاردة الشر في صالات العرض اليونانية والرومانية، ومجموعة من الصلبان الإثيوبية في قاعة العصور الوسطى، وفي الطابق العلوي حيث صالات عرض اللوحات الأوروبية، يقف تمثال من مالي منحوت من الخشب ، يُشار إليه باسم “جواندانسو” ، بالقرب من لوحة جوسيبي دي ريبيرا الضخمة عام 1648 لـ “العائلة المقدسة مع القديسين آن وكاترين من الإسكندرية”.
يعد إلقاء الضوء على الثقافات المهمشة ومنحها فرصة الظهور بجانب الثقافات الأخرى الشهيرة أمرا مهما، ويعطي مفهوم الجمال أبعادا أكثر تعددية فلا يبدو بعد ذلك وجود منحوتة من مالي بجانب تمثال أغريقي أمرا غريبا، هذا أمر يحث على تقبل الاختلاف وعدم تحويل الفن إلى مجرد صورة مقولبة لمجموعة من الفنانين يقلدون أحدهم الآخر، كما يعزز الروابط عبر الثقافات والعصور.
ومن هذا المنطلق يعد معرض “الأصل الأفريقي للحضارة” حدث له قيمة، ولكن الأمر أيضا أكبر من إعادة تصميم جناح “مايكل سي روكفلر” وإعادة ترتيبه قلابد من إعادة التفكير من الناحية المفاهيمية ولن تكون هذه مهمة سهلة بالنسبة لمتحف متروبوليتان الذي يعج مثل جميع المتحاف الغربية التقليدية الكبيرة محافظا للغاية.