بقلم د/ نرمين توفيق
باحثة في الشئون الأفريقية والمنسق العام لمركز فاروس
أعلن قصر الإليزيه الأسبوع الماضي عن استعداد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للقيام بزيارة دولة مالي الإثنين المقبل، وأنها ستستمر لمدة يومين، وجاءت أسباب الزيارة وفقا للبيان المعلن أنها تستهدف لقاء ماكرون بالرئيس الانتقالي لمالي الكولونيل أسيمي جويتا، والاحتفال بعيد الميلاد مع الجنود الفرنسيين الموجودين بقاعدة جاو بوسط مالي، لكن سريعا وبعد يومين من الإعلان عن الزيارة صدر تصريح آخر بإلغائها قبل الموعد المقرر بأيام قليلة، متعللين بكورونا وأن هذا القرار اتُّخذ حرصا على التوفيق بين الإجراءات المعلنة على المستوى الوطني وجدول الأعمال الدولي للرئيس، وحرصا على عدم تعريض العسكريين للخطر في فترة تدهور الوضع الوبائي.
هذه الزيارة التي كانت مقررة تحمل العديد من الدلالات في الوقت الحالي، علما بأنها ليست الزيارة الأولى التي يقوم بها ماكرون إلى مالي، فقد سبق أن زارها عام 2017 وكانت أول زيارة خارجية له بعد توليه مهام رئاسة فرنسا لتؤكد على أهمية مالي في السياسة الخارجية الفرنسية.
- توتر بين فرنسا والحكومة الانتقالية بمالي
إذا ما نظرنا للتوقيت الحالي وطبيعة العلاقات بين باريس وبماكو يتضح أنه توقيت مفصلي تسود فيه حالة من التوتر بين البلدين، فلطالما اعتبرت فرنسا المسئولين الماليين حلفاء استراتيجيين لها، إلا أن الموقف الفرنسي تغير بعد الأحداث التي وقعت في مالي، وبالتحديد بعد الانقلابين اللذين تعرضت لهما مالي مؤخرا، الانقلاب الأول كان في أغسطس 2020، والثاني في مايو 2021، حيث رفضت فرنسا الانقلاب، وأعلنت تعليق العلميات المشتركة مع القوات المالية، خصوصا مع العلاقات التي ربطت بين قادة الانقلاب وروسيا؛ وتدريب عدد منهم في موسكو، وأعلن ماكرون في يونيو الماضي مغادرة الجنود الفرنسيين المشاركين في مهمة “برخان لمكافحة الإرهابية” والموجودين في مالي منذ 2013 لقواعدهم العسكرية في شمال مالي في تمبكتو وكيدال وتيساليت، والسعي لتخفيض عدد الجنود الفرنسيين من 5000 جندي إلى 2500 أي إلى النصف، وبدأت فرنسا بالفعل تنفيذ سحب قوتها وإعادة تموضعهم في مالي، وهو الأمر الذي انتقده المسئولون في مالي بشدة، واتهموا فرنسا بأنها تتخلى عنهم وتتركهم للإرهابيين، وجعلت هذه التغيرات العلاقة تسوء بشدة بين قصر الإليزيه وبين الحكومة الانتقالية في مالي.
- سعي روسيا لتحل محل فرنسا.. وفاجنر إلى الواجهة
التداعيات السابقة جعلت قادة الانقلاب في مالي يلجأون لروسيا، الذين تربطهم بها علاقات جيدة لأنهم تدربوا بها، وموسكو بدورها وجدت الفرصة سانحة لها لتحل محل فرنسا في التواجد في مالي، في ضوء سعي حكومة روسيا إلى تعزيز تواجدها السياسي والعسكري في الدول الأفريقية وعدم الاكتفاء بالنواحي الاقتصادية فقط.
ليس هذا فحسب بل ظهر جليا دور شركة الأمن الروسية الخاصة “فاجنر” والتي اعتمدت عليها القيادات الانتقالية في مالي لتأمينهم، ودفعوا لها ملايين الدولارات مقابل حمايتهم، وفي ذات الوقت سد الفراغ الذي سينجم عن سحب فرنسا عددا من قواتها المتواجدة بمالي، في منطقة تعاني من نشاط الحركات الإرهابية سواء المنتمية إلى داعش أو القاعدة، بدورها حذرت فرنسا علانية من أنها لا تقبل نشر “مرتزقة” روس في منطقة الساحل الأفريقي.
- لقاء ماكرون وجويتا (الذي كان مرتقبا)
نعود مرة أخرى للحديث عن اللقاء الذي تم إلغاؤه بين ماكرون والرئيس الانتقالي المالي الكولونيل جويتا حيث كان سيعد اللقاء هو الأول بينهما منذ تولي الأخير رئاسة مالي، وأشار المراقبون أن ماكرون في لقائه جويتا سيسعى إلى زعزعة علاقته وعلاقات قادته مع موسكو وفاجنر، وأن فرنسا من المحتمل أن تقلل من موقفها المتشدد من قادة الانقلاب بمالي حتى لا تعطي الفرصة لروسيا لتمدد في دول الساحل التي تعتبرها فرنسا منطقة نفوذ لها لن تتخلى عنها بسهولة، وأنها حينما أعلنت عن سحب قواتها من مالي وتقليص عددهم كانت تهدف بشكل أساسي للضغط على قادة الانقلاب لتقليص علاقتهم مع روسيا، إلا أن المشهد لم يسر وفق الرؤية الفرنسية.
- هل كورونا سبب إلغاء الزيارة فعلا؟
يبدو أن الترتيبات التي كانت تسعى لها باريس في لقاء ماكرون وجويتا لم تحدث، وربما وصل إلى باريس أن الحكومة الحالية لمالي لن تقبل بضغوط فرنسا بخصوص خلخلة العلاقات مع موسكو، بالإضافة إلى أن الرأي العام الداخلي في مالي تسوده حالة من الاستياء من فرنسا، وهذه الأمور هي التي دفعت ماكرون لإلغاء الزيارة أو تأجليها، خاصة وأن مالي لا تعتبر من الدول التي تعاني من وضع وبائي متدهور بخصوص كورونا أو بخصوص متحور أوميكرون، وهنا فإن التفسير يدفعنا مرة أخرى إلى التوتر الموجود بين فرنسا من جهة والقيادات الانتقالية بمالي وعلاقتهم بروسيا من جهة أخرى.
- تكرار سيناريو التنافس الفرنسي الروسي في دول أفريقية أخرى
ليست هذه هي الحالة الوحيدة في أفريقيا التي تشهد تنافسا فرنسيا روسيا، فأفريقيا الوسطى شهدت بوضوح حالة التنافس الفرنسي الروسي؛ حيث ذكرت التقارير أن روسيا أ{سلت 300 خبير عسكري إلى العاصمة بانجي لدعم الرئيس الحالي أرشانج تواديرا، خاصة أنه دخل في سلسلة اتفاقات عسكرية مع موسكو، كما أنه قام بتعيين مستشارين عسكريين روس في الجيش، ويتخذ من عناصر روسية أفرادا للحراسة الشخصية له، وهناك اتهامات بوجود عناصر من مرتزقة شركة فاجنر الروسية، وفي المقابل تم اتهام فرنسا بمحاولة دعم الرئيس الأسبق فرانسوا بوزيزي والمليشيات التي تسانده.
ختاما:
تجسد التطورات الأخيرة في مالي بوضوح حالة التنافس الفرنسي الروسي في أفريقيا، وأن فرنسا لن تتخلى بسهولة عن أماكن نفوذها في أفريقيا، وتحديدا في منطقة غرب أفريقيا، وفي المقابل فإن روسيا هي الأخرى لن تستسلم للتحركات الفرنسية بسهولة، وستسعى للتمدد أكثر وأكثر في أفريقيا، خصوصا بعد العوائد والمنافع التي تعود عليها وعلى شركتها الخاصة “فاجنر”، وهذا يستدعي من الدول الأفريقية أن تكون على علم بهذه التحركات؛ وأن الدول الكبرى لا تتحرك إلا لتحقيق مصالحها الخاصة، وفي ذات الوقت يجب على الدول الأفريقية تقوية جيوشها وقواتها الوطنية حتى لا تضطر للاعتماد على قوات أجنبية تسير وفق أجندات دول أخرى.