كتب. محمد الدابولي
شهدت ليبيا على مدار الشهور الماضية تطورات ميدانية عسكرية ألقت بظلالها على أطر التسوية السلمية للحرب الأهلية الدائرة في البلاد منذ عام 2014 وإلي اليوم، وجاءت تلك التطورات الميدانية على خليفة دعم لامحدود من النظام التركي لأحد طرفي الصراع الليبي، إذ قدمت أنقرة تسهيلات ومساعدات عسكرية ضخمة إلي حكومة الوفاق وميليشياتها التي تسيطر على العاصمة طرابلس.
شملت مساعدات أنقرة العديد من المسارات منها السياسي والعسكري، فعلي سبيل المثال زودت ميليشيات الوفاق والتي تصننف كميليشيات إرهابية في العديد من الدول العربية بالأسلحة والمعدات العسكرية منتهكة بذلك قرارات مجلس الأمن الدولي بحظر تصدير السلاح إلي ليبيا كما طعمت الميليشيات الإرهابية في ليبيا بالعديد من المرتزقة الذين تم جلبهم من شمال سوريا وتم إعادة توظيفهم عسكريا في ليبيا.
وأما على المسار السياسي فقد اتخذ العديد من الأشكال، منها توفير الغطاء الدبلوماسي لفائز السراج رئيس حكومة الوفاق والحرص على دعم موقفه السياسي في العديد من المؤتمرات الدولية خاصة مؤتمرات موسكو وبرلين والجزائر وأخيرا دعم الوفاق في رفضها لإعلان القاهرة الذي صدر لأجل تهدئة الأوضاع السياسية وإعادة تفعيل الحل السلمي.
لم تخف تركيا حقيقة أهدافها في ليبيا، فمنذ الوهلة الأولى كشفت أنقرة النقاب عن غايتها الحقيقية للتدخل في ليبيا، حيث أبرمت العديد من الاتفاقيات الاقتصادية مع حكومة الوفاق أبرزها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين في نوفمبر 2019، والعديد من اتفاقيات اعادة الاعمار وإعادة تشغيل مرافئ الطاقة المتعطلة في البلاد جراء الحرب الأهلية.
تطورات التدخل التركي في ليبيا لا يمكن فصلها عن سياقها الإقليمي والقاري، فليبيا تعد همزة وصل للعديد من الملفات الجيوسياسية التي تحاول السياسية التركية الهيمنة عليها، فليبيا بمثابة باب المغارة التي سيحاول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فتحه لاستغلال ثرواتها، لذا في السطور القادمة سيتم استعراض مسارات التدخل التركي في ليبيا والمآلات التي ستترتب على ذلك.
أولا. مسارات التدخل التركي في ليبيا
اتخذ التدخل التركي في الشأن الليبي مسارين متصلين أحدهما سياسي والأخر عسكري، فعلي المسار السياسي يمكن التفريق بين مرحلتين الأولي اتسمت بالتدخل الغير مباشر عبر دعم حزب العدالة والتنمية التركي للجماعات المنتمية لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، وفتح الأراضي التركية لتكون منصة لتحركات العناصر الموالية للإخوان في ليبيا.
فعلي سبيل المثال وفرت تركيا الإقامة الكاملة على أراضيها لعبد الحكيم بلحاج أحد عناصر الجماعة الليبية المقاتلة وهي جماعة متشددة قاتلت نظام القذافي والتحق أفرادها وعلي رأسهم بلحاج إلي تنظيم القاعدة في أفغانستان، كما تشير العديد من الوثائق التاريخية أن تركيا كانت محط تنقلات الجماعة الليبية المقاتلة خلال نهاية الثمانيات وأوائل التسعينيات([i])، وبالإضافة إلى توفير إقامات للعناصر الليبية المصنفة إرهابيا وفرت تركيا الزخم الإعلامي المناسب للجماعات والميليشيات المسلحة والمتطرفة في ليبيا.
شيئا فشيئا تعاظم الاهتمام التركي بليبيا خاصة مع تعقد أزمة شرق المتوسط بين كل من مصر واليونان وقبرص من جهة وتركيا قبرص الشمالية من جهة أخري، الأمر الذي دفع أنقرة في نوفمبر 2019 إلي توقيع اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع طرابلس، وهو الاتفاق الذي مازال يثير الجدل حول مدي الأهلية القانوية لحكومة الوفاق الليبية في التوقيع على الاتفاقيات خاصة أنها لم تحظى بثقة مجلس النواب الليبي كما نص اتفاق الصخيرات عام 2015، وأيضا حول جور الاتفاق الموقع على الحقوق اليونانية والمتثملة في المياه الاقتصادية لجزيرة كريت اليونانية.
يمكن القول أن مسألة ترسيم الحدود البحرية في منطقة شرق المتوسط هي الدافع الأساسي لإيلاء صانع القرار التركي أهمية قصوى للشأن الليبي، فكما نعلم أن تركيا تحاول الاستحواذ والهيمنة على مكامن الغاز الغير مكتشفة في منطقة شرق المتوسط والتي قالت عنها هيئة المسوح الجيولوجية الأمريكية بأنها تحوي على أكثر من 122 تريليون قدم من الغاز على أقل تقدير، و227 تريليون قدم على أقصي تقدير.
لذا أرادت أنقرة خلط الأوراق وتعقيد الأزمة في شرق المتوسط من خلال إبرام اتفاقية ترسيم حدود بحرية بينها وبين ليبيا (حكومة الوفاق) ينتج عنها زيادة المساحة البحرية المخصصة لتركيا وتقليص المساحة البحرية المخصصة لكلا من اليونان وقبرص.
والأهم من ذلك أن توقيع الاتفاقية جاء كمحاولة استبقاية تركية لقطع الطريق أمام تدشين خط غاز «إيست ميد» الذي سيمتد عبر أنابيب تحت سطح البحر من إسرائيل إلي قبرص ثم اليونان وأخيرا إيطاليا، فالاتفاقية الليبية التركية سيتم استغلالها من الجانب التركي لأجل منع إقامة خط الأنابيب المزمع والذي من المفترض النتهاء منه بحلول عام 2025.
ترافقت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع اتفاقية أخرى بين الجانبين، شملت جوانب أمنية وعسكرية وسمحت بالتدخلات التركية العسكرية في الشأن الليبي، فمنذ اللحظة الأولي لتوقيع الاتفاقية الأمنية والعسكرية، خرقت تركيا قرارات الأمم المتحدة وقرار مجلس الأمن رقم 1970 الذي حظر توريد السلاح إلي ليبيا، و تنوعت التدخلات العسكرية التركية في الشأن الليبي ما بيبن:
- ارسال المرتزقة إلي ليبيا:
خلال سنوات الأزمة السورية تمكنت أنقرة من تشكيل ميليشيات سورية موالية لها تخدم السياسة التركية وتجلى ذلك في العديد من العمليات العسكرية التركية في الشمال السوري مثل عمليات درع الفرات ونبع السلام وغصن الزيتون وأخيرا درع الربيع، فخلال تلك العمليات استعان الجيش التركي بالميليشيات السورية في بسط نفوذه وسيطرته على مناطق الشمال السوري.
وبات من الواضح أنه منذ توقيع الاتفاقية الأمنية والعسكرية سيتم الاستعانة بتلك الميليشيات في الميدان الليبي تحت مسمى مستشارون عسكريون أو بالأحرى مرتزقة تم جلبهم من الشمال السوري للقتال تحت لواء ميليشيات الوفاق، وفي هذا الصدد يشير المرصد السوري لحقوق الانسان أن نحو 11 ألف مرتزق تم جلبهم من سوريا للقتال في ليبيا قتل منهم حوالي 261 شخص.
- تزويد ميليشيات الوفاق بالطائرات المسيرة: من صور خرق القرار الأممي رقم 1970 ألا وهو تزويد ميليشيات الوفاق بالطائرات المسيرة التركية من النوع «بيرقدار» مما أدي إلى تغير ميزان القوى العسكرية في ليبيا لصالح الميليشيات بعض الشئ.
- دعم الميليشيات بأحدث المعدات العسكرية: تشيرالعديد من المصادر الليبية إلي استخدام تركيا لطائراتها من نوع إف – 16 في شن الهجمات على مواقع الجيش الليبي، فيما تقوم الزوارق الحربية التركية والمتركزة في البحر المتوسط بقصف تمركزات الجيش الليبي([ii]).
كما أكد فريق الأمم المتحدة المعني بمراجعة امتثال الأطراف الدولية لقرار حظر تصدير السلاح إلي ليبيا قيام تركيا خلال الفترة الممتدة ما بين شهري يناير وإبريل بارسال سفينتين حربيتين إلي طرابلس كما تم إرسال سفن نقل حاويات تضم مركبات مدرعة ومنظومة صواريخ دفاع جوي من طراز كوركوت، فضلا عن رصد العديد من طائرات الشحن والنقل التي تشحن الأسلحة من تركيا إلي ليبيا([iii]).
- تقديم الاستشارات العسكرية: في جلسة مجلس الأمن القومي التركي يوم 2يونيو 2020برئاسة رجب طيب أردوغان أكد بيان المجلس استمرار تركيا في تقديم الاستشارات العسكرية إلي حكومة الوفاق([iv])، وجديرا بالذكر أن شركة «سادات» الأمنية التركية هي من تتولي مسألة تقديم تلك الاستشارات العسكرية إلي ميليشيات الوفاق، وتشير العديد من المصادر الدولية مثل مركز ستوكهولم إلي أن شركة سادات تتولي تدريب ميليشيات الوفاق بالإضافة إلي تسهيل عملية انتقال المقاتلين المرتزقة إلي الداخل الليبي([v]).
بات من الواضح أن التدخل العسكري التركي في ليبيا بصوره الأربعة السابقة ومن خلفه التأييد السياسي لميليشيات الوفاق وحكومة السراج أدت إلي تقوية شوكة الميليشيات المصنفة إرهابيا وهو ما ظهر في نتائج العمليات الأخيرة سواء في قاعدة الوطية الجوية أو مدينة ترهونة التي استولت عليها الميليشيات الإرهابية.
إلا أنه بتقييم الوضع العسكري في ليبيا نجد تقدم الميلشيات ما هو إلا تقدم رمزي وليس بالنصر الكبير الكاسح، فكلا الطرفين الجيش الوطني الليبي وميليشيات الوفاق عادا إلى تمركز ماقبل إبريل 2019[vi] باستثناء مدينة سرت التي حررها الجيش مطلع العام الحالي ومازال يقاتل لأجل الحفاظ عليها والحيلولة دون سقوطها في يد الميليشيات.
ثانيا. مآلات ودوافع التدخل التركي في ليبيا
ستحمل التدخلات التركية في الشأن الداخلي الليبي العديد من المآلات والدوافع السياسية والاقتصادية، وسيمتد تأثيرها إلي الإطار الإقليمي لليبيا سواء القارة الأفريقية أو منطقة شرق البحر المتوسط، ناهيك عن التأثيرات الداخلية في المجتمع الليبي، ومن أبرز تلك المآلات:
- تعقيد أزمة شرق المتوسط:
تتسارعالأحداث بشكلكبير في منطقة شرق المتوسط علي خلفية التحركات التركية في ليبيا وإصرارها على امتلاك قاعدتين في طرابلس ومصراتة[vii] الأمر الذي سيعزز من التواجد العسكري في شرق البحر المتوسط، فمن المحتمل أن تشكل قاعدتي طرابلس ومصراتة بالإضافة إلي القاعدة في شمال قبرص فكي كماشة تركية للسيطرة على منطقة شرق المتوسط الغنية باحتياطات الغاز الطبيعي، أي أن تركيا ترغب في تحويل الساحل الليبي إلي مخلب قط لها في المنطقة.
- تصعيد الصراع السياسي بين مصر وتركيا:
تشهد العلاقات المصرية التركية تأزما كبيرا على خلفية دعم تركيا لجماعة الإخوان المصنفة إرهابيا، لذا فتعزيز الوجود العسكري التركي في ليبيا من شأنه إثارة المخاوف المصرية من احتمالية دفع الجماعات الإرهابية إلي التمركز على الحدود الغربية المصرية واستهداف الأمن القومي المصري.
- السيطرة على عقود إعادة الإعمار:
عادة ما يعقب أي صراع أهلي في أي دولة من الدول تسابقا محموما من الدول الكبرى من أجل الظفر بعقود إعادة الإعمار، وهو ما تسعي إليه تركيا حاليا في ليبيا، فالبلاد في حالة حرب أهلية قراية عقد من الزمان تدمرت خلالها البنية التحتية الليبية، لذا تسعي أنقرة للتحكم والسيطرة على عقود إعادة الإعمار في ليبيا، فعلي سبيل المثال أبرمت عقود إنشاء الطريق الساحلي في طرابلس، فضلا عن ذلك تحاول تركيا تعويض الخسائر الاقتصادية التي منيت بها عقب الإطاحة بنظام القذافي إذ يشير رئيس نقابة المقاولين في تركيا مدحت ينغين أن ثمة 25 ألف عامل تركي كانوا يعملون في مجالات البنية التحتية قبل الثورة الليبية في عام 2011، لذا ينتظر أردوغان جني مئات المليارات من الدولارات نتيجة الاستحواذ على عقود إعادة الإعمار في ليبيا وتشير بعض التقديرات إلي من المحتمل أن تصل قيمة تلك العقود إلي 120 مليار دولار.([viii])
- السيطرة علي موارد الطاقة الليبية: تسعي تركيا من خلال دعم ميليشيات الوفاق إلي الاستحواذ والسيطرة على موارد الطاقة الليبية، ويتضح ذلك من الموقف التركي الرافض للاعلان القاهرة لوقف القتال بين الأطراف الليبية ودفع ميليشيات الوفاق إلي احتلال سرت ومن بعدها منطقة الهلال النفطي الذي يحوي على 80% من إجمال النفط الليبي.
- الزحف الحثيث نحو منطقة الساحل: قد تستغل تركيا تواجدها في ليبيا من أجل الولوج إلي منطقة الساحل والصحراء، والتأثير على مجريات الأمور به، خاصة إجراءات مكافحة الإرهاب، لذا نلمس توترا في العلاقات بين فرنسا وتركيا على خلفية التدخلات التركية في ليبيا واتهام فرنسا لتركيا بتقويض استقرار ليبيا وهو ما سيؤدي بدوره إلي تقويض استقرار منطقة الساحل.
- استغلال ملف الهجرة الغير شرعية: قد يساهم الوجود التركي في ليبيا إلي زيادة تحكم أنقرة في مسألة الهجرة الغير شرعية في البحر المتوسط، الأمر الذي سيعزز من قدرة تركيا على ابتزاز الدول الأوروبية بملف الهجرة الغير شرعية وإرغام الدول الأوروبية على تقديم المزيد من التنازلات السياسية والاقتصادية لأنقرة.
- الترويج للصناعة العسكرية التركية: تحاول تركيا خلال السنوات الأخيرة الترويج لنفسها على أنها الدولة الرائدة في مجالات التسليح وصناعة الأسلحة المتقدمة، لذا حولت تركيا ليبيا إلي مسرح تجارب لعتادها العسكري، رغبة منها في خلق صورة حسنة عن الصناعة العسكرية التركية، وحث المزيد من الدول خاصة الأفريقية على اقتناء الأسلحة التركية مثل الطائرة المسيرة البيرقدار وأنظمة الصواريخ كوركوت، وأخيرا محاولة الترويج لشركة سادات في أفريقيا باعتبها شركة استشارات عسكرية ومرتزقة.
[i] .هدى الصالح، وثائق بن لادن: الجماعة الليبية المقاتلة تمركزت في تركيا، العربية نت، 20 مايو 2020، متاح على الرابط التالي:
[ii] . منية غانمي، بارجة ومقاتلات حربية.. الجيش يكشف حجم تدخل تركيا بليبيا، العربية، 20 مايو 2020، متاح على الرابط التالي:
[iii] . حسام حسن، تركيا في ليبيا.. دعم للإرهاب وأطماع لا تنتهي، العين الإخبارية، 6 مايو 2020، متاح على الرابط التالي:
[iv] . وكالة أنباء الأناضول، “الأمن القومي التركي”: ماضون في دعم ليبيا بالاستشارات العسكرية، 2يونيو 2020، متاح على الرابط التالي:
[v] .هدى المسعودي، من هي شركة “سادات” التركية المساعد الرسمي لتدخلّ أردوغان في ليبيا ؟، مونت كارلو الدولية، 3 فبراير 2020، متاح على الرابط التالي:
[vi] . انطلقت عملية طوفان الكرامة التي أطلقها الجيش الليبي في إبريل 2019 لتحرير العاصمة طرابلس من سطوة وسيطرة الميليشيات الارهابية، وتمكنت العملية من تحقيق نجاحات عسكرية عدة إذ نجحت في تحرير مدن ومناطق جنوب طرابلس وشد الحصار على الميليشيات المسلحة إلا أن التدخل العسكري التركي حال دون إتمام النصر وقوي شوكة الميليشيات مما دفع قوات الجيش الليبي إلى الانسحاب وإعادة التمركز في مدينة سرت.
[vii] . بي بي سي عربي، الحرب في ليبيا: ماذا تعني خطة تركيا لإقامة قاعدتين عسكريتين في طرابلس ومصراتة؟، 15 يونيو 2020، متاح على الرابط التالي :
[viii] . بوابة أخبار اليوم، تقرير: أطماع تركيا في مليارات ليبيا بمساعد السراج، 8 مارس 2020، متاح على الرابط التالي: