كتبت – أماني رببع
ربما لا يوجد قاسم مشترك بين فلسطين وجنوب أفريقيا، فالدولتان بعيدتان جغرافيًّا، ولا يجمعهما دين أو لغة، لكن ربما كان القاسم المشترك هو ذلك التاريخ من الألم والمعاناة الذي تجرعهما شعب البلدين لعقود.
وفي خطاب له، بعد بدء العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر 2023، قال رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، إن مشهد الرجال والنساء والأطفال الذين طُردوا من منازل عائلاتهم التي يملكونها منذ أجيال طويلة، ومشاهد الهدم القسري للمنازل، وسلب الأراضي، كلها تُعيد للأذهان ذكريات مؤلمة لمعظم سكان جنوب أفريقيا.
دولة الفصل العنصري
وكان الرئيس رامافوزا من أوائل الزعماء الذين طالبوا بحل سريع وعادل للأزمة الفلسطينية الأخيرة، معربًا عن تضامنه مع الشعب الفلسطيني، ورفضه لدعوات الجيش الإسرائيلي بترحيل1.1 مليون فلسطيني عن الجزء الشمالي من غزة.
وأوضح الرئيس الجنوب أفريقي أن “الفلسطينيين يعيشون تحت الاحتلال منذ نحو 75 عامًا، وأنهم لا يخوضون صراعًا ضد حكومة قمعية احتلت أراضيهم فحسب، وإنما أيضًا ضد “دولة فصل عنصري”.
وأضاف “باعتبارنا أعضاء في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي ناضل ضد نظام الفصل العنصري القمعي هنا في جنوب أفريقيا، فإننا نؤكد تضامننا مع الفلسطينيين”.
أول دعوى ضد إسرائيل
في 29 ديسمبر الماضي، قدمت جنوب أفريقيا دعوى قضائية ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية، وهي الدعوى الأولى من نوعها، والتي من شأنها زيادة الضغط الدولي على الاحتلال الإسرائيلي الذي يستمر في عدوانه الإجرامي على قطاع غزة منذ أكتوبر الماضي، والذي ذهب ضحيته أكثر من 22 ألف فلسطيني بينهم آلاف الأطفال.
أرفقت جنوب أفريقيا في دعوتها أدلة على جرائم الاحتلال الإسرائيلي الوحشية في غزة، والتي تُظهر خرق إسرائيل للقانون الدولي، واتهمتها بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة عبر القصف العشوائي الذي يخلف أعدادًا كبيرة من الضحايا، معظمهم من الأطفال والنساء، وإعدام المدنيين والحصار الشامل الذي يمنع عن أهل القطاع مقومات الحياة من طعام وماء ودواء ووقود، وهو ما جعل قطاع غزة على شفا المجاعة.
إبادة ونكبة مستمرة
وذكرت الدعوى بين أدلتها أيضًا، استهداف الاحتلال الإسرائيلي للقطاع الصحي والمستشفيات التي تأوي النازحين بالإضافة إلى قصف المعالم التاريخية والأماكن الدينية، وطالبت جنوب أفريقيا باتخاذ تدابير مؤقتة لحماية حقوق الفلسطينيين، وضمان امتثال إسرائيل لالتزاماتها بالاتفاقية الدولية لمناهضة الإبادة الجماعية لعام 1948 التي وقعت عليها من قبل.
وفي جلسة الاستماع الخاصة بالدعوى، قال ممثل جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، وزير العدل رونالد لامولا، إن الاحتلال الإسرائيلي مزق الشعب الفلسطيني وأهدر حقهم في تقرير المصير، عبر تكثيف الانتهاكات في قطاع غزة وبقية الأراضي الفلسطينية، مضيفًا أن إسرائيل ارتكبت منذ عقود أعمال إبادة وفرضت حصارًا على قطاع غزة.
وأوضح لامولا أن العنف لم يبدأ في السابع من أكتوبر الماضي، فالشعب الفلسطيني يتعرض لنكبة مستمرة وللفصل العنصري على جانبي الخط الأخضر وأعمال إبادة جماعية ترتكبها إسرائيل في سياق الفصل العنصري الذي دام 75 عامًا، وأكد خلال مرافعته أن مستقبل الفلسطينيين يعتمد على قرار محكمة العدل الدولية.
لا مكان آمن في غزة
وفيما يتعلق بأحداث ما بعد السابع من أكتوبر الماضي، قالت الممثلة القانونية لجنوب أفريقيا، إن إسرائيل عرَضت قطاع غزة خلال الـ 96 يومًا الماضية، لـ “أكثف حملة قصف في تاريخ الحروب المعاصرة” على حد تعبيرها، مشيرة أن الفلسطينيين يتعرضون لقصف لا يتوقف أينما يذهبون ويُقتلون في كل مكان يلجؤون اليه.
وقالت الممثلة القانونية لجنوب أفريقيا: “ما من مكان آمن يذهب إليه سكان غزة، ومن رفض المغادرة يقتل على الفور، مستشفيات بأكملها طُلب منها الإجلاء حتى الأطفال الرضع في وحدات الرعاية الفائقة”.
وأوضحت أن جثث الفلسطينيين تُدفن في مقابر جماعية من دون التعرف عليها، ومئات من العائلات في غزة مُسحت بالكامل من السجلات، ولم يبق منها أي فرد على قيد الحياة، مشيرة إلى أن إسرائيل ترتكب أعمال إبادة.
توثيق هام لجرائم الاحتلال
وتُعتبر هذه الدعوى توثيقًا هامًّا لجرائم الاحتلال الإسرائيلي في وقت تزداد فيه المعلومات المضللة حول الحرب الشعواء التي تشنها إسرائيل بدعم من حلفائها في أمريكا وأوروبا، ومن جهتها نفت الخارجية الإسرائيلية اتهامات الإبادة واعتبرتها افتراء، لكن ولأول مرة، وافقت إسرائيل على الوقوف أمام المحكمة وتقديم الطعن في القضية المرفوعة من قبل جنوب أفريقيا.
وأعلن عدد من الدول دعمها للدعوى وتجهيزها للحجج القانونية اللازمة من بينها الأردن وبوليفيا وبنغلادش وجزر القمر وجيبوتي.
وليس هذا أول تحرك قضائي ضد إسرائيل، لكن تكمن أهميتها في استخدام ورقة الاتفاقية الدولية لمناهضة الإبادة الجماعية، التي وافقت عليها إسرائيل ووقعت عليها، ومن المفترض أن قرارات المحكمة الدولية ملزمة للطرفين، لكنها لا تمتلك سلطة تنفيذية، وفي بعض الحالات تم تجاهل أوامرها دون وجود عواقب كبيرة لذلك.
مانديلا وتاريخ من الدعم لفلسطين
وجنوب أفريقيا معروفة بدعمها الكامل للقضية الفلسطينية منذ عهد الرئيس نيلسون مانديلا، الذي سبق وقال في كلمة شهيرة له، “حريتنا منقوصة من دون حرية الفلسطينيين”.
وأشاد بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات وفي تقديمه لكتاب بعنوان “عرفات متى لم يكن هنا”، كتب: “كنت متابعًا لنشاط الرئيس ياسر عرفات من سجني، وأثارت مثابرته وثباته اهتمامي، وهو الذي أخذ المسألة الفلسطينية إلى طاولة المجتمع الدولي، وحوَّل قضية شعبه من قضية لاجئين إلى قضية أمة، وسوف يبقى إلى الأبد رمزاً للبطولة لدى كل شعوب العالم التي تكافح من أجل العدالة والحرية”.
ومنذ وصوله لرئاسة بلاده عام 1994، بعد كفاح طويل وسجن دام 27 عاما، التزم مانديلا بدعم الشعب الفلسطيني، وزار في أكتوبر عام 1999 قطاع غزة، واستمر في دعمه مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 رغم الضغوط الدولية التي تعرض لها.
لم يكن موقف مانديلا بالتضامن مع فلسطين شخصيًّا، فهو عمل أيضًا على توعية شعبه بأن الظلم الواقع على فلسطين يماثل في فداحته ما تعرض له مواطنو البلاد من ذوي البشرة السوداء الذين عانوا لعقود من نظام الأبارتايد بما يمثله من وحشية وعنصرية وحرمان من أدنى متطلبات الحياة.
جنوب أفريقيا وإدانة الاحتلال
وربما لهذه الأسباب، كانت جنوب أفريقيا دومًا مبادرة بإدانة ورفض سياسات دولة الاحتلال في المجتمع الدولي، وفي يونيو عام 2006، أعلن مجلس الاتحادات التجارية الأفريقية مقاطعته للبضائع الإسرائيلية، وقدم استثناء للبضائع القادمة من الضفة المحتلة باعتبارها بضائع فلسطينية.
وفي أثناء حرب غزة عام 2009، خرجت مظاهرات ضخمة للتنديد بالممارسات الوحشية لجيش الاحتلال، وردًا على هجوم قوات الاحتلال على أسطول الحرية المحمل بالمساعدات لقطاع غزة عام 2010، سحبت جنوب أفريقيا سفيرها من إسرائيل، واستدعت السفير الإسرائيلي لديها، وفي عام 2013، أعلنت وزارة العلاقات الدولية بالبلاد التوقف عن إرسال وزرائها لدولة الاحتلال حتى تتحسن الأوضاع في فلسطين.
وفي عام 2015، استضافت جنوب أفريقيا وفدًا من حركة حماس في مؤتمر مع الحكومة الأفريقية، وعلى المستوى الأكاديمي ألغت جامعة جوهانسبرج أي تعاون مع جامعة بن جوريون الإسرائيلية بسبب العنف المستمر ضد الفلسطينيين.
حراك رسمي وشعبي
وعلى المستوى الشعبي شهدت مدينة كيب تاون مظاهرات حاشدة أمام البرلمان، في 15 مايو 2018، وهي ذكرى إحياء نكبة فلسطين 1948 التي تتزامن مع بدء نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا، وشارك في هذه المظاهرات الآلاف من الناشطين وممثلون عن أحزاب المؤتمر الوطني وكوساتو والحزب الاشتراكي، ومؤسسات شعبية منها: مجلس القضاء الإسلامي، وممثل عن الكنائس وحركة “مقاطعة إسرائيل”.
وخفض “حزب المؤتمر الوطني” الحاكم في جنوب أفريقيا عام 2019 مستوى التمثيل الدبلوماسي لدى إسرائيل، وأقيمت ندوات واجتماعات دولية بجنوب لأفريقيا لدعم الشعب الفلسطيني، واستضاف مقر حزب المؤتمر الوطني عام 2022 مؤتمرا لإحياء ذكرى النكبة الفلسطينية، ونظم حملة لدعم القضية الفلسطينية بالأمم المتحدة.
وفي 8 مارس 2023، قررت جنوب أفريقيا خفض مستوى سفارتها لدى كيان الاحتلال إلى مكتب اتصال، بعد تصويت برلمان البلاد على قرار خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال بسبب الانتهاكات المستمرة التي تمارسها بحق الفلسطينيين.
وفي 18سبتمبر 2023، أعفت جنوب أفريقيا حاملي الجوازات الفلسطينية من تأشيرات الدخول لجنوب أفريقيا وذلك تسهيلا لحركة الفلسطينيين، وهو منح المواطنين الفلسطينيين تأشيرات دخول في كل المطارات والموانئ والمعابر الحدودية لجنوب أفريقيا لمدة 90 يوماً، من دون الحاجة إلى إصدار تأشيرات من سفارات جنوب أفريقيا.
على خطى مانديلا
وعلى خطى مانديلا ، سار أحفاده، منهم مانديلا الصغير الذي رفض تصريحات للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حول القدس كعاصمة لدولة الاحتلال، وعلق على ذلك قائلا: “القدس ليست للبيع، ولن تكون أبدًا لغير الشعب الفلسطيني”.
وقال حفيده الآخر والنائب في برلمان جنوب أفريقيا زويلفيليل مانديلا، “إن موقف شعب جنوب أفريقيا وشعب فلسطين واحد ضد الاحتلال والفصل العنصري”، وكتب مقالا في 8 مايو 2022، أوضح فيه الآليات التي تتبعها إسرائيل لغرس مخالبها في أفريقيا، واستخدامها للسلاح وبرامج التجسس في دعم الأنظمة القمعية بالقارة لزيادة نفوذها.
وأشار زويلفيليل مانديلا، إلى مشاركته في أول مؤتمر أفريقي للتضامن مع الشعب الفلسطيني في مارس 2022 بالعاصمة السنغالية دكار، وشارك معه ناشطون من 21 دولة أفريقية، بهدف صناعة حركة على مستوى القارة تدعم كفاح الشعب الفلسطيني ضد الفصل العنصري الإسرائيلي.