كتبت – أماني ربيع
فخرك و”عزوتك” في الهيمبا لا يقدر بجَمال تملكه، أو شاهد قبر فخم ينصب لك عند موتك، بل بعدد الماشية التي امتلكتها خلال حياتك، والذي يمثله عدد القرون بجانب قبرك.
يستيقظن قبل أن تُرسل الشمس أول أشعتها ليحلبن الأبقار ويعتنين بالمواشي، ويحضرن الماء من النهر ويزرعن بذور الذرة ويبنين ما تهدم من المنازل الطينية ويصنعن العصيدة ويربين بالصغار، ممشوقات ببشرتهن الحمراء المتوهجة رمز الدماء والحياة، لا يتعبن لا يتساءلن وماذا يفعل الرجال بعيدا عنا، إنهن قويات الإرادة يعرفن أنهن وتد القبيلة الحقيقي يعرفن أنهن لو توقفن يتوقف كل شئ هن الحياة وعليهن تعتمد الحياة في مجتمع “الهيمبا”.
لا تعرف نساء قبيلة “الهيمبا” سوى العمل الشاق، لم يسمعن عن مؤتمرات حقوق المرأة، يعرفن أن الحق الوحيد هو حق الحياة بأقل قدر من الإمكانيات وأن الترف محظور عليهن والدلال يقدم فقط للماشية كي تدر لبن أكثر يساعدهن في إطعام الصغار، إنهن فخر القبيلة وعمودها.
نساء جميلات يكسوا جلودهن اللون الأحمر، يُشكلن قلب مجتمع منغمس في طقوس غريبة وحياة بدائية بعيدة عن كل مظاهر التكنولوجيا، أنت الآن في “ناميبيا” حيثت تسكن واحدة من أشهر القبائل البدائية في العالم.
آخر القبائل البدائية
والـ “هيمبا” ومفردها ” OmuHimba” والجمع ” OvaHimba” هم من الشعوب الأصلية التي يقدر عدد سكانها بخمسين ألف نسمة يستوطنون منطقة كونين المعروفة بـ ” Kaokoland” سابقا، وهم آخر الشعوب البدائية في ناميبيا.
تستوطن تلك القبيلة البدائية الشمال الغربي لدولة ناميبيا، ويقال إن جذورها تعود إلى شعوب “الهيريرو” التي انتقلت خلال القرني الخامس والسادس عشر الميلادي من “بتسوانا” في جنوب أفريقيا واستقرت في شمال ناميبيا.
أغلبهم رعاة للماشية ، الأغنام والماعز والمواشي ثروتهم الوحيدة ويزرعون الذرة ونظامهم الغذائي يعتمدعلى اللبن الحامض وعصيدة الذرة وأحيانا دقيق الذرة وبيض الدجاج والأعشاب البرية والعسل بسبب ندرة اللحوم والحليب، وهناك منهم من يحصل على معاشات تقاعد وشيخوخة من عملهم في المحميات، كما يحصلون على مساعدات إغاثة في فترات الجفاف من حكومة ناميبيا.
ولا يزال أفراد تلك القبيلة متمسكين بتراث الأجداد الأوائل ومحافظين على طقوسهم الخاصة، غير مبالين بكل وسائل التكنولوجيا التي تحيط بهم، بيوتهم عبارة عن هياكل بسيطة ذات شكل مخروطي من القش يتم تعريشه بأوراق النخيل ويلصق كل ذلك بالطين والروث، وهي مهمة تقوم بها النساء.
وعن سر اللون الأحمر الذي تتميز به نساء تلك القبيلة فهو عجينة تسمى “أوتزايز”، لحماية البشرة في ظل ندرة المياه والمناخ الحار، تصنع النساء تلك العجينة من راتنجات عطرية من شجيرة أوموزومبا ودهن الماعز وأكسيد الرصاص، يدهن بها أجسادهن للوقاية من لدغات الحشرات وحفظ البشرة من حرارة الشمس، كما أن اللون الأحمر من علامات الجمال والاعتزاز ببركة الأرض التاريخية وهو رمز الدماء رمز الحياة والاستمرارية.
ودور الرجال في تلك القبيلة يقتصر على الجلسات العرفية لرؤساء القبائل والأمور السياسية، أو يرعون الماشية بعيدا عن المنزل، ولا يتواجدون في القرية إلا قليلا ويفضلون قضاء الوقت في الحانات أو يدورون في المدن بحثا عن عمل، وعادة لا يكتفون بزوجة واحدة، فالرجل يتزوج بأكثر من امرأة وله عدد كبير من الأطفال.
والزيجات في مجتمع “الهيمبا” أغلبها مدبرة يختار الأباء للأبناء زوجاتهم في سن البلوغ، وتتزوج الفتيات في سن العاشرة، وهي ممارسة غير قانونية في ناميبيا لكنها واسعة الانتشار رغم ذلك، وبعد الزواج يتحول الصبي إلى رجل، بينما لا تصبح الفتاة امرأة إلا بعد الإنجاب.
الأسلاف والنار المقدسة
يقدس “الهيمبا” أرواح الأسلاف وهم موحدون يؤمنون بإله واحد “موكورو Mukuru” هو خالق كل شيء في الوجود، وهو بعيد لا يمكن الوصول إليه إلا عبر أجساد أرواح الأجداد من الذكور الذين يتحولون إلى مقدسين بعد الموت، والنار المقدسة Okuruwo هي حلقة الوصل بين الحياة وأرواح الأجداد ولابد من اشتعالها طول الوقت حيث يهتم بها زعيم القبيلة أو حارس النار عبر الصلاة وطلب البركة والاهتمام بها من مهامه الرئيسية.
يسكن أفراد العائلة الواحدة في ما يسمى ” onganda” وهي تشبه قرية صغيرة تتألف من مجموعة أكواخ تحيط بـ “أوكورو” مكان النار المقدسة.
وكل عائلة لديها نار أسلافها الخاصة، ويتم تجديد النار كل 7 أو ثمان أيام من أجل التواصل مع الأجداد.
ومن الأمور الغريبة لدى “الهيمبا” هو خوفهم من ولادة التوائم، فالتوأم غضب من الأجداد يلعن المرأة فهذا يعني وفقا لمعتقدهم أنها حملت من رجلين في وقت واحد.
ولا ينتسب الفرد في “الهيمبا” إلى عشيرة واحدة بل عشيرتين زاحدة من خلال الأب ” oruzo” والثانية من خلال الأم ” matriclan” ويقود الهيمبا الذكر الأكبر في القبيلة ويعيش الأبناء مع عشيرة والدهم وعندما تتزوج البنات تعيش مع عشيرة زوجه.
ضفائر العُمر
تسريحات الشعر في تلك القبيلة ليس مجرد طقسا جماليا، فكل طرقة تصفيف لها معنى ولكل عمر تسريحة معينة، وتجدل النساء شعورهن ثم يصبغنها بالخليط الأحمر لتتطابق مع لون أجسادهن، وتكون ضفائر الشعر بكل معين يختلف بين الفتاة الصغيرة والناضجة، فالأطفال يمتلكن ضفيرتين على الجبين موازية للعينين، وعند النضوج تزداد الضفائر وتصبح أصغر، وعند الزواج تضع الفتاة غطاء رأس” Erembe” من جلد الماعز.
ولا يصبغ الرجال شعورهم، لكن الأولاد يملكون ضفيرة واحدة توجه للأمام، وبعد البلوغ توجه للخلف على شكل ذيل وبعد الزواج يضع الرجل عمامة تخفي شعره.
وبما أن القبيلة لا تزال محتفظة ببدائيتها فالملابس لا تعني لهم الكثير لذا لا يستر أجسادهم سوى أقل القليل من الثياب ويكون أعلى الجسد عار للرجال والنساء بينما يغطي النصف السفلي يتنورة قصيرة من جلد الماعز، وهي ملابس ملائمة أيضا للمناخ الحار، وترتدي النساء أحيانا “صنادل” من جلود الأبقار، ويصنع الرجال صنادلهم من إطارات السيارات القديمة.
وكنوع من التجميل تصنع النساء إكسسوارات من العظام والنحاس وجلود الحيوانات يضعنها في الرقاب والأيدي، ويضعن خلخالا في أسفل القدم للحماية من لدغات الحشرات السامة، ويستخدمن بخورا من حرق الأعشاب والراتنجات العطرية يطهر الجسسد من الميكروبات ويزيل روائح العرق من الجسم.
وبالرغم من كونهم يعيشون في منطقة نائية ومحتفظين ببدائيتهم لكنهم ليسوا جميعا معزولون عن نمط الحية العصري واتجاهات الثقافة المحلية في الحضر ويتفاعلون مع الجماعات الإثنية الأخرى وبخاصة الذين يقطنون قرب مدينة “أوبو” بأقليم كونين الذين يسافرون للتسوق في محلات السوبر ماركت المحلية لشراء المنتجات الاستهلاكية وتسويق منتجاتهم والحصول على الرعاية الصحية.
تاريخ دامي
وكأجسادهم الحمراء كان تاريخ القبيلة مليء بالدماء، ولازال التاريخ يذكر فظائع الحكم الاستعماري الألماني وحروب الإبادة التي تم شنها على شعوب الهيريرو بقيادة لوثير فون تروثا.
وتعتبر هذه الجرائم من أكبر الفظائع في تاريخ ألمانيا الاستعمارية، وخلال هروب أفراد الهيريرو من الإبادة إلى صحراء كالاهاري خلال معركة واتربيرج عام 1904، تم قطع المياه عنهم ما نتج عنه وفاة عدد يقدر بنحو 60 الف من السكان الأصليين للمنطقة ومن نجا منهم تم اعتقاله في معسكرات اعتقال في ظروف بالغة القسوة ومات منهم الكثير.
وخلال 5 أعوام كانت مدة تلك الحرب من 1904 إلى 1909 منحت الحكومة الألمانية لجنودها الحرية الكاملة في قتل كل من يثور ضد الحكم الاستعماري الألماني، مما أدى إلى قتل نحو 80% من شعب “أوفا هريرو” ونحو 50% من شعب “ناما”
واستمر الحكم الاستعماري الألماني في ناميبيا من عام 1884 وحتى عام 1945، حدثت فيها الكثير من المذابح وتم إخضاع كل القبائل بالقوة، ونهب أراضيهم واستخدامهم في العمل القسري، كما استخدم علماؤهم السكان الأصليين في تجارب عرفت بـ “التجارب العرقية” ومنهم العالم أوجن فيشر، وكان هدف تلك التجارب إثبات تفوق العنصر الآري.
ولا تزال وقائع إبادة الهيريرو على يد الاستعمار الألماني محل جدل مع الحكومة الألمانية التي ترفض الاعتراف رسميا بهذه الجرائم أو حتى الاعتذار عنها، ويطالب أحفاد من ماتوا بإعادة عظام من ماتوا وتم حفظ رفاتهم في جامعات برلين وفريبورج، لأنهم يعتقدون أن دفن عظامهم في التراب ستمنح أرواحهم السلام.
وفي عام 2011 أعادت ألمانيا 20 جمجمة إلى ناميبيا على نحوٍ رمزي، وقدمت الوعود بتقديم مساعدات تقنية إلى ناميبيا، عوضاً عن دفع التعويضات من أجل تخفيف وطأة جميع الممارسات الألمانية تاريخياً.
وحتى الطبيعة أحيانا لم ترأف بهم فمن وقت لآخر تتعرض مناطق سكنهم للجفاف الشديد مثلما حدث في بداية الثمانينيات عندما تعرضوا لموجة جفاف قاسية أهلكت قطعانهم فاضطروا إلىا لهجرة إلى منطقة أوبو “Opuwo” ولم يعودوا إلى بحلول التسعينيات إلى أرضهم التاريخية واستعادوا أسلوبهم الخاص في الحياة.