كتب – محمد الدابولي
باحث متخصص في الشؤون الأفريقية
عجّت حسابات وكتابات وسائل التواصل الاجتماعية الإثيوبية والسودانية خلال الشهور الثلاثة الماضية بعبارات المديح والثناء على ما وصلت إليه العلاقات بين البلدين من تعاون وتضامن مشترك في العديد من القضايا، ولم يكن في حسبان العديد وجود ما يعكر صفو العلاقة المتنامية بين البلدين في الشهور الماضية.
فقد تنامت العلاقات خلال الشهور الماضية بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البلدين؛ فأديس أبابا نجحت في تشكيل المسار السياسي الذي أعقب الإطاحة بنظام «عمر البشير» من خلال لعب دور الوساطة بين طرفي الأزمة المجلس العسكري الذي استلم الحكم عقب الإطاحة بالبشير وقوى الحرية والتغيير التي قادت التظاهرات لإسقاط الحكم السابق.
توجت الوساطة الإثيوبية في أغسطس 2019 بالتوقيع على الاتفاق النهائي بين الطرفين، وتشكيل المجلس السيادي، وتشكيل حكومة عبدالله حمدوك لإدارة المرحلة الانتقالية في البلاد، وبناء على الدور الإثيوبي شهدت العلاقات السودانية الإثيوبية أوجها في فبراير/ مارس 2020 حين رفضت الخرطوم التوقيع على مذكرة ملء خزان سد النهضة التي أعدتها وزارة الخزانة الأمريكية، فضلًا عن التحفظ على قرار مجلس الجامعة العربية المدين للسلوك الإثيوبي في مفاوضات سد النهضة، إلا أن ثمة توترًا حدوديًّا في ولاية القضارف شرق السودان كسر حالة التفاؤل والدفء التي شهدتها العلاقات بين البلدين.
أولًا- التسلل للفشقة
التوتر هو السمة الغالبة على أغلب مراحل العلاقات الإثيوبية السودانية منذ استقلال السودان في عام 1956 وإلى اليوم، ويعود التوتر المزمن في العلاقات بين الطرفين للعديد من العوامل والمتغيرات، أبرزها الحرب الأهلية السودانية (1983 – 2005) وبعض التسويات الحدودية بين الطرفين والتي أطلت برأسها في الأيام الأخيرة خاصة حول منطقة الفشقة.
على مدار تاريخ العلاقات بين البلدين برزت منطقة الفشقة أحد المتغيرات الرئيسة في العلاقات بينهما، فالفشقة تقع ضمن أراضي ولاية القضارف السودانية بمساحة تبلغ حوالي 251 كم مربع وأكثر من 600 ألف فدان من أجود وأخصب الأراضي الزراعية في السودان، ويشقها أنهار «باسلام»، «عطبرة» و«ستيت»، وتنقسم إلى الفشقة الكبرى والفشقة الصغرى والمنطقة الجنوبية.
في الخمسينيات وتحديدًا في عام 1957 استغلت أديس أبابا خصب أراضي الفشقة السودانية وانعدام السيطرة المركزية عليها من قبل السلطات في الخرطوم في دفع المزارعين الإثيوبيين خاصة من جماعة الأمهرة بالتوغل في الفشقة والاستيلاء على الأراضي بها، وفي عام 1962 بلغت الأراضي المستولى عليها من قبل إثيوبيا حوالي 300 فدان.
ساهم ضعف الدولة المركزية في الخرطوم ودخول البلاد في حرب أهلية ضروس استمرت لأكثر من عقدين في إهمال منطقة الفشقة التي واجهت ظاهرة تمدد مزارعي إثيوبيا وبلغ الأمر أوجه في عام 1992 حينما استعان مزارع إثيوبي بعناصر من القوات الإثيوبية لأجل التوغل في الأراضي السودانية والاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضي قدرت بـ44 ألف فدان وطرد مزارعي السودان منها.
ونتيجة التوترات بين الجانبين اتفق الطرفان في عام 1995 على إخلاء المنطقة الحدودية بينهما في ولاية القضارف من القوات المسلحة للبلدين وإيكال مهمة حماية الحدود إلى كتائب الدفاع الشعبي من الجانب السوداني وكتائب محلية موازية من الجانب الإثيوبي.
ثانيًا- احتواء إثيوبي
طوال تاريخ الأزمات الحدودية بين البلدين نجحت إثيوبيا في احتواء الأزمات المتصاعدة وتخفيف المخاوف السودانية أو بالأحرى تجميدها عبر سلسلة من النقاشات والتفاهمات، فمؤخرا شابت الحدود توترا على خلفية قيام ميليشيات الشفتا -التي اعتادت الاعتداء على المزارعين السودانيين وسرقة ماشيتهم- باختطاف مزارعين سودانيين في منطقة باسندا التابعة لولاية القضارف وطلب فدية كبيرة من أهاليهم مما أثار غضب سكان المنطقة، وزيادة حدة المناوشات بين الطرفين الإثيوبي والسوداني.
تطورت الأحداث بعد توغل الجيش الإثيوبي في منطقة شرق سندس بالفشقة الصغرى منتهكا السيادة السودانية واتفاقية 1995 تحت دعوة محاربة تهريب المخدرات والاتجار بالبشر ، وفي المقابل استنفرت القيادة السودانية التي دفعت إلى إعادة الجيش مرة أخرى بعد 25 سنة إلى المنطقة فضلًا عن زيارة قام رئيس المجلس السيادي عبدالفتاح البرهان ورئيس أركان الجيش السوداني محمد عثمان حسين ومدير جهاز الاستخبارات جمال عبدالحميد إلى مدينة دوكة الحدودية وتعهد البرهان بالحفاظ على الحقوق السودانية.
دفع الموقف السوداني الأخير إلى تحرك أديس أبابا لاحتواء الموقف، حيث أوفدت رئيس أركان جيشها آدم محمد إلى الخرطوم يوم 10 أبريل ولقاء نظيره السوداني وعلى جانب آخر هاتف رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد رئيس مجلس السيادة السوداني لاحتواء الوضع.
وتشير صحيفة الشرق الأوسط اللندنية إلى أن رئيسي أركان الدولتين اتفقا على عودة قوات بلادهما إلى المنطقة الحدودية مرة أخري في غضون أسبوعين وأن تباشر لجان ترسيم الحدود وضع العلامات الحدودية بين الجانبين.
التحرك الإثيوبي الأخير لم يختلف عن التحركات السابقة، حيث دفعت أديس أبابا خلال الفترة الماضية إلى التوقيع على مذكرات تفاهم مصحوبة بوعود باحترام السيادة السودانية، ففي ديسمبر 2013 وأثناء زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي ديسالين للخرطوم تم التوقيع على اتفاقية لاتخاذ التدابير اللازمة لتأمين السلام على حدود الدولتين.
ولاحقا في 2014 تم الاتفاق على تشكيل قوة مشتركة لمراقبة الحدود، بيد أن مذكرة التفاهم لم يتم تنفيذها وذهبت أدراج الرياح مع توالي الاعتداءات الإثيوبية على الحدود السودانية في يونيو 2014 حيث هاجمت قافلة عسكرية إثيوبيا قوات سودانية بالسلاح الآلي والقذائف الصاروخية.
وتجددت الاستهدافات الإثيوبية مرة أخرى في يونيو 2016 حيث أفادت محطة راديو دبنقا إلى اعتداء ميليشيا الشفتا الإثيوبية على المزارعين السودانيين خاصة في مواسم الحصاد، وفي عام 2017 جرت أحاديث إعلامية سودانية عن قرب توصل البلدين إلى اتفاق لترسيم الحدود بينهما ما عدا منطقة الفشقة الصغرى الأمر الذي دفع السلطات السودانية إلى منع المزارعين السودانيين من تأجير أراضيهم للإثيوبيين.
لم تنقطع الاعتداءات الإثيوبية حتى مع تولي «أبي أحمد» رئاسة الوزراء في إثيوبيا عام 2018، ففي سبتمبر من ذات العام تجددت الاشتباكات رغم إقرار الدولتان في الشهر الذي سبقه على نشر قوات لمنع التوتر بين الجانبين، وفي نوفمبر 2018 تم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة لتأمين الحدود ومحاربة تهريب المخدرات والاتجار بالبشر، وفي يناير 2020 تم التباحث بين وزير الدفاع الإثيوبي الفريق أول ركن جمال الدين عمر وبين السفير الإثيوبي في الخرطوم سفروا جادسو حول كيفية تسريع تشكيل القوة المشتركة التي تم الاتفاق عليها في 2018.
مما سبق يكشف اتجاه إثيوبيا في تمييع الحقوق السودانية في منطقة الفشقة وهو ما اتضح بشكل جدي في فبراير 2019 -أي في ذروة الأزمة السياسية في السودان قبيل الاطاحة بالبشير بشهرين تقريبا- حينما قدم وزير الخارجية الإثيوبي ورقنه جيبو تقريرا إلى مجلس النواب الإثيوبي يوكد فيه استمرار تدفق الأسلحة إلى الداخل الإثيوبي عبر الحدود مع السودان ملمحا بضرورة اتخاذ إجراءات من شأنها ضبط الحدود والمغزى هنا نشر قوات عسكرية إثيوبية في الأراضي السودانية لمنع عمليات التهريب.
كما يمكن القول: إن إثيوبيا انتهجت في تسوية نزاعها الحدودي مع السودان ذات المنهج الذي تتبعه حاليًا في مفاوضات سد النهضة ألا وهو التسويف والتباطؤ وإطالة أمد المفاوضات وعدم التوصل إلى حلول جذرية للمشكلة أملا في ترسيخ حقوق مكتسبة.
ثالثًا- دوافع إثيوبيا للسيطرة على الفشقة
في سياق توغلها في السودان تنساق أديس أبابا وراء العديد من الدوافع التي تبرر لها مسألة التوغل في مناطق الفشقة والسماح لميلشيات غير نظامية ومزارعين إثيوبيين من السيطرة على المنطقة ومن أبرز تلك الدوافع:
- شبح القاهرة: تمتلك مصر وإثيوبيا رصيدا كبيرا من التوتر وعدم التفاهم إزاء أزمة سد النهضة، ورفض أديس أبابا لأي محاولات من شأنها تعطيل خططها المرسومة لبناء وتشغيل السد وتجلى ذلك في رفضها الأخير لمذكرة ملء الخزان التي أعدتها وزارة الخزانة الأمريكية في فبراير 2020.
ومن هنا تتخوف إثيوبيا من أي تحرك مصري يستهدف السد في ظل تذبذب الموقف السوداني الذي بدا مؤخرًا خاصة بعد زيارة وزير الري المصري محمد عبدالعاطي رفقة رئيس جهاز المخابرات اللواء عباس كامل إلى الخرطوم، وإدلاء رئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك تصريحا مثيرًا اعتبر تراجعا سودانيا عن دعم إثيوبيا، إذ عرض حمدوك الوساطة بين مصر وإثيوبيا على أساس مسار واشنطن واتفاق المبادئ 2015.
لذا ترى أديس أبابا أن التوغل في الفشقة له بعدان هامان أولهما الضغط السياسي المتواصل على الخرطوم لإثنائها عن دعم الوقف المصري، وثانيا تأمين المجال الحيوي والاستراتيجي لسد النهضة الذي يبعد فقط عن الحدود السودانية بمقدار 30 كم.
- نهب السمسم والذرة: أشار راديو دبنقا إلى أن الأهداف التي تدفع إثيوبيا للسماح لميلشيات الشفتا مواصلة الاعتداء على المزارعين السودانيين هو السيطرة على محصولي الذرة والسمسم الذي تنتجهما المنطقة، فالاعتداءات الإثيوبية المتكررة تحرم ولاية القضارف من عائدات مليون فدان من المحصولين سنويا.
- سياق ديمغرافي: في هذا الصدد يشير السفير السوداني السابق «عثمان نافع» في تصريحاته لصحيفة الراكوبة السودانية إلى أن إثيوبيا تدفع مزارعيها رفقة ميليشيات الشفتا للاستيطان في الفشقة لدوافع ديمغرافية، فإثيوبيا تعاني من اكتظاظ سكاني لذا تلجأ إلى التوغل في أراضي السوادن لتقليل أثر الكثافة السكانية لديها.
- سياق إثني: من المحتمل أن يكون صمت الحكومة الإثيوبية على ميليشيات الشفتا هو محاولة من الحكومة في أديس أبابا لاستراضاء قومية أمهرا التي تنتمي إليها ميليشيات الشفتا، لذا لا تحاول الحكومة الفيدرالية الإثيوبية معاداة المصالح الأمهرية في السودان.