كتب – د. سالي محمد فريد
أستاذ الاقتصاد المساعد – كلية الدراسات الإفريقية العليا – جامعة القاهرة
أصبح “الاقتصاد الإبداعي” جزءًا مهمًّا من الاقتصاد العالمي؛ حيث أدركت دول العالم أهمية الصناعات القائمة على المعرفة، ومنها الصناعات الإبداعية التي باتت عنصرًا هامًّا في اقتصادات كثير من هذه الدول من خلال مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، وتوفير فرص العمل. وتبذل الدول جهودًا كبيرة لتعزيز الصناعات الإبداعية بها، باعتبارها محركًا للنمو الاقتصادي، وأحد العوامل الرئيسية لتعزيز مكانتها الثقافية على المستويين الإقليمي والعالمي. وتسعى إلى تشجيع الابتكار والإبداع، مما يؤدي إلى تحقيق التنمية الاقتصادية.
أولا: مفهوم الصناعات الإبداعية
بدأ الترويج لمفهوم “الاقتصاد الإبداعي” من قِبل الكاتب البريطاني “جون هوكنز” في عام 2001، وأطلقه على 15 نشاطًا تشمل مجالات متنوعة، تبدأ بالفنون، وتمتد لتشمل مجالات العلم والتكنولوجيا. وأشار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في تقريره الصادر عام 2008 حول تقييم الاقتصاد الإبداعي على مستوى العالم، إلى أن الاقتصاد الإبداعي هو ذلك النمط من النشاط الاقتصادي الذي يقوم على استغلال الأصول الإبداعية التي يمكن أن تولّد النمو الاقتصادي، وتقود إلى التنمية الاقتصادية.[1]
كما عرَّف (الأونكتاد) الصناعات الإبداعية بأنها تلك السلع والخدمات التي تستخدم الإبداع ورأس المال الفكري كمدخلات أولية، والتي تشمل 4 مجموعات، هي: التراث، والفنون، ووسائل الإعلام، والإبداعات الوظيفية، على النحو التالي:
1- التراث: تم تصنيفه إلى مجموعتين فرعيتين: أولاهما أشكال التعبير الثقافي التقليدي، وتضم (الفنون، والحرف اليدوية، والمهرجانات، والاحتفالات). وثانيهما المواقع الثقافية، وتضم (المواقع الأثرية، والمتاحف، والمكتبات، والمعارض).
2- الفنون: وتشمل مجموعة الصناعات الإبداعية القائمة على الفن والثقافة، وهذه المجموعة تنقسم إلى الفنون البصرية، وتضم (الرسم، والنحت، والتصوير الفوتوغرافي، والتحف). والفنون المسرحية، وتشمل (الموسيقى، والمسرح، والأوبرا، والسيرك).
3- وسائل الإعلام: تغطي مجموعتين فرعيتين من وسائل الإعلام التي تنتج المحتوى الإبداعي بهدف التواصل مع جمهور كبير. والمجموعة الأولى هي النشر والوسائط المطبوعة، وتضم (الكتب، والصحافة، وغيرها من المطبوعات). أما الثانية وهي الوسائل السمعية والبصرية، فتشمل (الأفلام، والتلفزيون، والإذاعة).
4- الإبداعات الوظيفية: تضم الصناعات الموجهة نحو خلق السلع والخدمات، والتي تحددها أذواق المستهلكين وديناميكية الأسواق العالمية. وهذه المجموعة تنقسم إلى ثلاث مجموعات فرعية أخرى: الأولى هي التصميم، وتضم (الرسم، والأزياء، والمجوهرات، ولعب الأطفال). والثانية وسائل الإعلام الجديدة، وتشمل (البرمجيات، وألعاب الفيديو، والمحتوى الإبداعي الرقمي). والمجموعة الفرعية الثالثة هي الخدمات الإبداعية، وتضم (الخدمات المعمارية، والإعلان، والخدمات الثقافية والترفيهية، وفي بعض الأحيان الأبحاث الإبداعية).[2]
شكل رقم (1): دوائر تأثير الصناعات الابداعية على الاقتصاد.
ثانيا: أهمية ودور الصناعات الإبداعية
تُعد الصناعات الإبداعية محركًا للنمو الاقتصادي العالمي، وكذلك لخلق فرص العمل. وبحسب منظمة اليونسكو، فقد وفّرت مختلف أنشطة الصناعات الإبداعية عوائد بنحو 2.250 تريليون دولار في عام 2018، أي ما يعادل 3% من الناتج الإجمالي العالمي، كما خلقت فرصًا وظيفية في العام نفسه بنحو 29.5 مليون وظيفة.
تشير مؤشرات التنمية العالمية إلى أن الدول التي حققت معدلات أداء مرتفعة من التقدم العلمي والتكنولوجي والمعرفي توجِّه نسبة عالية من إنفاقها الرأسمالي لصالح الأصول المنتجة للقوى الناعمة. إذ مثلت الصناعات الإبداعية والثقافية بالولايات المتحدة الأمريكية على سبيل المثال نحو (7.75%) من الناتج المحلى الإجمالي. كما ساهمت في توفير ما يقدر بنحو (5.9%) من فرص العمل على المستوى القومي، وبلغ عائد صادراتها في نفس الوقت ما يزيد على (85) بليون دولار سنويًا. وقد ساهمت الصناعات الإبداعية والثقافية بالمملكة المتحدة بالمثل في إنتاج عائد بلغ (112) بليون جنيه إسترليني، بينما أتاحت هذه النوعية من الصناعات ما يعادل (1.3) مليون فرصة عمل. وتفيد المؤشرات الدولية أيضًا بأن عوائد الصناعات الإبداعية والثقافية بأستراليا تقدر بنحو (25) بليون دولار.[3]
شكل رقم (2) تطور قيم الصادرات العالمية من السلع والخدمات الابداعية
وفى ظل تزايد الدور التنموي والمعرفي للصناعات الإبداعية والثقافية على الصعيد العالمي، تتضمن المنتجات الإبداعية الوسائط السمعية والبصرية والرقمية (مثل التلفاز، والمذياع، والسينما، والكتب، والأعلام، والمحتوى الرقمي، والبرمجيات).[4]
شكل رقم (3): نصيب كل مجموعة اقتصادية من الصناعات الابداعية في الصادرات من السلع الابداعية للدول النامية
وتتبنى المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) تقسيم المنتجات الثقافية والإبداعية إلى الإعلان، والأفلام الروائية، والموسيقى، والفنون الاستعراضية، والنشر، والبرمجيات، والتلفاز، والمذياع، والفنون البصرية والجرافيك، بصفتها منتجات تخضع لقواعد حقوق الملكية الفكرية.[5]
شكل رقم (4) مساهمة الصناعات القائمة على حقوق المؤلف في الناتج المحلي الاجمالي العالمي عام 2016 %
Source: United Nations (2016). Creative Economy Report 2016.Creative Economy: A Feasible Development Option. Geneva and New York: United Nations.
ويتضح من الشكل السابق أن الصحافة واصدار الادبيات تمثل أكثر السلع الإبداعية مساهمة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي تليها البرمجيات وقواعد البيانات.
شكل رقم (5) مساهمة الصناعات القائمة على حقوق المؤلف في توفير فرص العمل عام 2016 %
Source: United Nations (2016). Creative Economy Report 2016.Creative Economy: A Feasible Development Option. Geneva and New York: United Nations.
ويتضح من الشكل السابق أن الصحافة واصدار الادبيات تمثل أكثر السلع الإبداعية مساهمة في توفير فرص العمل على مستوى العالم تليها البرمجيات وقواعد البيانات.
ثالثا: دور الصناعات الإبداعية في الدول العربية
بدأ اهتمام دول الخليج العربية بتنمية الصناعات الإبداعية في إطار تطويرها رؤى مستقبلية لاقتصاداتها الوطنية، وتحديدًا قطاعي السياحة والثقافة بها. فعلى سبيل المثال، تبنت أبو ظبي خطة لتطوير تراثها الثقافي والتاريخي في إطار رؤيتها لعام 2030. كما تتطلع قطر من خلال الإستراتيجية الوطنية للسياحة 2030 إلى أن تصبح مركزًا ثقافيًّا إقليميًّا.[6]
فقد سعت دول الخليج نحو إطلاق العديد من المنتجات الثقافية والإبداعية في السنوات الماضية، والتي لم تقتصر على المنتجات أو الأنشطة ذات الطابع الثقافي المُجرد، وإنما امتدت لتشمل الصناعات الإبداعية الأخرى ذات الطابع التجاري أو السوقي. وحظيت العديد من الأنشطة الإبداعية باهتمام حكومات دول مجلس التعاون الخليجي، ومن بينها صناعة المتاحف، والفعاليات الثقافية، ومعارض الفنون، والمهرجانات السينمائية (مثل مهرجان دبي السينمائي الدولي).[7]
كما تمكنت دول الخليج من تطوير صناعات إعلامية ذات كفاءة عالية لتكتسب سمعة إقليمية وعالمية في هذا المجال. كما عملت أيضًا بعض الدول -مثل دولة الإمارات العربية المتحدة- على إطلاق أنشطة إبداعية جديدة وذات قيمة اقتصادية عالية، مثل صناعة التصميم محليًّا التي دأبت الإمارات على تطويرها منذ عام 2013.[8]
وتعتبر أحد الحلول الرئيسية التي تبنتها دول الخليج لتنمية الصناعات الإبداعية هي تدشين المدن المتخصصة ذات المزايا التنظيمية والتشريعية والاستثمارية، ومن أمثلتها مدينة دبي للإعلام التي تأسست في عام 2001، وشركة twofour54 في عام 2008، وكلاهما يُدار وفق آليات المناطق الحرة التي توفر العديد من المزايا الضريبية والجمركية. وفي السعودية، تم الإعلان في إبريل 2017 عن إطلاق مشروع مدينة القدية؛ باعتباره أكبر مدينة ثقافية ورياضية وترفيهية من نوعها على مستوى العالم، كما تضمنت “رؤية 2030” إنشاء أكبر متحف إسلامي في العالم.[9]
تحرص دول الخليج العربية باستمرار على تطوير الصناعات الإبداعية، لتشمل أنشطة أخرى ذات قيمة مضافة واقتصادية عالية. وفي هذا الإطار، أطلقت دولة الإمارات “مشروع حي دبي للتصميم” (D3) في عام 2013، والذي يسعى لأن يُحدث طفرة في صناعة التصميم والأزياء بدبي فقد وصل حجمها إلى حوالي 35.9 مليار دولار عام 2018، وذلك بزيادة أكثر من نصف حجمها في عام 2010. كما أطلقت إمارة الشارقة الإماراتية، في فبراير 2017، أول مركز لإدارة حقوق النسخ، كحل فعَّال لضمان حقوق الملكية الفكرية، حيث يقوم برصد عمليات الانتفاع من الملكية الفكرية، والتفاوض مع المنتفعين، وتحصيل المستحقات بالنيابة عن مالكي الحقوق. ولكي تتمكن الدول العربية من تحقيق أهدافها تحاول توفير متطلبات تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات حتى تتمكن من دعم الاقتصاد الابداعي بها.[10]
شكل رقم (6): اتصالات النطاق العريض في عدد من الدول العربية
المصدر: مجموعة البنك الدولي: تقرير اقتصاد جديد لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا (واشنطن: البنك الدولي، اكتوبر 2018)
شكل رقم (7): اتصالات النطاق العريض للهاتف المحمول في عدد من الدول العربية
المصدر: مجموعة البنك الدولي: تقرير اقتصاد جديد لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا (واشنطن: البنك الدولي، اكتوبر 2018)
ومن المخطط أن تواصل دول الخليج استثماراتها في عدد من المشروعات الثقافية الواعدة. وفي هذا الصدد، تستثمر السعودية حوالي 2 مليار دولار لتطوير قطاع السياحة الثقافية في إطار “رؤية 2030”. كما قامت سلطنة عمان، في عام 2015، بتخصيص استثمارات بقيمة 2.5 مليار دولار لمشروع “أوماجين” على خليج عُمان؛ والذي يضم الكثير من العناصر الثقافية والتراثية والتعليمية والترفيهية والسكنية.[11]
ولقد قاد القطاع العام أو الحكومي إدارة استثمارات الأنشطة الثقافية والإبداعية بدول الخليج، حيث أدركت الحكومات أن الاستثمار في الأنشطة الإبداعية لا يخلق فقط قيمة اقتصادية، وإنما يُعزز من التنمية المجتمعية والثقافية أيضًا. ومع نمو العوائد التجارية المحصلة من هذا القطاع، عززت دول الخليج من الشراكة بين القطاعين العام والخاص في مجالات عديدة، مثل الفنون والثقافة والإعلام، من أجل اكتساب الخبرات والاستثمارات العالمية في مثل هذه المجالات.
لعبت الصناعات الإبداعية دورًا مضطردًا في تنمية اقتصادات دول مجلس التعاون، وعززت من تنويع صادراتها غير النفطية مع العالم الخارجي. وبحسب بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، ارتفعت مجموع صادرات دول الخليج من السلع الإبداعية من نحو 270 مليون دولار في عام 2002 إلى نحو 16.5 مليار دولار في عام 2018. واستحوذ على النصيب الأكبر من هذه الصناعات: التصميم، والحرف الفنية، والإعلام الجديد، والفنون البصرية.[12]
وتجدر الإشارة إلى أن الفعاليات الثقافية والإبداعية العديدة التي تنظمها دول الخليج العربية، لها دور مهم في جذب عدد أكبر من الزوار من مختلف أنحاء العالم، ومن ثم تنشيط السياحة الخليجية. وفي هذا الصدد، تُقدر شركة “كوليرز إنترناشيونال” أن مدينة دبي شهدت زيادة قدرها 127% في عدد زوار المتاحف وصالات العرض الفنية وصلت إلى 1.7 مليون شخص عام 2015 مقابل 700 ألف زائر في عام 2011.[13]
وتُولِي دولُ الخليج العربية اهتمامًا كبيرًا بالصناعات الإبداعية القائمة على المعرفة والابتكار، وتوجيه طاقات الشباب نحو الأفكار الجديدة. ومن المنتظر مع انتهاء دول الخليج من تنفيذ كثير من مشاريعها ومبادراتها الإبداعية، أن يُساهم ذلك في دعم مكانتها الثقافية، وزيادة القيمة المضافة للصناعات الإبداعية في الاقتصادات الخليجية، وزيادة التنويع الاقتصادي لديها، بما يقود إلى أن تتحول دول الخليج إلى مركز إقليمي للصناعات الإبداعية.
رابعا: التجربة المصرية في الصناعات الإبداعية
تفيد مؤشرات الاقتصاد والتكنولوچيا الدولية، بأن أداء مصر يمثل نقطة انطلاق مناسبة نحو تطوير قواها الناعمة وزيادة دورها في جهود التنمية المستدامة والتحول المعرفي. إذ تحتل مصر المرتبة (43) في مؤشر صادرات الخدمات الإبداعية والثقافية، والمركز (39) دوليا في مؤشر صادرات السلع الإبداعية بدليل المعرفة العالمي في عام (2018). في حين تقدر معدلات أدائها بدليل الابتكار العالمي بالمرتبة (28) من ضمن (126) دولة في مجال السلع الإبداعية في عام (2018). ومن ثم فإن التقارير التحليلية الدولية للإبداع والابتكار تعتبر هذا الأداء إحدى نقاط قوة مصر في مجال القوى الناعمة. بيد أن الأمر يتطلب أيضا زيادة استثمارات مصر في الأصول غير الملموسة من أجل تحسين معدلات أدائها في مجالات حقوق الملكية الفكرية، حيث تحتل مصر (المركز 69 عالميا)، أما على مستوى إنتاج العلامات التجارية فتحتل (المركز 101 دوليا)، ووعلى مستوى التصميمات الصناعية تحتل مصر (المرتبة 57 على المستوى العالمي).[14]
وهناك ضرورة لعودة دور مصر القيادي على مستوى المنطقة العربية في مجال «القوى الناعمة» بصفتها قوى مؤثرة في تحول مصر إلى مجتمع معرفي مبدع من ناحية، ونظرًا لدورها الفاعل في استدامة التنمية من ناحية أخرى. وتُعد الصناعات الإبداعية والثقافية المصدر الرئيسي لإنتاج القوى الناعمة لمصر. وترتكز الصناعات الإبداعية والثقافية من حيث المبدأ، على توافر رأسمال بشرى «مبدع» وقادر على الابتكار. فهي تنتج سلعاً وخدمات رمزية مثل الأفكار والرؤى والتجارب والصور والموسيقى من خلال الاستثمار في «الأصول غير الملموسة». وتعتمد قيمة المنتج في هذه السلع والخدمات الرمزية على المستهلك النهائي (المشاهد، المستمع، أو المستخدم) للشفرة أو الفكرة أو المعنى المتضمن في المنتج.[15]
فإن هناك ضرورة لأن تصيغ مصر إستراتيجية ترتكز على تميزها النسبي في مجال القوى الناعمة المعتمدة على السلع والخدمات الإبداعية والثقافية بهدف تعظيم معدلات إنتاجها وزيادة حجم صادراتها إلى محيطها العربي والشرق أوسطى، في ظل رؤية متكاملة تسعى إلى دعم جهود التنمية المستدامة.
خامسا: الصناعات الإبداعية في إفريقيا
إن إسهام أفريقيا في هذه الصناعة الشاسعة، لا يكاد يذكر، ففي حين أن القارة لديها مجموعة كبيرة من المواهب، فإنها تفتقر إلى البنية التحتية والقدرة على تسويق موهبتها الإبداعية وجني ثرواتها الكثيفة. ويتزايد الحديث عن إمكانات الصناعات الإبداعية والثقافية أن تسهم في النمو الاقتصادي في أفريقيا وبالتالي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وقد أكدت العديد من الدراسات في الدول المتقدمة على التصميم والموسيقى والحرف والأفلام والتلفزيون والأزياء والنشر والتراث والمهرجانات الثقافية والمكونات ذات الصلة في الصناعات الإبداعية والثقافية كدوافع رئيسية لخلق فرص العمل وإيرادات العملات الأجنبية وزيادة الدخل القومي ودعم الصناعات الأخرى مثل الترفيه والطباعة والسياحة والنقل.
إن التقارير تكشف أن حصة أفريقيا من الاقتصاد الإبداعي العالمي تبلغ أقل من 1٪، مع كون المشاركين الرئيسيين في هذه النسبة 1٪ هم دول الشمال الإفريقي ودولة جنوب إفريقيا. وفى المقابل تشير هذه النتائج إلى نقص الاستثمار في الصناعات الإبداعية والثقافية في القارة، وكذلك إلى إمكاناتها للنمو.[16]
شكل رقم (8): مساهمة الصناعات القائمة على حقوق المؤلف في الناتج المحلي الاجمالي في عدد من الدول الافريقية
Source: United Nations (2016). Creative Economy Report 2016. Creative Economy: A Feasible Development Option. Geneva and New York: United Nations.
ويتضح من الشكل السابق أن مساهمة الصناعات القائمة على حقوق المؤلف كنسبة من الناتج المحلي الاجمالي تقترب من 6% في كينيا وتبلغ 5% في جنوب إفريقيا وتصل إلى 4% في مالاوي.
اعتمد وزراء الاتحاد الأفريقي المسئولون عن الثقافة خطة عمل الاتحاد الأفريقي فى عام 2008 بشأن الصناعات الثقافية والإبداعية، وهو التزام طموح ببدء التنمية المتسقة للقطاع في المنطقة فيما اعتمدت اليونسكو اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي في عام 2005 ووقع ثلثا البلدان الأفريقية على هذه الاتفاقية التي تدعو إلى زيادة الاستثمار في الصناعات الإبداعية والثقافية.[17]
شكل رقم (9): مساهمة الصناعات القائمة على حقوق المؤلف في توفير فرص العمل في عدد من الدول الإفريقية
Source: United Nations (2016). Creative Economy Report 2016.Creative Economy: A Feasible Development Option. Geneva and New York: United Nations.
ويتضح من الشكل السابق أن مساهمة الصناعات القائمة على حقوق المؤلف في توفير فرص العمل قد تعدت ال6% في تنزانيا، وبلغت 5% في جنوب إفريقيا، تقترب من 4% في كينيا.
تعتبر أفريقيا غنية بالمواهب والإبداع، ولكن تفتقر معظم البلدان إلى البنية التحتية والخبرة لإفادة هذه الموهبة والإبداع في مشاريع مستدامة، ونتيجة لذلك، فإن استنزاف المواهب – مثل هجرة الكفاءات – من أفريقيا يعنى أن العديد من البلدان في أوروبا وأمريكا الشمالية تستفيد من الفنانين الأفارقة اقتصاديًا أكثر مما تستفيد منه بلدان هؤلاء الفنانين.[18]
شكل رقم (10): نسبة الحاصلين على تعليم عالي من السكان المهاجرين لعدد من الدول الافريقية
المصدر: مجموعة البنك الدولي: تقرير اقتصاد جديد لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا (واشنطن: البنك الدولي، اكتوبر 2018)
ويتضح من الشكل السابق أن نسبة الحاصلين على تعليم عالي من السكان المهاجرين مرتفعة جدا في مصر تصل إلى 45%، في حين تبلغ 20% في المغرب و15.5% في الجزائر، 15% في تونس.
وفي المقابل هناك نماذج من الدول الأفريقية تستثمر في صناعة السينما، حيث تعد نيجيريا واحدة من أبرزها، فإن Nollywood نوليوود هي ثاني أكبر صناعة للأفلام في العالم – بعد الهند – من حيث عدد الأفلام المنتجة سنوياً. كما أنها ثاني أكبر قطاع يخلق فرص للعمل في نيجيريا بعد القطاع الزراعي، وتنتج حوالي 50 فيلمًا في الأسبوع بمتوسط 130 شخصًا في كل فيلم. كما يتم تصدير نموذج نوليوود الخاص بالإنتاج السريع والاستهلاك المنزلي عبر القارة الأفريقية حتى تتبنى غانا وكينيا والكاميرون ودول أخرى هذا النموذج بدلاً من النماذج الأمريكية والأوروبية التي تثبت في جنوب أفريقيا ودول شمال أفريقيا.[19]
إن أهمية الصناعات الإبداعية والثقافية لا تقتصر على قيمتها الاقتصادية فحسب، بل هي أيضاً حاضنة رئيسية للتقاليد الثقافية، والقيم الأخلاقية، والأفكار الإيديولوجية. ولهذا السبب – تناولت المناقشات في منظمة التجارة العالمية الانفتاح غير المقيد للأسواق أمام السلع والخدمات الإبداعية في التسعينيات – اعترض عدد من الدول لأنها تخشى أن تغرقها أفلام ومنتجات تلفزيونية من هوليوود على سبيل المثال، طمس صناعاتهم السمعية والبصرية الخاصة بهم، ونشر الرؤى والقيم والأفكار الأمريكية للمستهلكين. وفى هذا السياق، تم اعتماد اتفاقية اليونسكو حول حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي كأداة قانونية تمنح الحكومات الحق في الاستثمار وحماية صناعتها الإبداعية والثقافية، دون اعتبار ذلك تدخلاً غير عادل في التجارة الحرة.[20]
شكل رقم (11): مؤشر الاتساق وانتشار التعليم والتدريب في المجال التقني والمهني ونظم التعليم ما بعد الثانوي في مجال الثقافة
Source: United Nations (2016). Creative Economy Report 2016.Creative Economy: A Feasible Development Option. Geneva and New York: United Nations.
يتضح من الشكل السابق أن كل من غانا وناميبيا حققت معدات مقبولة في مؤشر الاتساق وانتشار التعليم والتدريب في المجال التقني والمهني ونظم التعليم ما بعد الثانوي في مجال الثقافة، حيث بلغت قيمة المؤشر 0.6 في غانا، و 0.8 في ناميبيا.
شكل رقم (12): توزيع عناصر مختارة من البني الأساسية الثقافية في ناميبيا
(متاحف – قاعات العرض – مكتبات ومراكز إعلامية)
Source: United Nations (2016). Creative Economy Report 2016. Creative Economy: A Feasible Development Option. Geneva and New York: United Nations.
وبحكم قلة الاستثمارات الإفريقية في الصناعات الإبداعية والثقافية، فإن أفريقيا غائبة إلى حد كبير في السوق العالمي للأفكار والقيم والجماليات، كما تنقلها الموسيقى والمسرح والأدب والسينما والتلفزيون ومن خلال الاختلال الكبير في التجارة مع البلدان الأفريقية المستوردة. ويحدث تشويه للأفكار والقيم والمنظورات الإفريقية المضمنة في السلع الإبداعية من أوروبا وأمريكا الشمالية والهند والبرازيل والصين. ولكي تحتل أفريقيا مكانتها في الساحة العالمية للأفكار والجماليات، ولزيادة حصتها السوقية في الاقتصاد الإبداعي العالمي، سيكون هناك حاجة إلى رؤية أكبر وإرادة سياسية من جانب كل من الحكومة والقطاع الخاص للاستثمار في جميع جوانب سلسلة القيمة: التعليم، الإنتاج، التوزيع، الاستهلاك.[21]
وهناك ضرورة إلى دعم وتحفيز المنافسة في القطاع المصرفي للبنوك مع الاحتفاظ بمراكزها المهيمنة وبذل جهد أكبر نحو الابتكار وتقديم خدمات جديدة، واستحداث لوائح تنظيمية جديدة تكفل سبل الحماية من المخاطر. فهذا من شأنه تمهيد السبيل إلى ظهور مؤسسات غير مصرفية تعرض أنظمة للمدفوعات الرقمية مثل نظام دفع وتحويل الأموال بين الأفراد في كينيا (MPESA) الذي ساعد على توسيع رقعة الشمول المالي، ودعم التجارة الإلكترونية.
شكل رقم (13): سرعة اتصالات النطاق العريض الثابت في عدد من الدول الإفريقية
المصدر: مجموعة البنك الدولي: تقرير اقتصاد جديد لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا (واشنطن: البنك الدولي، اكتوبر 2018)
يتضح من الشكل السابق أن سرعة اتصالات النطاق العريض الثابت تحتاج المزيد من الدعم في إفريقيا حيث تصل إلى 20 ميجاوات في الثانية في المغرب ولكنها تقل عن 10 ميجاوات في الثانية في مصر وتونس، وأقل من 5 ميجاوات في الثانية في الجزائر.
شكل رقم (14): المشتركون في خدمات النطاق العريض للخطوط الثابتة في دول افريقيا جنوب الصحراء
المصدر: مجموعة البنك الدولي: تقرير اقتصاد جديد لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا (واشنطن: البنك الدولي، اكتوبر 2018)
شكل رقم (15): المشتركون في خدمات الهاتف المحمول في دول افريقيا جنوب الصحراء
المصدر: مجموعة البنك الدولي: تقرير اقتصاد جديد لمنطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا (واشنطن: البنك الدولي، اكتوبر 2018)
ويتضح من الشكلين السابقين أنه يصل المشتركون في خدمات الهاتف المحمول إلى 80 مشترك لكل 100 من السكان في دول افريقيا جنوب الصحراء، أما خدمات النطاق العريض للخطوط الثابتة لا تتعدى 3 مشترك لكل 100 من السكان.
وتُظهر الشواهد أن المؤسسات الناشئة والمشروعات الصغيرة والمتوسطة هي أكبر مصدر لخلق الوظائف وفرص العمل. وسيساعد وجود أنظمة المدفوعات الرقمية مع تيسير الحصول على خدمات إنترنت عالية السرعة على ربط هذه المؤسسات بعملائها، وزيادة إنتاجيتها، ودمجها في الاقتصاد الوطني. ويمكن أن تؤدي هذه الأنظمة إلى دمج اقتصادات الدول الإفريقية بشكل أكثر فعالية في الاقتصاد العالمي.[22]
وينبغي على الدول الإفريقية تبنِّي لوائح تنظيمية تتسم بمرونة كافية لاستيعاب الصناعات ذات التطوُّر السريع التي تمُثِّل ركائز الاقتصاد الجديد، وتبعث على الطمأنينة بدرجة كافية تتيح دخول رأس المال المُخاطر، والانتقال من مشروعات ناشئة إلى مؤسسات أعمال قادرة على النمو وخلق الوظائف. فهذا من شأنه أن يُشجِّع على ظهور شركات وطنية رائدة تُحرِّكها المواهب المحلية.
وتحتاج شركات التكنولوجيا المحلية إلى الظروف المناسبة لكي تنمو إلى الحد الذي يمكنها فيه تحقيق مكانة عالمية، وتكون مؤهلة للدخول في شراكة مع عمالقة التكنولوجيا في العالم. وسيتطلَّب هذا اكتساب وتعبئة المهارات المناسبة، ومن ذلك الاستفادة من المهارات والمعارف لدى المغتربين من أبناء الوطن. ويُمكن للمنصات المحلية في إفريقيا أن تبدأ بتقديم حلول محلية لمشكلات محلية، وترتبط في نهاية المطاف بسلاسل القيمة العالمية.
خاتمة
إن تأثير الاقتصاد الابداعى أوسع مما يمكن قياسه بواسطة الناتج الاقتصادي، لأنها آلية لإعادة بناء نسيج المدن وتقديم العمالة والاندماج الاجتماعي، حيث تعتمد الشركات الإبداعية بشكل أساسي على المهارات والفن، ولا تعتمد على رأس المال، إنها توسع في المناطق التي تكون فيها المساحات الصناعية شاغرة ومساحات العمل بأسعار معقولة، على عكس الخدمات المالية والمهنية، فهي مفتوحة للحرفيين ومن لديهم مهارات حرفية، مما يؤدي إلى الإندماج الاجتماعي.
كما أن دور الحكومة هو تطوير النظام البيئي الثقافي، مما يتطلب العمل مع المؤسسات الفنية والثقافية والتعليمية لتحقيق أقصى استفادة من إمكاناتها. ومن الضروري تشجيع وتيسير نظام إيكولوجي شامل؛ والاستفادة من الأصول الإبداعية والثقافية القائمة يمكن أن يكون العامل المساعد الخاص بها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تشجيع الاستثمار والنشاط الثقافي من خلال أطر تنظيمية وحوافز أمر لا يقل أهمية. وكل هذه الإجراءات يمكن أن تخلق الظروف الملائمة لازدهار الاقتصادات الإبداعية.
إن البلدان الإفريقية قادرة على تجهيز نفسها برؤية متفتحة لدفع التنمية الخاصة بها، وبقدرات إستراتيجية وسياسية وفكرية، وذلك من أجل فتح آفاق جديدة أمامها. إن مثل هذه الديناميكية تتطلب انتهاج سياسة فعالة لتثمين رأس المال البشري ترتكز على منظومات تعليمية ذات جودة عالية من جهة، كما تتطلب إجراء إصلاحات اقتصادية عميقة بهدف تحسين إنتاجية العمل، وانتهاج سياسات اقتصادية شاملة وقطاعية بالقارة يمكن التحكم في تطورها وتكون مرتبطة بتأمين قانوني وافي، وهذا من أجل جذب التدفقات الاستثمارية الخارجية المباشرة وتوجيهها لتحسين قاعدة البني التحتية للتنمية.
الهوامش
[1] Aksoy, A. and Robins, K. (2011). Heritage, memory, debris: Sulukule don’t forget. In Heritage, Memory & Identity. The Cultures and Globalization Series 4,
[2] Anheier, H. and Isar, Y.R. (eds.). (2008). The Cultural Economy. The Cultures and Globalization Series 2. London: SAGE Publications.
[3] United Nations (2016). Creative Economy Report 2016.Creative Economy: A Feasible Development Option. Geneva and New York: United Nations.
[4] Amin, A. and Thrift, N. (2007). Cultural economy and cities. Progress in Human Geography, 31:143–161.
[5] Anheier, H. and Isar, (2010). Cultural Expression, Creativity and Innovation. The Cultures and Globalization Series 3. London: SAGE Publications.
[6] Arab Thought Foundation (2018). The Fourth Annual Report on Cultural Development. Available at: http://arabthought.org/en/projects/4th-annual-arab-reportcultural-development.
[7] El Amrani, I. (2017). Cultural politics and cultural policy in the Arab world. In Cultural Policies in Algeria, Egypt, Jordan, Lebanon, Morocco, Palestine, Syria and Tunisia: An Introduction. Brussels and Amsterdam: Culture Resource, European Cultural Foundation and Boekman Studies.
[8] Dubai School of Government (2017). Arab Social Media Report, vol. 2, No.1, July and June 2016.
[9] Ibid.,
[10] United Nations Development Programme (UNDP) (2018). Arab Human Development Report 2018: Creating Opportunities for Future Generations. New York: UNDP.
[11] Ibid.
[12] United Nations Conference on Trade and Development, https://www.unctad.org
[13] Dubai School of Government (2017), op.cit.
[14] الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، مصر في ارقام 2019،
[15] Amar, P. (2016). Cairo Cosmopolitan: Politics, Culture, and Urban Space in the Globalized Middle East. Cairo: American University in Cairo Press.
[16] United Nations, Creative Economy Report 2016., op.cit.
[17] Azi, J.I. (2012). Appraising the role of Afrimation (African Animation) in promoting Africa’s rich cultural heritage in digital age. International Journal of Computer Graphics and Animation, 3(2/3):37-54.
[18] Bharucha, R. (2015). Alternative paradigms to the “creative economy”. In Cultural Expression, Creativity and Innovation. The Cultures and Globalization Series 3. H.
[19] Ameru (Wits University) and CAJ (2018). Mapping the Creative Industries in Gauteng, Department of Sports, Arts, Culture and Recreation, Gauteng Province, in collaboration with the British Council.
[20] Ibid.
[21] Appadurai, A. (2015). Diversity and sustainable development. In Cultural Diversity and Biodiversity for Sustainable Development. Nairobi: UNESCO and UNEP.
[22] Duxbury, N., Cullen, C. and Pascual, J. (2016). Cities, culture and sustainable development. In Cities, Cultural Policy and Governance. The Cultures and Globalization Series 5,