كتب – محمد الدابولي
تشهد مالي حراكا سياسيا صاخبا منذ أكثر من شهر حيث شهدت ساحة الاستقلال وسط العاصمة بماكو اضطرابات وتظاهرات صاخبة وحاشدة منددة بسياسة الرئيس الحالي «أبو بكر إبراهيم كيتا» ومطالبة بضرورة تنحي الرئيس عن منصبه، ويحاول الرئيس المالي «أبو بكر كيتا» في احتواء التظاهرات وطلبات المعارضة عبر سلسلة من اللقاءات والمقابلات أجراها في القصر الرئاسي مع رموز القبائل والتيارات السياسية، أسفرت في النهاية عن التوصل لخارطة طريق لتهدئة الأوضاع السياسية والاجتماعية في البلاد.
وقدمت قوي المعارضة عدة اقتراحات أخرى غير تنحي الرئيس للخروج من المآزق أبرزها بقاء الرئيس في منصبه مع صلاحيات شرفية، وتعيين وزير أول تختاره المعارضة ويكون له معظم صلاحيات رئيس البلاد، ويعمل على إعادة تأسيس الدولة المالية.
أعاد حراك «الخامس من يونيو» في مالي تسليط الضوء مرة أخري على أحد أبرز الشخصيات السياسية والدينية في المجتمع المالي خلال العقدين الماضيين ألا وهو الشيخ «محمود ديكو» الذي قاد تظاهرات ساحة الاستقلال مؤخرا مطالبا بعزل الرئيس المالي، وهو أيضا كان ضمن أبزر الوفود التي التقت الرئيس كيتا في القصر الرئاسي في بداية شهر يوليو 2020 وبناء علي هذا اللقاءات تم تهدئة الأوضاع في مالي، وفي السطور القادمة سيتم القاء الضوء على أبرز محطات «الشيخ ديكو» التاريخية:
شيخ الإسلام في غرب أفريقيا
تلقب «ديكو» بالعديد من الألقاب أبرزها شيخ الإسلام في غرب أفريقيا نظرا لعلمه الوافر، حيث ينحدر الشيخ من مدينة تمبكتو التاريخية المعروفة بمنارة العلم في الصحراء، واستكمل دراسته الشرعية في المعهد الإسلامي بمدينة بوتلميت التي تخرج منها عام 1973، ثم أكمل دراسته في السعودية وتأثر إلي حد ما بالمنهج السلفي، وفي عام 2008 ترأس المجلس الإسلامي الأعلي في مالي الذي يعد أعلي هيئة شرعية في مالي.
وعلي صعيد العمل الأهلي تقلد منصب الأمين العام لـ”جمعية مالي للاتحاد وتقدم الإسلام” التي تعد أول جمعية إسلامية تأسست في مالي عام 1980 تهدف إلي تعزيز وحدة المسلمين، كما لها دور خيري في بناء المساجد والخلاوى القرآنية وغيرها من الأنشطة التربوية والاجتماعية، كما كان مسئولا عن البرامج الإسلامية في الإذاعة، وفي عام 2000 ترأس تجمع الجمعيات الإسلامية في مالي.
السباحة عكس التيار
مع نهاية 2011 ومطلع عام 2012 تنامت سطوة التنظيمات الإرهابية في مناطق شمال مالي، خاصة مدينة تمبكتو التي ينتمي إليها «الشيخ ديكو»، ونجحت التنظيمات الإرهابية «حركة التوحيد والجهاد» وحركة «أنصار الدين» بالتعاون مع «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» في تأسيس دولة أزواد الإسلامية في إبريل 2012 مسيطرة بذلك علي مناطق شمال مالي.
وفي غمرة سطوة دعاة التنظيمات الإرهابية في شمال مالي برز دور الشيخ ديكو في مواجهة الفكر الإرهابي داعيا إلى محاربة تلك التنظيمات وإزالتها.
وفي أغسطس 2012، حاول رأب الصدع وإثناء الجماعات المتطرفة خاصة جماعة أنصار الدين عن المضي قدما في انشاء دولة إسلامية في شمال مالي، والقضاء على الدولة المالية تماما، حيث حاول التوسط بين الحكومة المالية وزعيم أنصار الدين “إياد أغ غالي” لأجل انهاء التمرد الشمالي.
ضد الإخوان
للشيخ ديكو مواقف تاريخية وقف فيها ضد مواقف جماعة الإخوان، فمع عملية السرفال التي أطلقتها فرنسا في يناير 2013 لمحاربة التنظيمات الإرهابية في شمال مالي ومنعها من السيطرة على العاصمة بماكو ، انبرت المنصات الإخوانية المنددة بالتدخل الفرنسي في شمال مالي، فخلال القمة العربية الاقتصادية المنعقدة في العاصمة السعودية الرياض في يناير 2013، صرح الرئيس المصري الأسبق والمنتمي لجماعة الإخوان «محمد مرسي» أنه يعارض التدخل الفرنسي في مالي، ويصفه بأنه يؤجج الصراع في المنطقة ولا يعمل علي حله.
وتبع إعلان مرسي قيام العديد من التنظيمات الإخوانية في موريتانيا والمغرب باصدار بيانات إعلامية منددة بالتدخل الفرنسي، ففي موريتانيا أصدر نحو 39 داعية وعالم ديني بحرمة المشاركة في الحرب والتعاون مع فرنسا واعتبارها دولة غازية، كما أطلقت جمعية العلماء المسلمين في الجزائر بيانا مشابها رافضا للحرب الفرنسية في مالي، وفي مصر دعت «الجبهة السلفية» التي أصبحت ضمن تحالف الإخوان في مرحلة ما بعد 30 يونيو أنصارها للاحتجاج أمام السفارة الفرنسية بالقاهرة للتنديد بما يسمي بالممارسات الاحتلالية الفرنسية في مالي.
وإزاء تلك الهجمة الإخوانية للتحرك الفرنسي والداعمة للتنظيمات المتطرفة في شمال مالي أفتي الشيخ ديكو بأن العمليات العسكرية الفرنسية في شمال مالي ليست موجهة ضد الإسلام، ليضع بذلك حدا لتنامي النفوذ الإخواني في الأحداث المالية المتصاعدة في ذلك الوقت، كما أكد أن التحركات الفرنسية جاءت لنجدة شعب منكوب، وأدان حملة التشويه التي أطلقتها بعض المؤسسات الدينية في الدول العربية والاسلامية.
ترتيب البيت
مثلما كان لـ«ديكو» دورا في محاربة الإرهاب في مالي ومنع التنظيمات الإرهابية من ابتلاع العاصمة بماكو وتدشين إمارة قاعدية في منطقة الصحراء، كان له دورا ملموسا في تحقيق الاستقرار السياسي في البلاد عقب سلسلة من الاضطرابات السياسية التي شهدتها البلاد في عام 2012، حيث كان من أبرز داعمي الرئيس الحالي «إبراهيم أبو بكر كيتا» في انتخابات يوليو 2013، واستمر دعم ديكو للرئيس كيتا فترة من الزمن قبل أن تتبدل الأحوال بين الطرفين نظرا لتنامي الخلافات السياسية بينهما.
الشخصية المحافظة الداعمة للأسرة الإسلامية
بعيدا عن مواقفه السياسية الشهودة له، كان للشيخ ديكو مواقف حادة وقوية ضد محاولات التغريب والعلمنة التي يتعرض لها المجتمع المالي خلال الفترة الماضية، ففي عام 2009 وقف بالمرصاد لقانون الأسرة، وفي عام 2019 قاد حراكا واسعا لمواجهة ما يسمي الفساد الأخلاقي الذي تمارسه الحكومة برئاسة رئيس الوزراء مايغا، الذي دعم مشروع تربوي هولندي يدعو إلي إدخال التربية الجنسية ضمن المقررات الدراسية للأطفال، ويتساهل بعض الشئ مع المثلية الجنسية في البلاد، ونجحت جهود ديكو في إرغام الحكومة المالية عن التخلاي عن البرنامج التربوي الهولندي في ديسمبر 2019.
ملئ الفراغ
تميز الشيخ ديكو خلال السنوات الماضية بصورة رجل الدين الضابط لإيقاع العملية السياسية والمناهض للتوجهات المتطرفة بشقيها الإسلاموي والعلماني في البلاد، إلي أنه مؤخرا وتحديدا في احتجاجات الخامس من يونيو برز ديكو كنجم سياسي قاد احتجاجات عاصفة ضد الرئيس كيتا، مستغلا الفراغ الذي أحدثه اختفاء المعارض سوميلو سيسه في 25 مارس الماضي، حيث تم اختطافه من قبل الجماعات المتطرفة.
وخلال الاحتجاجات الأخيرة برز كزعيم وطني، تمكن من تكوين قاعدة صلبة مناصرة له أطلق عليها تنسيقية الحركات والجمعيات والمتعاطفين مع الإمام ديكو، والتي تم تأسيسها في سبتمبر 2019 بعد تنحيه عن رئاسة المجلس الأعلي للمسلمين في إبريل 2019ن وفي خضم صراعه مع الرئيس كيتا رفض أية محاولات من الجهات الدولية سواء الاتحاد الأفريقي أو بعض
الدول الإقليمية كالمغرب تنقية الأجواء بينه وبين الرئيس، مؤكدا أن ما يحدث في البلاد شأن داخلي.
المواربة والترقب
تترقب الساحة السياسية في بماكو حاليا جهود الرئيس كيتا في احتواء مطالب المتظاهرين والقوي السياسية خاصة بعد الاجتماعات الأخيرة والتي شارك فيها الشيخ ديكو بنفسه، وأسفرت اللقاءات عن تخلي قوي المعارضة الرئيسية عن مطلب تنحي الرئيس عن منصبه وهو ما عده الناشطون والمتظاهرون خيانة لهم، ففي حديث أجراها الشيخ ديكو مؤخرا أوضح أن حركته لم تعد متمسكة بمطلب تنحي الرئيس لكنها ستظل تناضل من أجل تحسين النظام السياسي في البلاد، وعليه لم يعد ديكو أنصاره للخروج يوم الجمعة 10 يوليو 2020 كما فعل في الأسبوعيين الماضيين ترقبا لما سوف تشهده البلاد.
بيد أن الأوضا تزداد سوءا في البلاد حيث اقتحم متظاهرون غاضبون مقر التليفزيون الرسمي في مالي اليوم الجمعة 10 يوليو مما أدي إلي انقطاع البث، ودخول البلاد مرحلة من الفوضي والعبث، الأمر الذي سيضع الشيخ ديكو وأنصاره أمام أمرين لا ثالث لهما إما الولوج في مستنقع الفوضي أو الحفاظ على الدولة.