حسام عيد – محلل اقتصادي
خلال الأسبوع الأخير من أكتوبر 2019، صُنفت 5 دول أفريقية من بين الداعمين الأكبر في ممارسة الأعمال على مؤشر البنك الدولي لعام 2020. ففي الوقت الذي تعمل فيه جيبوتي وتوجو جاهدة على تطوير التشريعات والبيانات لتعميم الشمول المالي عبر الائتمان، تقدم كينيا بيئة مرنة في منح تراخيص للمستثمرين لاستكشاف معالم بنيتها التحتية، بينما دشنت نيجيريا وزيمبابوي وجنوب أفريقيا وسيشل مبادرات لإدخال أفريقيا عالم عصري نظيف بطموحات الاستدامة لشعوب ومجتمعات القارة السمراء.
إنها السندات الخضراء؛ آلية العالم نحو استثمار نظيف متجدد بمشروعات تتعلق أهدافها بالمناخ أو البيئة، يدعمها البنك الدولي بالمقام الأول إلى جانب شركات القطاع الخاص والحكومات.
ما يميزها عن السندات التقليدية، أنها تتيح لمصدريها الوصول إلى مستثمرين جدد، وهو ما يجعل هؤلاء المصدرين أقل اعتمادًا على أسواق معينة.
وكان أول سند أخضر أصدره البنك الدولي في 2008 مخططًا لنموذج لسوق السندات الخضراء المميّزة التي تربو قيمة المعاملات فيها اليوم على 500 مليار دولار خلال إحدى عشر عامًا.
ووفقاً لوكالة موديز لخدمات المستثمرين، من المتوقع أن يزيد إصدار السندات الخضراء العالمية بنسبة 20%، لتصل إلى 200 مليار دولار خلال عام 2019، مقارنة بـ 149.2 مليار دولار المصدرة في عام 2018.
واليوم رأت الدول الأفريقية في السندات الخضراء؛ سبيلًا نحو ازدهار ورفاهية مجتمعاتها وأجيالها الواعدة، فهي بمثابة شرارة ثورة في التفكير بشأن استدامة واسعة النطاق.
الشفافية تلبي الاستدامة
في أفريقيا أصبحت الشفافية غاية يسعى لها المستثمرون؛ بغرض معرفة كيفية توليد وتعظيم مداخيلهم وعوائدهم من أوعيتهم الاستثمارية التي يضخون فيها أموالهم، وذلك للوفاء جزئيًا بالالتزامات الواردة في أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة واتفاق باريس للمناخ (مجموعة من 17 هدفًا عالميًا اتفق عليها 193 بلدًا في عام 2015 وتتراوح من التعليم إلى الصحة والمدن المستدامة).
وتقوم مؤسسة التمويل الأفريقية بتطوير عملية تحديد وقياس ورصد الآثار الإنمائية الناتجة عن مشاريعها الخاصة في أفريقيا.
وبدوره، أكد أوليفر أندرو ممول التنمية بمؤسسة التمويل الأفريقية، أن المؤسسة تعمل بحرص على تحديد ما يعنيه الأثر التنموي للمستثمرين الأفارقة، كي يصبح لديهم وعيًا دقيقًا بالفرص المتوافرة بقطاعات الطاقة والنفط والغاز والتعدين والصناعات الثقيلة والنقل، ومدى مساهمتها في إحداث طفرة تنموية متجددة لشعوب القارة السمراء.
وشدد على أن هدف مؤسسة التمويل الأفريقية هو ضمان تقديم تقرير وافي وشفاف ودقيق عن التأثيرات المباشرة وغير المباشرة عبر سلسلة القيمة الداخلية.
ثورة أفريقيا الصامتة
وعبر السندات الخضراء، يبدو أن هناك ثورة صامتة تختمر، ستمتد آثارها لمفاصل كافة الاقتصادات الأفريقية. هكذا أكد أندرو، ممول التنمية بمؤسسة التمويل الأفريقية.
وحسب مجلة “أفريكان بيزنس”، جاءت الشرارة الأولى من مدينة جوهانسبرج العاصمة الاقتصادية لجنوب أفريقيا، حيث أصبحت أول مدينة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية تُصدِّر سندات خضراء، مما أتاح للمدينة اقتراض الأموال بأسعار فائدة أقل كثيرًا مما لو اقترضت تجاريًا، كما أظهر ذلك التزامها بالحفاظ على البيئة. وبعد ذلك بثلاثة أعوام، وتحديدًا في يوليو 2017، حذت مدينة كيب تاون، ثاني أكبر مدن البلاد، حذو جوهانسبرج.
ويُعد ذلك إنجازًا كبيرًا للسلطات في المدينتين؛ إذ يحتاج إصدار السندات إلى اكتساب مهارات مالية معقدة لتحديد المشروعات التي يمكن الاعتماد عليها كضمانات بنكية للسندات، وتقديم السندات في شكل جذّاب للمستثمرين المحتملين.
ويحتاج إصدار السندات إلى أمور أخرى بخلاف المهارات المالية؛ إذ يتطلب إقناع المستثمرين بأن السلطات المحلية تتمتع بالدعم الشعبي لمشاريعها، وبذلك تكون قادرة على تأسيس المشاريع وإدارتها، سواء كانت شبكات مواصلات أم مرافق لإعادة تدوير المخلفات، ووجود أنظمة رقابية تتسم بالشفافية لحماية استثماراتهم من الفساد.
وكان على مدينتي جوهانسبرج وكيب تاون توفير الكثير من الضمانات قبل التمكن من إصدار السندات الخضراء، ولكنهما لم يكونا وحدهما في ذلك؛ إذ لعبت الحكومة الوطنية دورًا فعالًا في ذلك.
وفي ديسمبر 2017، جذبت نيجيريا اهتمامًا دوليًا عندما أصبحت رابع دولة بالعالم تصدر سندات خضراء سيادية؛ حيث جمعت 29 مليون دولار عبر إصدار سندات مناخية معتمدة.
وفي أكتوبر 2018، أصدرت سيشل -وهي أرخبيل من 115 جزيرة معروف بشواطئه وشعبه المرجانية الجميلة- أول سند أزرق من نوعه لمساندة مشروعات مستدامة للأنشطة البحرية ومصائد الأسماك.
وكانت حصيلة هذا الإصدار 15 مليون دولار قامت سيشل بتعبئتها من مستثمرين من أمثال كلافيرت إمباكت كابيتال، ونوفين، وبرودنشيال.
وذلك السند هو الأحدث في سلسلة ابتكارات في سوق الدخل الثابت التي تعبئ التمويل من أسواق رأس المال المُخصَّصة لغرض اجتماعي مُحدَّد، ويعمل فيها المُصدِرون مع المستثمرين من أجل غرض مُعيَّن للاستثمار ويتيحون مزيدا من الشفافية بشأن التمويل.
وتُتيح هذه الأنواع من الأدوات الاستثمارية لمُصدِري السندات والمستثمرين الاستفادة من أدوات الدين المُوحَّدة التي تساند استثمارات واسعة النطاق، وتربط في الوقت نفسه الاستثمارات بأغراضها الاجتماعية.
وفي أبريل 2019، أعلن “أكسيس بنك” النيجيري جمع 41 مليون دولار من إصدار أول سندات خضراء لشركات معتمدة في أفريقيا؛ بأهداف تعزيز دور القطاع المالي في القارة السمراء.
وفي أكتوبر 2019، تمكنت كينيا من جمع 4.3 مليار شلن (41.45 مليون دولار) من أول إصدار للسندات الخضراء، لبناء مساكن طلابية صديقة للبيئة.
تعميم نهج التمويل المستدام
مؤسسة التمويل الأفريقية رأت في التمويل الأخضر المستدام نهجًا من الضرورة تعميمه على مستوى القارة السمراء، فهي كانت من أوائل المؤسسات التي وقعت اتفاقية الاعتماد الرئيسية مع صندوق المناخ الأخضر الكوري الجنوبي.
كما أنها استطاعت تأمين 100 مليون يورو لتمويل المشروعات المتعلقة بالمناخ عبر وكالة التنمية الفرنسية؛ من أجل تحسين القدرات التنافسية للمشروعات الصديقة للمناخ.
فيما وقع بنك التنمية الأفريقي وصندوق استثمار معاشات الحكومة اليابانية بروتوكول تعاون لتعزيز الاستثمارات البيئية والاجتماعية والاستثمارات في أسواق رأس المال العالمية.
وسيركز الاتفاق على توجيه الاستثمارات التنموية بالقارة السمراء لتحقيق أهداف التنمية المستدامة عبر السندات الخضراء بغرض تمويل مشاريع التخفيف من حدة المناخ والتكيف في أفريقيا، مما يقلل من الفقر وتوفير فرص العمل.
وأشار بنك التنمية الأفريقي إلى تبنيه استراتيجية علي مدى 10 سنوات تسعي لتعزيز النمو الشامل في أفريقيا ودعم انتقال البلدان الإقليمية إلى “النمو الأخضر”، من خلال أولوياته التشغيلية وتوفير فرصة ملحة لتسريع تحول القارة.
وختامًا؛ يمكن القول أن السندات الخضراء التي أصدرها البنك الدولي زادت الوعي بالتحديات المتعلقة بتغير المناخ، ودلت المستثمرين على إمكانية دعم الحلول المناخية من خلال الاستثمار الآمن دون التخلي عن العائد، وكذلك أبرزت القيمة الاجتماعية التي تحققها السندات والحاجة إلى التركيز الأشد على الشفافية.
ويبدو أن السندات الخضراء أصبحت ملاذ أفريقيا الآمن نحو استشراف نهضة قوية متدفقة في مفاصل دولها، عبر مشاريع مستدامة تدعم التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لتحقيق رفاهية شعوبها.