كتبت – د. جيهان عبدالسلام عباس
مدرس الاقتصاد – كلية الدراسات الأفريقية العليا – جامعة القاهرة
تعتبر الصين من أكثر دول العالم من حيث ارتفاع معدلات التلوث البيئي؛ فارتفاع معدلات النمو الاقتصادي بها، وتزايد قوتها الاقتصادية جاء على حساب البيئة بشكل كبير، والمشكلة أن الأمر بالنسبة للصين ليس بالسهل، فاقتصادها المتنامي واحتياجاتها تتطلب الاستمرار في استخدام الطاقة وخاصة الوقود الأحفوري، مما يتسبب بشكل كبير في رفع معدلات تلوث الهواء والتربة، وقد جاء انتشار فيروس كورونا في الصين وكأنه يعطي البيئة استراحة قصيرة من التلوث، حيث انخفض معدل التلوث بشكل كبير، وهو ما أثار الجدل مرة أخرى بشأن العلاقة بين النمو الاقتصادي والنظام البيئي، والتكاليف والعوائد الاقتصادية لكل منهما، وأن الاهتمام بأحدهما عادة ما يكون على حساب الجانب الآخر.
ومن هنا تهدف هذه الدراسة إلى التعرض للملامح الرئيسية للاقتصاد الصيني، وكيف أدى نموه الاقتصادي إلى رفع معدلات التلوث البيئي، الأمر الذي صاحبه ارتفاع كبير في حجم التكاليف الاقتصادية المخصصة لمواجهة هذا التلوث، كذلك الحال بالنسبة لمواجهة فيروس كورونا والتكاليف الاقتصادية المخصصة لمواجهته، وما سوف ينتج عنه من انعكاسات سلبية على الاقتصاد الصيني والعالمي، مع الأخذ في الاعتبار أن كلا الأزمتين متشابهتين من حيث تهديد الصحة العامة، وإلحاق خسائر باقتصاد الدولة، وهو ما يتطلب مقارنة طبيعة تلك التكاليف التي يتكبدها الاقتصاد الصيني في مواجهة الأزمتين، مع التعرض إلى العوائد الاقتصادية التي تنتج من محاولات الحد من التلوث البيئي.
أولًا- ملامح الاقتصاد الصيني:
يعد الاقتصاد
الصيني ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث استطاعت
الصين تحقيق معدلات نمو اقتصادي متسارعة في العقود الأخيرة بلغت نحو 56.6% عام 2019[1]،
وتزايد حجم الناتج المحلي الإجمالي لها ليتجاوز 11 تريليون دولار للعام ذاته،
جعلها بذلك تتفوق على عدد من القوى الاقتصادية العظمى مثل بريطانيا واليابان كما هو
موضح بالشكل رقم (1)[2]،
هذا في الوقت الذي يصل فيه عدد سكان الصين إلى 395.1 مليار نسمة وفقًا لتعداد عام 2018[3]،
وقد قامت نهضة الصين في الأساس بالاعتماد على التصنيع الكثيف واستغلال الموارد
المحلية أفضل استغلال، فضلًا عن التوجه نحو دراسة احتياجات الأسواق العالمية
والتصدير لها، لتصبح بذلك من أكبر مصدري السلع والخدمات على مستوى العالم[4].
كما قامت الصين بتخفيض مستويات الفقر والارتقاء باقتصادها بفضل تحولها إلى مركز
تصنيع للعالم، متخصص بتجميع المنتجات محليًّا بالاعتماد على اليد العاملة الرخيصة
نسبيًّا وتصدير السلع الرخيصة لجميع الدول.
شكل رقم (1) تطور الناتج المحلي الإجمالي للصين وبعض الاقتصادات الكبرى خلال الفترة (1960- 2019)
تريليون دولار
ثانيًا- التلوث البيئي في الصين وتكاليفه الاقتصادية:
أصبحت الصين في صدارة دول العالم من حيث تلوث الهواء وتلوث الماء وتدهور الأرض، وباتت سببًا لأكثر مشكلات العالم البيئية إلحاحًا؛ فالتنمية الاقتصادية السريعة التي حققتها الصين، والتي كثيرًا ما يشار إليها على أنها معجزة اقتصادية، تحولت إلى مشكلة بيئية، ومن أبرز مظاهر التلوث البيئي في الصين هو تلوث الهواء، حيث تتزايد انبعاثات الغازات الدفيئة ومن بينها ثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد النيتروجين، وثاني أكسيد الكبريت، والزرنيخ، والزئبق، وهي الغازات الضارة التي تنبعث من السيارات ومحطات توليد الطاقة والمنشآت الصناعية، حيث تعتمد الصين بنسبة من 70 إلى 75٪ من احتياجاتها من الطاقة على الوقود الأحفوري وخاصة الفحم، وتستهلك نحو 1.9 مليار طن من الفحم سنويًّا، ولذلك فإن 90% من انبعاثات الصين من ثاني أكسيد الكبريت يسببها استخدام الفحم، كما يشكل النمو الهائل في قطاع المواصلات تحديًا متناميًا يؤثر على جودة الهواء في الصين، حيث يتم تشييد أكثر من 57 ألف ميل من الطرق السريعة سنويًّا، تنزل إليها قرابة 14 ألف سيارة جديدة يوميًّا، وهكذا أدى التلوث الهوائي الناجم عن الاختناقات المرورية إلى جعل معدل الجسيمات العالقة بالهواء في بكين بما يعادل مثلًا ستة أضعاف نظيره في مدينة نيويورك[i].
يضاف إلى ذلك تلوث المياه، فعلى الرغم أن الصين رابع كبرى دول العالم من حيث المياه العذبة، فإن تزايد الطلب، والاستخدام المفرط، وانعدام الكفاءة، والتلوث، والتوزيع غير المتكافئ… أمور جعلت ثلثي المدن الصينية (البالغ عددها حوالي 660 مدينة) تعاني نقصًا شديدًا في المياه، ويرجع هذا النقص بشكل كبير إلى ضخامة الفاقد نتيجة تلوث المياه السطحية، ومواقع النفايات السامة، والمبيدات الحشرية، والأسمدة، إضافة إلى بعض الممارسات الصناعية؛ حيث تقوم نسبة 23% فقط من مجموع المصانع الصينية بمعالجة مياه صرفها كما ينبغي قبل التخلص منها، كما أن ثلث إجمالي مياه الصرف الصناعية وثلثي مياه المجاري الناتجة عن الاستخدام المنزلي، يتم تصريفها من دون أن تعالج[ii].
وعن التكاليف الاقتصادية للتلوث البيئي في الصين، يمكن القول بأن التأثيرات البيئية الناجمة عن ممارسة الأنشطة الاقتصادية أدت إلى انعكاسات خطيرة على البيئة وعلى العنصر البشري وعلى اقتصاد الدولة ككل؛ حيث أكدت معظم الدراسات الحديثة أن تلوث الهواء بالأوزون والجسيمات الدقيقة التي يسببها الضباب الدخاني قد يخلق أضرارًا بما يقدر بنحو 267 مليار يوان (38 مليار دولار) من الاقتصاد الصيني أي حوالي 0.66% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي، في شكل وفيات مبكرة وأضرار بالصحة العامة وبالمحاصيل الزراعية، كذلك نفقات المستشفيات والعيادات الخارجية، والغياب من العمل[iii]. كما يؤدي تلوث الهواء إلى أكثر من 300 ألف حالة وفاة سنويًّا، و20 مليون حالة من أمراض الجهاز التنفسي، وضعف النمو للأطفال، وزيادة خطر الإصابة بالسرطان، الأمر الذي يكلف الدولة بتكلفة صحية تصل إلى 3٪ من الناتج المحلي الإجمالي[iv]، في حين أن تقديرات التكاليف الاقتصادية الناجمة من استخدام المياه الملوثة تصل إلى 147 مليار يوان سنويًّا منها ما يسببه المطر الحمضي من أضرار بالمحاصيل الزراعية تصل إلى 30 مليار يوان، أي حوالي 1% من الناتج المحلي الإجمالي في الصين[v]، وتتطلب تنقية التربة في الصين تكاليف هائلة، فوفقًا لمجلة الإيكونومست، ستتكلف تنقية 250 ألف كيلومتر مربع في الصين نحو 000 1 تريليون دولار أمريكي، وهي مبالغ طائلة يصعب تخصيصها في هذا الإطار. ووفقًا لتقديرات البنك الدولي، تنفق الصين فعليًّا نحو 130 مليار دولار أمريكي على حماية البيئية سنويًّا، ولكن التقديرات الحكومية تشير إلى أن الدولة بحاجة إلى حوالي 350 مليار دولار أمريكي سنويًّا حتى حلول عام 2030، للوصول إلى بيئة نظيفة خالية من التلوث، وهذا الاستثمار كبير، ولكن ما يبرره هو معدل العائد المتوقع من تراجع مستويات التدهور البيئي وانخفاض معدل استنفاد الموارد بنسبة 6% من الدخل القومي الإجمالي بحلول عام 2030[vi].
وعلى الرغم من أن الصين لديها خطط لخفض تلك الانبعاثات بموجب تعهدات اتفاق باريس كأول اتفاق عالمي بشأن المناخ عام 2015، حيث وعد الاقتصاد الصيني الذي يعتمد بشكل كبير على الوقود الأحفوري بالحد من تلوث المناخ وانبعاثات الغازات الدفيئة بحلول عام 2030، وأخذ من أجل ذلك عدة قرارات ومنها ما صدر عام 2017 بقطع إمداد الكهرباء والغاز عن المصانع مؤقتًا، لتحديد المصانع التي تتبع «قوانين البيئة» من المصانع التي تخرقها، الا أن تلك الانبعاثات قد زادت بنسبة 25% وفقًا لتقديرات مركز أبحاث الطاقة النظيفة التابع لجامعة هلسنكي، وتزايد عدد المدن الصينية التي تشهد نسبًا عالية من التلوث ليشمل 169 مدينة ارتفاعا من 74 مدينة[vii].
ثالثًا – فيروس كورونا المنتشر في الصين وتكاليفه الاقتصادية:
أدى انتشار فيروس كورونا في الصين في أواخر ديسمبر 2019، إلى إغلاق العديد من المتاجر، والمصانع الإنتاجية مما أدى إلى توقف مصادر الدخل لعدد كبير من الصينين العاملين بتلك القطاعات، كما سيزيد الوباء من الضغط الواقع على العملاء الذين يحاولون تحويل سلسلة التوريد الخاصة بهم بعيدًا عن الصين، فضلًا عن الخسائر المالية الناجمة من توقف الرحلات الجوية والبرية، وتزايد خسائر القطاعات الاقتصادية الفاعلة في الصين[viii]، فضلًا عن تزايد الأعباء على الميزانية العمومية الصينية خاصة مع تخصيص الحكومة ما قيمته 6,12 مليار دولار للإنفاق على العلاج من الفيروس، ومن المتوقع أيضًا أن تتجه الحكومة الصينية نحو خفض الضرائب، وزيادة الإنفاق وخفض أسعار الفائدة لمواجهة انعكاسات الأزمة على الاقتصاد الصيني، يضاف إلى ذلك تراجع تدفق الاستثمارات الأجنبية، خاصة أن 70% من شركات ومصانع الصين تُعد استثمارات لدول أجنبية مثل الولايات المتحدة ودول أوروبية، يضاف إلى ذلك تراجع عائدات السياحة وخسائر مؤشرات البورصة، الأمر الذي يصب في تراجع معدل النمو الاقتصادي الصيني بمقدار نقطتين مئويتين بنهاية الربع الأول من عام 2020 مع ارتفاع الخسائر المالية إلى أكثر من 62 مليار دولار أمريكي، وهو السيناريو الأكثر تفاؤلًا مقارنة بحالة استمرار تفشي المرض خلال منتصف عام 2020، كما سوف ينخفض تصنيف الصين في المؤشرات الاقتصادية العالمية.
يضاف إلى ذلك خسائر قطاعات أخرى مثل السياحة، حيث تم تدميرها عندما قامت الحكومة بوضع الحجر الصحي على المراكز السكانية الرئيسية وتجنب الناس السفر خوفًا من الإصابة، وعرضت شركات السفر والفنادق وشركات الطيران الكبرى المبالغ المستردة خلال معظم شهر فبراير، بينما علقت بعض شركات الطيران خدماتها من وإلى الصين، كما تم إلغاء احتفالات الأعياد وتم إغلاق المواقع السياحية الرئيسية [ix].
كما يهدد انتشار الفيروس العمالة في الصين، حيث فقد الكثير أعمالهم نتيجة تضرر العديد من الصناعات التي عادة ما تخلق الكثير من الوظائف مثل المتاجر والعاملين بالسياحة، كذلك قطاع التكنولوجيا الذي تأثر نتيجة التباطؤ الاقتصادي، يضاف إلى ذلك أن هناك نحو 290 مليون عامل مهاجر في الصين من بين الأكثر تعرضًا للبطالة، فكثير منهم يسافرون من المناطق الريفية إلى المدن للقيام بأعمال البناء والتصنيع أو لأداء عمل منخفض الأجر، مثل طاولات الانتظار في المطاعم أو توصيل الطرود أو كعمال نظافة؛ ولكن نظرًا لأن العديد من المصانع والشركات لا تزال مغلقة، فقد يجد الملايين من هؤلاء العمال صعوبة في الحصول على وظيفة بعد انتهاء عطلة العام القمري الجديد الممتد، وهو ما يشير إلى ارتفاع معدل البطالة في الصين، فقد يصل إلى مستوى قياسي في الأشهر المقبلة من عام 2020 وقد تصل إلى 5٪ مقارنة بنحو 6.3% في عام 2019[x].
رابعًا- العلاقة بين النمو الاقتصادي والتلوث البيئي في الصين:
يظهر أوجه الشبه بين أزمتي فيروس كورنا والتلوث البيئي، أن العالم سعى نحو الحفاظ على الصحة العامة، في الوقت الذي يتسبب فيه تغير المناخ في قتل العديد من الأرواح وحدوث الكوارث الطبيعية المهددة للحياة بأكملها، فضلًا عن تأثيرها المحتمل على إنتاج الغذاء وجودة المياه، يضاف إلى ذلك مساهمة هذا التلوث في خلق العديد من الأمراض مثل الملاريا وأمراض الجهاز الهضمي والتنفسي، وهو ما لا يختلف كثيرًا عن ما تثيره أزمة انتشار مرض الكورونا من تهديد للصحة العامة أيضًا[xi]؛ فرغم الآثار الاقتصادية السلبية لانتشار فيروس كورونا في الصين وغيرها من دول العالم، إلا أنه يبدو خبرًا سارًّا لكوكب الأرض على الأقل في المدى القصير؛ حيث إن إغلاق مدينة ووهان -التي يبلغ عدد سكانها نحو 11 مليون نسمة، والتي يتفشى بها فيروس كورونا الذي أودى بحياة أكثر من 2870 حالة وفاة وحوالي 80 ألف إصابة في الصين وحدها- كإجراء احترازي وقائي لمنع تفشي المرض بشكل أكبر، الأمر الذي جعل المدينة تختلف بشكل كامل عما كانت عليه قبل الأزمة، حيث سجلت صور الأقمار الصناعية التابعة لوكالة ناسا، المدينة نظيفة خالية من التلوث كما هو موضح بالشكل رقم (2)، ففي الفترة من 1 إلى 20 يناير، ومن 10 إلى 25 فبراير 2020، شهدت مدينة ووهان وبقية مدن الصين انخفاضًا كبيرًا في التلوث يرجع جزئيًّا على الأقل إلى التباطؤ الاقتصادي الناتج عن تفشي الفيروس، حيث تراجع استخدام مصادر الطاقة الملوثة للهواء، ففي 20 فبراير 2020 كان الاستهلاك اليومي للفحم في ست محطات طاقة رئيسية أقل بنسبة 42.5٪ عن نفس الفترة من العام الماضي 2019[xii].
شكل رقم (2) تلوث الهواء في مدن الصين خلال الفترة يناير – فبراير 2020
ومن هنا تمثل قضية التلوث البيئي تحديًا للاقتصاديين؛ لأنها تلقي الضوء على أهم مجالات فشل السوق في التعبير عن ثروات المجتمع الطبيعية والتي تؤسس القاعدة التي تقوم عليها عمليات النمو الاقتصادي، ومن ثم ظهر علم الاقتصاد البيئي، ويقصد به دراسة كيفية حماية البيئة بأقل التكاليف المادية، ويُعنَى الاقتصاد البيئي بكيفية تأثير النشاط الاقتصادي والسياسي على البيئة التي نعيش فيها، ومن ناحية أخرى كيفية تأثير معايير حماية البيئة على النمو الاقتصادي؛ أي الآثار الاقتصادية للسياسات البيئية، فهي علاقة متبادلة بين الاقتصاد والبيئة، فالنشاط الاقتصادي يؤدي لتدهور البيئة, كما أن تدهور البيئة يؤثر بدوره سلبيًّا على النمو الاقتصادي بعيد المدى، حيث تقدم البيئة للاقتصاد الموارد الطبيعية التي تتحول عبر عملية الإنتاج والطاقة إلى سلع استهلاكية، ثم تعود هذه الموارد الطبيعية والطاقة في النهاية إلى البيئة في صورة مخرجات غير مرغوبة. كما يتلقى المستهلكون أيضًا خدمات بيئية مباشرة كالهواء النقي والمياه العذبة والسياحة والصيد والرحلات، وفي النهاية يستخدمون البيئة كمستودع للتخلص من المخلفات الناتجة عن استهلاك السلع والخدمات؛ وبالتالي توصف العلاقة بين البيئة والنظام الاقتصادي بأنها نظام مغلق[i].
خامسًا- مقارنة التكاليف الاقتصادية لأزمتي الكورونا والتلوث البيئي في الصين:
من خلال العرض السابق لكل من التكاليف الاقتصادية للتلوث البيئي في الصين، والتكاليف الاقتصادية نتيجة تفشي فيروس كورونا، يتضح أن الأولى هي الأكبر تكلفة والأعلى في مستوى الخسائر، كما أن التلوث البيئي يقف عقبة رئيسية في سبيل تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة التي تسعى اليها الصين وكل دول العالم، وهي التنمية التي لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب، بل تتعداها لتشير إلى مجموعة واسعة من القضايا متعددة الجوانب لإدارة الاقتصاد والبيئة والمجتمع. وهذه العناصر الثلاثة الأخيرة تشكّل الركائز للتنمية المستدامة[ii]، وعلى جانب العوائد المتوقعة من خفض التلوث البيئي، أكدت دراسة اقتصادية حديثة أن الصين إذا قامت بالسعي نحو الحد من استخدام الوقود الأحفوري الملوث للبيئة، والتوجه نحو زيادة حصة استخدام مصادر الطاقة المتجددة فإن التوقعات بشأن ذلك تتم في إطار سيناريوهين؛ الأول أن تزيد حصة الطاقة المتجددة إلى 20% فقط بحلول 2050 بالاستناد في ذلك إلى الخطة الخمسية التي سعت الصين لتحقيقها في الفترة (2011- 2015)، والثاني أن تزيد بنسبة تصل إلى 60% بحلول 2050 في إطار خطة طموحة بعيدة المدى، فإن ذلك سوف يسهم في تحسين جودة الهواء والحد من الآثار السلبية الناتجة عنه، وتحقيق فوائد اقتصادية عديدة، ففي السيناريو الأول تستطيع الدولة الحد من معدل الوفيات وإنقاصه بما يصل إلى 1750 ألف حالة سنويًّا، كما أن زيادة حصة الطاقة المتجددة يسهم في تحقيق مكاسب اقتصادية تصل إلى 9,2 مليار يوان صيني سنويًّا، أما السيناريو الثاني فسوف تكون عوائده الاقتصادية أعلى بكثير وقد تصل إلى أكثر من 5 مليار يوان صيني سنويًّا[iii].
وعن خطورة التلوث البيئي في الصين وارتفاع تكاليفه الاقتصادية وعلاقته بفيروس كورونا، أشار العديد من المسؤولين الصينين مؤخرًا إلى ذلك، حيث يقول “إيمي جافي” -مدير برنامج أمن الطاقة وتغير المناخ التابع لمجلس العلاقات الخارجية بالصين- “لنفترض أنك كنت صانع سياسة، وكنت تفكر فيما ستفعله لخفض الانبعاثات، لقد تلقيت تعليمات جيدة للغاية بعد أن أجبرتك الأزمة على الحد من التلوث”. ويؤكد على أن الفيروس يحثنا على تغيير عاداتنا بطرق يمكن أن تقدم مساهمة طويلة الأجل في حماية المناخ، عن طريق مثلًا العمل من المنزل، أو عقد المؤتمرات عبر الفيديو، أو العمل لأسابيع أقصر، أو تقليل ساعات العمل الطويلة وبالتالي الحد من اكتظاظ حركة المرور. كما يرى “جون إريكسون” -عالم الاقتصاد البيئي في معهد غوند بجامعة فيرمونت الذي يدرس نواقل الأمراض المعدية الناشئة نتيجة تغير المناخ- “أن المرة الوحيدة التي نرى فيها انخفاضًا في الانبعاثات تقل عندما تدخل البلدان -أو العالم- في حالة ركود، وهو ما يشير حقًّا إلى مدى ارتباط انبعاثات الغازات الدفيئة بالنمو الاقتصادي؛ وبالتالي تعتبر فترات الركود هي الفترات الأفضل من أجل تحسين الأوضاع المناخية، إلا أنها مروعة بالنسبة لعامة الناس خاصة بالنسبة للعمال ذوي الأجور المنخفضة الذين يعيشون بالفعل حياة محفوفة بالمخاطر”[iv].
بينما يرى فريق آخر من الاقتصاديين وخبراء الطاقة أن تراجع مستوى الإنتاج والتصنيع في الصين وانعكاساته الإيجابية على الحد من التلوث البيئي، سرعان ما يزول نظرًا لأن تراجع أسعار النفط قد يدفع نحو زيادة الطلب عليه وتجاهل البدائل الأخرى، مثل استخدام السيارات الكهربائية وهو ما صرح به “فاتح بيرول”، رئيس وكالة الطاقة الدولية، مؤكدًا على أن النفط الرخيص قد يبطئ الانتقال إلى طاقة أنظف في جميع أنحاء العالم، والبعض الاخر يرى أنخفاض أسعار النفط وتقلبها مع بداية التعافي المرتقب للاقتصاد الصيني من شأنه أن يدفع بعض الشركات نحو إعادة النظر في خططها الاستثمارية والتوجه نحو استخدام التكنولوجيا منخفضة الكربون بالاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة مثل الرياح والطاقة الشمسية لتكون بذلك أكثر أمانًا من أسعار النفط غير المستقرة، كما يمكن للحكومات أن تغتنم هذه الفرصة لسنّ سياسات جديدة منها على سبيل المثال انخفاض أسعار النفط فرصة جيدة لإلغاء الدعم للوقود الأحفوري منتهزة في ذلك انخفاض أسعار النفط، أو رفع الضرائب على المصانع التي تسبب انبعاثات ثاني أكسيد الكربون مما يدفع في النهاية نحو حماية البيئة والحد من تلوثها[v].
وأيًا كانت الآراء بشأن توقعات الاقتصاد الصيني واحتمالات عودة البيئة لما كانت عليه من مستويات التلوث العالية، تؤكد الأحداث التاريخية الماضية أن الأزمة سرعان ما تظهر مرة أخرى مع بدء تعافي الاقتصاد، وهو ما يعيد الأذهان إلى وضع ما بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008، التي أدت أيضًا إلى انخفاض كبير في انبعاثات الصين وتحسن ملحوظ في جودة الهواء، ولكن عاد الوضع أسوأ مما كان عندما أطلقت الحكومة برنامج تحفيز اقتصادي ضخم أدى إلى زيادة الانبعاثات مرة أخرى، ومثل تلك القصص لا تبشر بالخير فيما يتعلق بتحسن المناخ بشكل دائم خاصة عندما تتجاوز الدولة أزمتها وتبدأ في بناء اقتصادها مرة أخرى.
ومن هنا تعتبر الأزمات الصحية مثل تلك المتمثلة في انتشار فيروس كورونا توضح الخيارات الهامة أمام الصين والدول الأكثر تلوثًا للبيئة، فإما الاستمرار في النمو الاقتصادي أو الانكماش الاقتصادي المدار، بمعنى أن يتم الحد من نمو الإنتاج الذي يكون على حساب البيئة حتى وإن نتج عنه انكماش اقتصادي محدود، ولكن ما زالت تلك التوجهات محل للنقاش والرفض والقبول بين العديد من الاقتصاديين والسياسيين.
خاتمة:
يبقى في النهاية ضرورة أن يتم التعامل
مع تغيرات المناخ وتلوثه كحالة طوارئ لا تقل في أهميتها عن تفشي الوباء المرضي
كحالة طارئة، حيث تصل معدلات الوفاة الناتجة عن تلوث الهواء عالميًّا نحو مليون
حالة وفاة سنويًّا، كما أن تغييرات المناخ نحو مزيد من الدفء والرطوبة تزيد من
احتمالية حدوث هذه الأزمات الصحية وتفشي الفيروسات؛ وبالتالي يجب أن يكون لدينا
مستوى مماثل من التنسيق الدولي لمواجهة مخاطر تغير المناخ بدلًا من التوسع السريع
في استخدامات الوقود الأحفوري، كما أوضحت أزمة كورونا مدى الارتباط الوثيق بين دول
العالم، وبالتالي تصبح مسؤولية حماية البيئة والمناخ من التلوث مسؤولية اجتماعية
على الجميع، فليست الصين فقط التي تلوث العالم، كما أن إنتاجها لا يقتصر فقط عليها
بل تستورده العديد من الشركات، ويستخدمه المستهلكون في كل دول العالم؛ ومن هنا فإن
الاستمرار في التغير المناخي والتلوث قد يؤدي إلى أزمات أكثر إيلاما من أي شيء
رأيناه حتى الآن.
[i]) د. صالح عزب، التكاليف الاقتصادية: العلاقة المتبادلة بين الفقر والبيئة، 20 أبريل 2016، المركز العربي للبحوث والدراسات، متاح على الرابط التالي:
[ii]) James Temple , ” Why the coronavirus outbreak is terrible news for climate change” , March 9.2020 , at :
[iii]) Danish Energy Agency ,The Socioeconomics Costs Related To Air Pollution In China , at :
[iv]) coronavirus and climate change : A tale of two crisis, Op.cit .
[v]) Brad Plumer and Henry Fountain , ” Coronavirus and Climate Change ” , The New York Times , March 11, 2020 , at :
[i]) Alexander Millman, Deliang Tang and Frederica P. Perera , Air Pollution Threatens the Health of Children in China , Research Paper , American Academy For Pediatics , September 2008 , at :
[ii]) Michael Webber, Tackling China’s water pollution , Global Water Forum , October 9th, 2017, at :
https://globalwaterforum.org/2017/10/09/tackling-chinas-water-pollution/
[iii]) هديل عادل، “ضريبة تلوث الهواء بالصين.. مليون حالة وفاة و38 مليار دولار خسائر“، وكالة العين الاخبارية، 3 أكتوبر 2018، متاح على الرابط التالي:
[iv]) Alexander Millman, Deliang Tang and Frederica P. Perera , Op.cit .
[v]) The World Bank , Cost of Pollution in China: Economic Estimates of Physical Damage , at :
[vi]) Matteo Marchisio , Is China getting greener? , The International Fund for Agricultural Development (IFAD)10. June 2019 , at :
[vii]) Deutsche Welle (DW) , ” Corona and Climate Change: Atale of Two Crisis ” , 5 March.2020 , at :
[viii]) Andrew Walker Coronavirus: “The economic cost is rising in China and beyond” , BCC News , 6 February 2020 , at :
[ix]) Laura He, ” The coronavirus could cost China’s economy $60 billion this quarter. Beijing will have to act fast to avert a bigger hit“ , CNN Business , January 31, 2020, at :
[x] (Trading Economics , China Unemployment Rate, at :
– Reuters , Coronavirus could trim 1 percentage point from China GDP growth: government researcher , February 11,2020, at :
– Keith Johnson , & James Palmer , Report Knock-On Effects of China’s Coronavirus May Be Worse Than Thought, Foreign Policy Magazine . 3 February.2020, at:
[xi])Adele Peter , ” What would happen if the world reacted to climate change like it’s reacting to the coronavirus? , Fast Company, March10.2020 , at :
[xii]( Cory Stieg, ” NASA images show ‘significant decreases’ in air pollution over China amid coronavirus economic slowdown—take a look ” , 6March.2020 , at :
– Weizhen Tan , ” China’s recent air pollution levels may be telling a story about the coronavirus impact on its economy ” , Global Business and Financial News (GBFN) , 24 Feb.2020, at:
[1]) The World Bank , GDP growth (annual %) – China , at :
[2]) فرجينيا هاريسون ودانييل بالمبو، “كيف أصبحت الصين معجزة اقتصادية “، وكالة أخبار بي بي سي العربية، 2 اكتوبر 2019، متاح على الرابط التالي:
[3]) Statista , Total population of China from 1980 to 2024, at:
[4]) The World Bank In Africa , China Overview , at :