كتب – د. سمر الباجوري
أستاذ الاقتصاد المساعد – كلية الدراسات الأفريقية العليا – جامعة القاهرة
عانت الاقتصادات الأفريقية منذ عقود طويلة من اختلالات هيكلية اقتصادية، أدت إلى قصور المدخرات ومصادر التمويل المحلية الأخرى عن تلبية احتياجاتها التنموية المتزايدة، ما جعل التمويل الخارجي هو البديل أو الطريق الوحيد الذي يمكن للدول الأفريقية أن تسلكه في سبيل تمويل برامجها التنموية المختلفة. وقد أخد هذا التمويل الخارجي صورتين، إما في صورة مساعدات تنموية من جانب دول أو مؤسسات خارجية، أو في صورة استثمارات أجنبية مباشرة تنافست الدول الأفريقية في جذبها، إلا أن الواقع الأفريقي يطرح دومًا التساؤل بشأن الدور الحقيقي الذي تلعبه مثل هذه الاستثمارات في الدول الأفريقية، ومدى جدوى هذه الاستثمارات في تحقيق التنمية الاقتصادية والمحددات الاقتصادية وغير الاقتصادية لهذا الدور، فعلى مدار السنوات الماضية ورغم الترويج لما سمي بالصعود الأفريقي وتحقيق العديد من الدول لمستويات نمو اقتصادي مرتفعة تجاوزت -في بعض الدول الأفريقية قبل أزمة كوفيد19- العشر درجات مئوية، وما اقترنت به هذه المعدلات من تنامٍ لحجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى دول القارة، ظل التساؤل حول مدى شمولية واستدامة هذا النمو وحجم الدور الذي قد تلعبه هذه الاستثمارات في تحقيق التنمية الاقتصادية وليس مجرد نمو غير مستدام، وفي هذا السياق تسعى هذه الورقة إلى تحليل الأبعاد الاقتصادية للشركات والاستثمارات الأجنبية في القارة الأفريقية عبر وضع هذه الشركات وكذلك محددات دورها الاقتصادي في القارة الأفريقية.
الشركات متعددة الجنسيات في أفريقيا:
استطاعت دول القارة الأفريقية، في السنوات الأخيرة، أن تجتذب تدفقات من الاستثمار الأجنبي المباشر (عادة ما يكون في أغلبه من خلال الشركات متعددة الجنسيات) حيث بلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر المتدفق إلى القارة الأفريقية عام 2021 حوالي 40 مليار دولار، يعادل أكثر من 4 أضعاف ما كان عليه في بداية الألفينات، بل إنه وصل قبل أزمة كوفيد19 إلى حوالي 60 مليار دولار، وقد انخفضت الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى أفريقيا جراء أزمة كوفيد19 بحوالي 16% خاصة تلك الاستثمارات الموجهة للقطاعات الأولية، نتيجة انخفاض الطلب عليها وبالتالي أسعارها مع أزمة كوفيد19، وإن كان من المتوقع أن تعاود هذه الاستثمارات الارتفاع مرة أخرى عام 2022، لكن بمعدلات أقل نتيجة تباطؤ معدلات التعافي الاقتصادي في القارة الأفريقية خاصة في ظل أزمة توفير اللقاحات في دول القارة(1).
وعلى الصعيد العالمي؛ أدت جائحة كوفيد19 إلى انخفاض كبير في تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في عام 2020، لتعود تدفقاته إلى المستوى الذي كانت عليه عام 2005، فقد انخفضت تدفقات الاستثمار المباشر حول العالم بحوالي 35% لتصل إلى تريليون دولار بعد أن كانت تبلغ 1.5 تريليون دولار عام 2019، وأدت إجراءات الإغلاق في جميع أنحاء العالم إلى تباطؤ الإنتاج في المشروعات القائمة بالفعل، كذلك دفعت آفاق الركود الاقتصادي العالمي الشركات متعددة الجنسيات إلى إعادة تقييم قرارات الاستثمار في المشروعات والأسواق الجديدة، ففي الدول النامية انخفض عدد المشروعات الاستثمارية التأسيسية Greenfield investments بنسبة 42%، وانخفض عدد صفقات تمويل المشروعات الدولية بحوالي 14%، وفي أفريقيا بلغت نسبة التراجع في حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة حوالي (-16%) ليصل إلى 40 مليار دولار، وانخفض عدد المشروعات التأسيسية بنسبة 62% لتصل إلى 29 مليار دولار، في حين انخفضت عمليات الدمج ولتملك عبر الحدود بنسبة 45% لتصل إلى 3.2 مليار دولار(2).
أما على مستوى الأقاليم، فقد جاء إقليم شمال أفريقيا في المرتبة الأولى في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، واستقبل حوالي 10 مليار دولار خلال عام 2020 بانخفاض قدره 25% عن العام السابق، وجاءت مصر في المرتبة الأولى كأكبر متلقٍّ للاستثمار في القارة الأفريقية، واستحوذت وحدها على 5.9 مليار دولار. وتراجعت التدفقات الاستثمارية إلى أفريقيا جنوب الصحراء بحوالي 12% لتبلغ عام 2020 حوالي 30 مليار دولار، كان نصيب إقليم غرب أفريقيا منها 9.8 مليار دولار، استقبلت نيجيريا منها حوالي 2.4 مليار دولار. وفي وسط أفريقيا ساعدت زيادة تدفقات الاستثمار إلى جمهورية الكونغو بنسبة 19% على استقرار حجم التدفقات الاستثمارية إلى هذا الإقليم، وبلغت عام 2020 قرابة 9.2 مليار دولار. أما شرق أفريقيا فقد بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة إليه حوالي 6.5 مليار دولار، بانخفاض بلغ حوالي 16% عن عام 2019، وسجلت إثيوبيا التي تستأثر بأكثر من ثلث الاستثمارات إلى هذا الإقليم انخفاضًا بنسبة 6% في التدفقات الواردة إليها والتي بلغت عام 2020 حوالي 2.4 مليار دولار. وكذلك تراجعت حجم الاستثمارات إلى منطقة جنوب أفريقيا عام 2020 بنسبة 16%، لتصل إلى 4.3 مليار دولار، واستأثرت موزمبيق وجنوب أفريقيا بأغلب هذه الاستثمارات(3).
وتعد الولايات المتحدة الأمريكية هي المستثمر الأكبر في أفريقيا من حيث عدد المشروعات، تليها فرنسا والمملكة المتحدة. أما من حيث قيمة الاستثمارات فتأتي الصين في المرتبة الأولى بحجم استثمارات يتجاوز ضعف الاستثمارات الأمريكية أو الفرنسية، هذا بالإضافة إلى التواجد المتنامي لشركات القوى الصاعدة، الهند والبرازيل، والقوى الإقليمية كتركيا، وبعض دول الخليج العربي. أما فيما يتعلق بالاستثمارات البينية الأفريقية، فقد شهدت الاستثمارات الأفريقية البينية نموًا ملحوظًا، ومن أكبر الدول الأفريقية فيما يتعلق بالاستثمارات البينية تأتي جنوب أفريقيا في المرتبة الأولى تليها كينيا ونيجيريا ومصر والمغرب.
ولا يزال قطاع الصناعات الاستخراجية يستحوذ على النسبة الأكبر من الاستثمارات الأجنبية في أفريقيا، فيستحوذ هذا القطاع على حوالي 36% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة في أفريقيا. أما قطاع الخدمات ورغم أنه أقل القطاعات المستقبلة للاستثمارات الأجنبية في أفريقيا كحجم تدفقات إلا أن استثماراته الأجنبية ولّدت النسبة الأكبر من فرص العمل، كما أنه استحوذ على النسبة الأكبر من عدد المشروعات (77%) وتتركز استثمارات هذا القطاع في مشروعات التكنولوجيا والاتصالات والإعلام، وتليها مشروعات تجارة السلع الاستهلاكية والتجزئة، أما الاستثمارات في القطاع المالي فقد تراجعت في أفريقيا نتيجة مجموعة من العوامل أهمها تباطؤ النمو الاقتصادي وضعف البنية التحتية وخاصة البنية التكنولوجية(4). وقد شهدت الدول الأفريقية مؤخرًا اتجاهًا متصاعدًا في تدفقات الاستثمار الأجنبي في مجالات الطاقة المتجددة، فبلغت الاستثمارات الأجنبية لقطاع الطاقة المتجددة في أفريقيا حوالي 11 مليار دولار، بزيادة قدرها 28% عن عام 2019، ومن أبرز أمثلة هذه الاستثمارات مشروع توليد الطاقة الشمسية بقيمة 165 مليون دولار في بوركينا فاسو، الذي تنفذه شركةSchneider Electric Solar الفرنسية (5).
الدور الاقتصادي للشركات الأجنبية في أفريقيا:
نظريًّا من المفترض أن تساعد الاستثمارات الأجنبية المباشرة الدول النامية على تحقيق النمو الاقتصادي والتنمية من خلال دورها في خلق فرص وظيفية أكثر ونقل التكنولوجيا وزيادة القدرات الإنتاجية للدول المستضيفة، إلا أن العديد من الباحثين ينظرون إلى الشركات متعددة الجنسيات في أفريقيا باعتبارها امتدادًا للاستعمار التقليدي في القارة الأفريقية، خاصة وأن وجود هذه الشركات في القارة الأفريقية ليس حديثًا، وإنما يرجع إلى عقود طويلة منذ الاستعمار حين كانت مثل هذه الشركات الذراع الاقتصادي لاستنزاف موارد القارة الأفريقية إلى الخارج(6). واستمر وجود هذه الشركات حتى بعد الاستقلال بل إنها عادت بقوة مع ترويج مؤسسات التمويل الدولية لبرامج الإصلاح الاقتصادي والتحرير التجاري والانفتاح، وأصبح ينظر إليها باعتبارها واحدة من أهم أدوات تحقيق النمو في القارة الأفريقية، والبديل الأمثل لمشكلات نقص التمويل في دول القارة الأفريقية، وهو ما لم يحدث في حالة الدول الأفريقية فقطاعات الإنتاجية التقليدية لا تزال متخلفة، كما أن نموها الاقتصادي لا يتسم بالاستدامة وإنما هو متذبذب وفقًا لتقلبات الأسواق العالمية في ظل اقتصادات شديدة الانكشاف على العالم الخارجي، كما أنها لم تحقق بعد التنمية الاقتصادية المرجوة والمتناسبة مع حجم الاستثمارات الأجنبية في هذه القارة. كذلك عادة ما تقوم هذه الشركات بتحويل أرباحها إلى خارج الدول الأفريقية بدلًا من إعادة استثمارها داخل تلك الدول، فقد قدرت الأرباح المحولة إلى الخارج من هذه الشركات في أفريقيا بحوالي 46 مليار دولار سنويًّا، بل إن مقارنة حجم التحويلات إلى داخل القارة بحجم ما يحول خارجها يشير إلى أن أفريقيا هي التي تساهم في تكوين ثروات الدول والشركات العالمية وليس العكس(7). وبينما يدخل القارة الأفريقية قرابة 134 مليار دولار سنويًّا كتدفقات نقدية في صورة (قروض ومساعدات أو استثمارات) فالتدفقات الخارجة تبلغ حوالي 192 مليار دولار (منها حوالي 46 مليار دولار تحويلات أرباح من الشركات العاملة في أفريقيا)(8). وهو ما تم التعبير عنه في المقولة بأن القارة الأفريقية وبالرغم مما فيها من مشكلات اقتصادية متأصلة هي التي تنفق أو تقرض على الدول المتقدمة:It is Africa that is aiding the rest of the world.
ويمكن الوقوف على أهم المحددات التي تعيق الدول الأفريقية من الاستفادة من مثل هذه الاستثمارات في النقاط التالية:
أ) طبيعة القطاعات الاقتصادية التي تعمل بها الشركات الأجنبية في أفريقيا:
يتوقف حجم المنافع الاقتصادية التي يمكن أن تجنيها الدول الأفريقية من الشركات الأجنبية العاملة بها على طبيعة أو نوع القطاع الاقتصادي الذي تعمل به هذه الشركات، فقطاع البترول على سبيل المثال هو بطبيعته قطاع مغلق Enclaved sector، ما يعني أن المنافع الاقتصادية من الشركات العاملة في هذا القطاع تكون محدودة، فهو لا يخلق فرص عمل حقيقية في الدول الأفريقية البترولية إلا في مراحل الإنشاء الأولى، أما مراحل الإنتاج فتعتمد فيها هذه الشركات على عمالة خارجية. كما أنه لا يخلق طلبًا أو رواجًا في الأسواق المحلية الأفريقية نتيجة وجود البترول في حقول مائية offshore. كذلك فإن عقود الاستخراج المبرمة بين هذه الشركات وحكومات الدول الأفريقية تكون في كثير من الأحيان عقود مجحفة تتسم بانخفاض نصيب الحكومات المحلية من العوائد البترولية بالمقارنة بالعقود المماثلة في الدول غير الأفريقية، ففي غينيا الاستوائية على سبيل المثال تعد العقود المبرمة بين هذه الدولة وشركات البترول من أسوأ العقود وأكثرها إجحافًا، فقد بلغت حصة الدولة من الإيرادات البترولية حوالي 39% فقط مقارنة حتى بدول أفريقية أخرى مثل الجابون (78.4%)، ونيجيريا (70.2%) والكونغو (56.2%). كذلك بالنسبة لمزايا النقيب Signature Bonuses فتعتبر منخفضة جدًّا في غينيا الاستوائية بحيث تتراوح ما بين 500 ألف إلى مليون دولار فقط مقارنة بعشرات الملايين في الدول المجاورة بل ومئات الملايين(9).
أما في القطاعات الاستخراجية الأخرى فرغم مساهمة مثل هذه الشركات في خلق فرص عمل للسكان المحليين في الأنشطة الاستخراجية المختلفة إلا أن عوائد هذه الأنشطة عادةً ما تنتقل إلى خارج الدول. كذلك فالاتفاقات المبرمة مع هذه الشركات عادة ما تنطوي على تحقيق مكاسب ضخمة للشركات الأجنبية على حساب المصالح المحلية، فقد قُدرت خسائر الكونغو الديموقراطية من اتفاقات التعدين المبرمة خلال الفترة 2010-2012 بأكثر من مليار دولار سنويًّا نتيجة انخفاض أسعار المناجم. وفي غانا وبينما بلغت قيمة إنتاج قطاع التعدين حوالي 1.4 مليار دولار، كان نصيب الدولة فيه قرابة 48 مليون دولار فقط(10).
وفي قطاع الزراعة تزايدت الاستثمارات الأجنبية في القطاع الزراعي بشكلٍ ملاحظ في القارة الأفريقية وبعض دول الجنوب، بعد أزمة ارتفاع أسعار الغذاء العالمية، إلا أن هذه الاستثمارات الزراعية الجديدة تنطوي في كثير من الأحيان على تأجير مساحات ضخمة من الأراضي لمستثمرين أجانب بأسعار زهيدة ودون مقابل للمياه التي تُستخدم في الزراعة. ويرى العديد من الباحثين أنّ هذه الظاهرة تشكّل خطرًا على الأمن الغذائي للدول الأفريقية؛ لأنها تجعل تحديد ما تزرعه هذه الدول خاضعًا لاعتبارات وأولويات المستثمرين وليس للأولويات الوطنية للدولة. كذلك فالاستحواذ على هذه الأراضي يؤثّر على الحقوق المكتسبة للمزارعين الأفارقة، والذين يُجبرون على التخلّي عن الأراضي التي قاموا بزراعتها لسنوات وعقودٍ دون تعويضٍ مناسب في الغالب، وكمثالٍ على ذلك فقد وقّعت الحكومة الليبيرية عقد انتفاع مع إحدى الشركات الماليزية لزراعة ما يزيد على 200 هكتار لمدة 63 عامًا، ولم يتمّ إخبار المزارعين في هذه الأراضي قبل توقيع العقد، ولم يحصلوا على تعويضٍ عادل نتيجة تخليهم عنها. وتنتشر ظاهرة الاستحواذ على الأراضي الزراعية في عدة دول أفريقية، منها إثيوبيا وتنزانيا وكينيا والسودان وجنوب السودان في الشرق، ومالي وغانا في الوسط والغرب(11).
وفي مجال الصناعات الغذائية، تتركز الشركات الأجنبية العاملة في أفريقيا عادة في مجال التعبئة وليس التصنيع، ومن أبرز أمثلة ذلك شركة كوكاكولا المتواجدة في العديد من الدول الأفريقية والتي ينمو إنتاجها في أفريقيا وحدها بحوالي 5% سنويًّا منذ 2005، وتساهم في تشغيل حوالي 16% من القوى العاملة. ومن أبرز الشركات العاملة في هذا المجال كذلك شركة Anheuser-Busch InBev، الموجودة في خمس دول أفريقيا، وشركة SABMiller في جنوب أفريقيا (12).
أما عن دور الشركات الأجنبية في التشغيل فيتوقف على طبيعة النشاط الاقتصادي لهذه الشركات من جهة وعلى القوانين المنظمة لعملها في الدول الأفريقية، وكذلك مهارات القوى العاملة ومستوى التنمية البشرية ومستويات الأجور في الدول المضيفة من جهة أخرى. إلا أنه من الملاحظ أن مساهمة هذه الشركات في التشغيل لا تتناسب على الإطلاق مع حجم هذه الشركات أو أرباحها المحققة، فهي عادة ما تلجأ إلى تشغيل العمالة غير الأفريقية في الأعمال الفنية أو التقنية، أما العمالة المحلية فيتم تشغيلها في الوظائف الدنيا لاستغلال انخفاض أو فارق الأجور لتحقيق أقصى ربح ممكن. ومن أمثلة ذلك الاستثمارات الصينية في أفريقيا، التي تعتمد على استقدام عمالة صينية للعمل في مشروعاتها في القارة، فقد بلغ عدد العمّال الصينيّين في القارة الأفريقية وفقًا للتقديرات الرسمية إلى ما يزيد على 182 ألف عامل عام 2019(13).
ب) الفساد الاقتصادي:
وقد بلغت خسائر الدول الأفريقية -وفقًا لتقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلال عام 2019- من العائدات الضريبية حوالي 50 مليار دولار، نتيجة التحايل والتهرب الضريبي لهذه الشركات واستغلال الفساد، أو حتى من خلال التلاعب في حسابات وميزانيات هذه الشركات لتقليل الأرباح المسجلة، وبالتالي دفع ضرائب أقل، وهو رقم يفوق بكثير حجم المساعدات الإنمائية في القارة الأفريقية، بل إن هذه المبالغ بلغت -وفقًا لتقديرات اللجنة الاقتصادية للأمم المتحدة لأفريقيا UNECA- حوالي 100 مليار دولار سنويًّا( (14، أما تقرير OXFAM فقد ذهب إلى أن هناك فجوة في العوائد الضريبية لعام 2015 التي يتم تحصيلها من الشركات متعددة الجنسيات في أفريقيا بحوالي 50% بمعنى أن الدول الأفريقية لا تحصل إلا على نصف العوائد الضريبية المفترض أن تتحصل عليها نتيجة عمل هذه الشركات على أراضيها(15).
كذلك تستفيد هذه الشركات في الغالب من قوانين واتفاقات تعطيها مزايا تفضيلية مقارنة بالشركات الوطنية في أفريقيا، وهو الأمر الذي يؤدي إلى عدم قدرة الشركات الوطنية على منافسة هذه الكيانات الضخمة، وبالتالي يضر بالقدرات الوطنية والصناعات أو الأنشطة الإنتاجية المحلية ويمنعها من فرص النمو.
جـ) الفساد السياسي:
ذهبت العديد من الدراسات إلى أن الشركات متعددة الجنسيات كان لها دور فعال في تأجيج الصراعات الأهلية في المناطق الغنية بالموارد الطبيعية في أفريقيا، فعلى سبيل المثال دعمت شركة «إلف» حركة انفصال إقليم «بيافرا» الغني بالنفط في نيجيريا في أواخر ستينيات القرن الماضي. بل إن تقريرًا للأمم المتحدة حول الاستغلال غير المشروع للموارد الطبيعية بالكونغو عام 2002 أشار إلى دور الشركات الأجنبية في استغلال الأخشاب في غابات الكونغو واستخدام بعض هذه العوائد لتمويل تكاليف الحرب الكونغولية التي استمرت من 1998 إلى 2003، والتي خلفت عددًا كبيرًا من القتلى وصل عددهم إلى أكثر من 4 ملايين شخص. كما لعبت بعض هذه الشركات دورًا فعالًا في الإطاحة بالأنظمة غير الموالية لها خلال فترة الحرب الباردة، مثلما حدث في أنجولا، كما تورطت شركة “شل” النفطية في تمويلٍ يصل إلى 900 مليون دولار لشن حرب شرسة ضد أكبر أحزاب المعارضة الأنجولية “الاتحاد الوطني للاستقلال التام لأنجولا”، وهو الصراع الذي اتسعت دائرته ليتسبب في مقتل مئات الآلاف من مواطني الدولة (16).
كذلك فقد قامت الشركة الصينية “كون هو مينينغ” -في فترة ما بين عامي 2013 و2015 وفقًا لما ورد في تقرير منظمة جولبال ويتنس- بالتلاعب بالقانون العرفي في المنطقة، فقد استغلت فساد السلطات المحلية ودعم الميليشيات التي تسيطر على المنطقة، للحصول على مناجم الذهب في منطقة البحيرات العظمى. وبالمقابل زوّدتهم بمبالغ كبيرة وبالأسلحة وحصص من الأغذية اليومية، ثم نقلت ما استخرجته عبر البحر. ونتيجة لذلك لم يحقّق استخراج الذهب رسميًّا أي إيرادات ضريبية في منطقة جنوب كيفو(17).
د) حقوق الإنسان:
شهدت القارة الأفريقية العديد من الممارسات المناهضة لحقوق الإنسان من قبل الشركات متعددة الجنسيات العاملة على أراضيها، ولعل أبرز هذه الممارسات هو دورها في التوسع في عمالة الأطفال. فعلى سبيل المثال ورغم توقيع اتفاقية صناعية عام 2001 للقضاء على ظاهرة عمالة الأطفال في مزارع الكاكاو في غانا وساحل العاج، إلا أن شركة نستله وكارجيل وباري كاليبو ومارس وأولام وهيرشي وموندليز والتي تعد من أكبر الشركات والعلامات التجارية لا تزال تتلقى العديد من الانتقادات في ظروف التشغيل في هذه الدول، وفيما يتعلق بتشغيل الأطفال، ففي فبراير 2021 رفع ثمانية أطفال من مالي دعوى قضائية يتهمون فيها هذه الشركات بالتشغيل غير القانوني للأطفال في ظروف من العمل القسري بعد تهريبهم للعمل في مزارع الكاكاو في غانا مطالبين بتعويضات مالية من هذه الشركات(18).
وفي ديسمبر 2019، اتهمت خمس من أكبر الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا -هي ديل وأبل وتسلا ومايكروسوفت وجوجل- بالتسبب في وفيات أطفال نتيجة عملهم في استخراج الكوبالت في جمهورية الكونغو الديموقراطية، إضافة إلى التسبب في إصابة أطفال آخرين نتيجة عملهم في المناجم، وبالمثل اتهمت شركة اليابان الدولية للتبغ في جرائم عمالة أطفال في مزارع التبغ في مالاوي(19).
ومن الأمثلة الأخرى على التأثيرات المدمّرة لأنشطة الشركات متعددة الجنسيات على الجماعات المحلية: حالة «إقليم دلتا النيجر» في نيجيريا، فقد تسبّبت الحوادث المتكرّرة لتسرّب النفط، والتي قُدّرت بما يزيد عن خمسة آلاف حادثة في النصف الأول من العقد الماضي فقط، في التأثير على نشاط الزراعة وصيد الأسماك في الإقليم، وقد ساهم ذلك في ترحيل بعض الجماعات من أماكن إقامتها؛ مما يعني أنّ أنشطة الشركات النفطية قد ساهمت في زيادة البطالة والفقر بدلًا من الحدّ منهما.
ه) التأثيرات البيئية:
تُعدّ التأثيرات البيئية لمشروعات الشركات متعددة الجنسيات في أفريقيا أحد أهمّ الإشكاليات المتعلقة بدَوْرها، وتؤثر بعض الأنشطة الاقتصادية للشركات متعددة الجنسيات على نسبة تلوث المياه والهواء، خاصة فيما يتعلق بالشركات العاملة في الأنشطة الاستخراجية، فعلى سبيل المثال اتهمت شركة Shell بالتسبب في تسريب حوالي 6.4 مليون لتر من الزيوت في دلتا النيجر، كما ساهمت أنشطة تلك الشركات في تزايد نسبة تآكل الأراضي الصالحة للزراعة وتلوث المياه، خاصة في ظل عدم وجود تشريعات بيئية صارمة في الدول الأفريقية المضيفة(20).
مما سبق، يتبين أنه عند الحديث عن دور الشركات الأجنبية في أفريقيا لا يمكن إعطاء أحكام عامة حول ما إذا كان لها دور إيجابي أو سلبي، فطبيعة الدور الاقتصادي لهذه الشركات في الدول الأفريقية يخضع لمجموعة من المحددات لعل من أبرزها القطاعات الاقتصادية التي تعمل بها هذه الشركات، ومدى قدرة القطاعات الاقتصادية الأخرى في الدولة من خلق روابط أمامية وخلفية بهذه القطاعات، وبالتالي تحقيق استفادة اقتصادية من تواجد مثل هذه الشركات من خلال نقل تكنولوجيا أو خلق سلاسل إنتاج متكاملة أو إيجاد فرص فرص عمل أكبر. أما المحدد الثاني فيتمثل أساسًا في بيئة العمل في الدول الأفريقية من حيث التشريعات المنظمة لهذه الشركات، ومبادرات مكافحة الفساد، وتعزيز الشفافية من جهة، وقدرة تلك الدول على التفاوض مع مثل هذه الكيانات الاقتصادية لتحقيق أقصى منافع ممكنة للدول المضيفة.
أما فيما يتعلق بالدور التنموي لهذه الشركات، فتحليل الوضع الحالي للشركات الأجنبية في معظم الدول الأفريقية يبين أنه وإن كانت هذه الشركات تخلق فرص عمل أو تساعد في تحقيق النمو الاقتصادي إلا أنها وبالتأكيد لا تساعد هذه الدول في تحقيق التنمية والاستدامة، وذلك لأنها لم تؤد بأي حال إلى تحسين أو تحديث الهياكل الاقتصادية لتلك الدول، فالدول الأفريقية خاصة المنتجة للموارد الطبيعية لا تزال دولًا ريعية، تعتمد اقتصاداتها بصورة رئيسة على عائداتها من الموارد الطبيعية، ولم تساهم أي من هذه الأنشطة في تطوير قطاعات التصنيع في الاقتصادات الأفريقية التي تعد أساسًا لتحقيق التنمية المستدامة. وهو ما يجعل الدور التنموي للشركات الأجنبية في أفريقيا مرتبط وبصورة كبيرة بمدى قدرة هذه الدول على رسم وتخطيط هذه الاستثمارات وتوجيهها إلى القطاعات ذات الأولوية لتحقيق التنمية المستدامة.
الهوامش:
1. Soveriegn Trust Group: Forign Direct Investment to Africa Faces Strong Headwinds, July 2021, at:
2. مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد): تقرير الاستثمار العالمي 2021: الاستثمار في انتعاش مستدام (واشنطن: الأونكتاد، 2021).
3. المرجع السابق مباشرة.
4. FDI intelligence: The FDI Report 2021: Global Greenfield Investmentt Trends, 2021. at:
5. Soveriegn Trust, Op cit.
6. راوية توفيق: الشركات متعددة الجنسيات في أفريقيا: شركاء التنمية أم وكلاء الاستعمار الجديد، قراءات أفريقية، مارس 2018. في:
http://search.mandumah.com/Download?file=ePm+XQjzUb99YHpLwrU4sYpEhI94jxaFYato6cddMYs=&id=824998
7. المرجع السابق مباشرة.
8. Health Poverty Action: Honest Accounts? The True Story of Africa’s Billion Dollar Losses. 2014. at:
9. سمر الباجوري: البترول في غينيا الاستوائية: نمو بلا تنمية، آفاق أفريقية، العدد 37، القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، 2013.
10. Health Poverty Action, Op cit.
11. FDI intelligence, Op cit.
12. Katharina Felgenhauer: Big Players in African Fields, OECD, 2010. at:
http://www.oecd.org/dev/41301739.pdf
13. Statista: Chinese labor force in Africa 2009-2019. at:
14. UNECA: Multinational Corporations, Tax Avoidance and Evasion and Natural Resources Managment, UNECA, 2019. at:
15. Claire Godfrey: Africa: Rising for the Few, Oxfam International, 2015. at:
16. نهال أحمد: دور الشركات متعددة الجنسيات في تغذية الانقسامات الأفريقية، المركز العربي للبحوث والدراسات، مايو 2018. في:
http://www.acrseg.org/40754#:~:text=%D8%AA%D9%84%D8%B9%D8%A8%20%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%AA%20%D9%85%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D8%AF%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%AA%20%D8%AF%D9%88%D8%B1%D8%A7,%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%83%D8%A7%D8%AA%20%D9%81%D9%8A%20%D8%AA%D8%BA%D8%B0%D9%8A%D8%A9%20%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D8%A7%D8%AA%20%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%B1%D8%A9.
17. نيكولاس بارمان: دور الشركات المتعددة الجنسيات في العنف في أفريقيا، قراءات أفريقية، 2019. في:
18. عبداللطيف جودة: الشركات متعددة الجنسيات وتأثيرها على حقوق الإنسان في أفريقيا، مؤسسة ماعت للسلام والتنمية وحقوق الإنسان, مايو 2021. في:
19. المرجع السابق مباشرة.
20. Christopher Oyier, “Multinational Corporations and Natural Resources Exploitation in Africa: Challenges and Prospects”, Journal of Conflict Management and Sustainable Development, Vol. 1, No.2, 2017. at: