كتب – كرم سعيد
باحث متخصص في شؤون تركيا – نائب مدير تحرير مجلة الديمقراطية – مؤسسة الأهرام
ترتكز سياسة تركيا وإيران في قارة أفريقيا على فكرة توظيف المشتركات المذهبية، والمساعدات الإنمائية جنبًا إلى جنب مع تطوير المصالح الاقتصادية، والمبادلات التجارية، في محاولة لكسب المزيد من النفوذ السياسي والاقتصادي في الدول الأفريقية، وهو ما يعزز الأهمية الجيوسياسية لمنطقة غرب أفريقيا في المنظور التركي والإيراني لاعتبارات استراتيجية كثيرة دفعت البلدين إلى توظيف عدد من الأدوات لتكثيف تحركاتهما هناك؛ رغبة منهما في مزاحمة العديد من القوى الدولية الفاعلة في غرب أفريقيا لبسط الهيمنة الذي يضمن بدوره إيجاد موطئ قدم مهم لأنقرة وطهران، ويسمح لهما بالتوسع في الاستفادة من الثروات والموارد الطبيعية التي تتمتع بها دول المنطقة، إضافة إلى استثمار العلاقة مع القارة السمراء لاستيعاب ضغوط الخصوم الغربيين من جهة، والتأثير على مقاربات الخصوم من جهة أخرى.
وقد اندفعت تركيا وإيران، خلال الشهور الأخيرة، نحو تكثيف الحضور في منطقة الساحل والصحراء، وتطوير برامج الشراكة على عدة محاور، على خلفية تراجع النفوذ الفرنسي في دول غرب أفريقيا، وهو ما ظهر في إعلان الرئيس الفرنسي ماكرون في 17 فبراير الماضي عن اتجاه بلاده للانسحاب من مالي، وأنجز العسكريون الفرنسيون في أغسطس الماضي انسحابهم من البلاد في ظل توتر قائم مع المجلس العسكري الحاكم، ووسط عدائية شعبية متزايدة تجاههم[1]. كما تعرض الوجود الفرنسي لضغوط غير مسبوقة في دول الساحل، فعلى سبيل المثال تصاعدت الاحتجاجات في تشاد ضد الوجود الفرنسي، فقد تظاهر مئات الأشخاص في 14 مايو 2022 في نجامينا ضد العسكريين الفرنسيين. وفي 18 سبتمبر الماضي عمّت تظاهرات شعبية شوارع نيامي عاصمة النيجر، احتجاجًا على الوجود العسكري لفرنسا في البلاد.
بالتوازي مع ما سبق، تعرض الوجود الفرنسي لانتقادات كبيرة في بوركينا فاسو بعد الانقلاب الذي شهدته البلاد مطلع أكتوبر 2022، وإعلان إبراهيم تراوري نفسه زعيمًا للبلاد، حيث اندلع حريق في السفارة الفرنسية، كما نظم مئات المؤيدين لوصول تراوري على السلطة احتجاجًا أمام السفارة الفرنسية فضلًا عن تجمع متظاهرين مناهضين لباريس رشقوا المركز الثقافي الفرنسي في بلدة بوبو ديولاسو الجنوبية بالحجارة.[2]
وقد دفعت تلك التطورات كلًّا من إيران وتركيا إلى استثمار تراجع النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا، وكشف عن ذلك تطلعاتهما لإقامة قاعدة عسكرية بحرية على الساحل الغربي لأفريقيا في إطار سعيهما لتأكيد تواجدهما البحري في الممرات المائية الاستراتيجية من خلال تكثيف الاستثمارات في الموانئ البحرية في غرب أفريقيا.
وتنظر تركيا وإيران إلى غرب أفريقيا باعتبارها حلقة وصل مهمة للمناطق الاستراتيجية الأخرى في شمال ووسط وجنوب القارة بما في ذلك منطقة الساحل والصحراء بهدف توسيع النفوذ في القارة بشكل عام، سعيًا منهما لموازنة النفوذ الإقليمي والدولي الذي يمثل تحديًا بالنسبة لكل منهما، فكلاهما يسعى للتأثير على مصالح القوى الغربية، خاصة واشنطن التي لديها قضايا خلافية بالجملة مع أنقرة وطهران، إضافة إلى رغبة البلدين في التأثير على مقاربات القوى الإقليمية، وبخاصة العربية منها.
وتعد المقاربة الاقتصادية والعسكرية والمذهبية عاملًا حاسمًا في تزايد اهتمام كل من تركيا وإيران بمنطقة غرب أفريقيا، وتدلل عليه كثافة الاستثمارات في دول المنطقة خاصة في المشروعات الثقافية، وبعض مشروعات البنية التحتية، حيث تلعب المنح والمساعدات التركية والإيرانية المقدمة للحكومات الأفريقية دورًا بارزًا في تعزيز حضورهما على الساحة الأفريقية، في سياق رغبتهما للإمساك بمفاصل القارة وتطويع دولها لخدمة أجندتهما الخاصة. ولا تكتفي أنقرة وطهران بهذه المقاربة، بل تتجه الدولتان إلى تعزيز تعاونهما العسكري مع دول غرب أفريقيا فضلًا عن تقديم المساعدات لهذه الدول فيما تواجهه من أزمات، وفي الصدارة منها قضايا التنمية والإرهاب.
غير أن ثمة تحديات تواجه حضور تركيا وإيران على الساحة الأفريقية، فثمة شكوك عميقة لدى قطاعات واسعة من النخب الأفريقية بشأن توجهات البلدين، فبينما تتصاعد المخاوف من مساعي إيران لتشييع القارة، تعارض قوى أفريقية الانخراط التركي في بعض صراعات القارة، خاصة الأزمة في ليبيا، والنزاع بين إثيوبيا وإقليم تيجراي.
تطورات مغايرة
هناك عدد من التطورات تنعكس على طبيعة التوجه الإيراني والتركي نحو ترسيخ نفوذها في منطقة غرب أفريقيا، بعضها يرتبط بتطورات تخص أنقرة وطهران، وأخرى ترتبط بأزمة النفوذ الفرنسي، وتوجهات بعض دول الساحل والصحراء حيال باريس، ويرتبط أولها: بتوالي الانسحابات الفرنسية من منطقة غرب أفريقيا، وكشف عن ذلك إعلان باريس في 17 فبراير الماضي انسحاب قواتها من مالي، والمقدرة بنحو 2500 إلى 3000 جندي، كما سبق هذه الخطوة قرار فرنسا في يونيو 2021 إنهاء عملية “برخان” العسكرية فضلًا عن تخفيض عدد قواتها في بوركينا فاسو بعد الانقلاب العسكري الذي شهدته البلاد في مطلع أكتوبر الجاري.
ويرتبط ثانيها: باتجاه طهران وأنقرة لإعادة تموضعهما في غرب أفريقيا لملء الفراغ الذي تركته القوات الفرنسية. واللافت أنه في مقابل تراجع الحضور العسكري الفرنسي، نجحت تركيا في ترسيخ وجودها العسكري مع دول شمال وغرب أفريقيا، وكشف عن ذلك -على سبيل المثال- توقيع تركيا والنيجر في يوليو 2020 اتفاقية ستنشئ تركيا قاعدة عسكرية استراتيجية برية وجوية مع تدريب جيش النيجر، وتزويده بأحدث الأسلحة وتدريب قوات الأمن[3]. كما تنشر تركيا عددًا معتبرًا من المستشارين العسكريين في تشاد ومالي وموريتانيا.
في المقابل تمكنت إيران من تعزيز حضورها العسكري عبر الحرس الثوري الإيراني في غرب أفريقيا، خاصة في نيجيريا وغانا، حيث تتولى الوحدة 400 في فيلق القدس، المسؤولية عن تعزيز الحضور الإيراني في أفريقيا[4].
ثالثها: أن التحركات الإيرانية والتركية خلال هذه المرحلة تتزامن مع تصاعد الاحتجاجات الانتقامية ضد باريس والدول الغربية في دول غرب أفريقيا، حيثتدرك أنقرة وطهران أن انخراطهما في غرب أفريقيا يشكل تحديًا مباشرًا للمصالح الأمريكية والأوروبية بما في ذلك فرنسا. وفي هذا الإطار تحاول تركيا وإيران استغلال تراجع شعبية القوى الأوروبية خاصة فرنسا التي تشهد علاقاتها توترًا مع بعض دول المنطقة مثل مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، في توسيع دائرة تحركاتهما في المنطقة على كافة المستويات. وظهر ذلك في حرص تركيا وإيران على استثمار الاحتجاجات الشعبية الانتقامية التي تعرضت لها باريس في دول غرب أفريقيا. ومن هنا أشارت اتجاهات عديدة إلى أن تركيا لم تعد تكتفي بتطوير صورتها الذهنية الإيجابية في هذه المناطق، ولن تقتصر إيران على أذرعها الشيعية، وإنما تحاولان توظيف حالة السخط على الوجود الفرنسي فيها.
رابعها: يعود إلى تطورات الداخل التركي والإيراني وسعيهما إلى تحقيق انتصارات خارجية يمكن البناء عليها لتعويض التآكل الحادث في رصيدهما التقليدي داخليًّا، فبينما تتسع رقعة الاحتجاجات المناهضة للنظام الإيراني التي وصلت ذروتها بعدما تمددت في المركز والأطراف على خلفية مقتل الطالبة مهسا أميني في سبتمبر الماضي، تشهد المعارضة التركية صعودًا لافتًا على الساحة السياسية على خلفية تردي الأوضاع المعيشية، وفشل الحلول التقليدية لحكومة العدالة والتنمية في التحايل على الأزمة الاقتصادية للبلاد.
ويرتبط المتغير الخامس باستمرار معادلة الاشتباك بين القوى الغربية مع كل من تركيا وإيران حول عدد من القضايا الخلافية، آخرها الانحياز الإيراني إلى موسكو في الأزمة الأوكرانية ناهيك عن تعثر المفاوضات النووية بين طهران والغرب. وفي المقابل دخل مناخ العلاقة بين أنقرة والغرب مناخ الشحن مؤخرًا على خلفية انعطافة تركيا نحو موسكو، ومعارضتها العقوبات الغربية المفروضة على موسكو بسبب تدخلاتها في أوكرانيا، فضلًا عن تصاعد التوتر مع واشنطن في ظل استمرار الأخيرة في فرض عقوبات على قطاع الصناعات الدفاعية التركية.
مصالح متعددة
تكمن أهمية المصالح التركية والإيرانية الاستراتيجية في الموقع الاستراتيجي لمنطقة غرب أفريقيا الذي يلعب دورًا بارزًا في نيلها تلك المكانة بالنسبة لسياسات القوى الإقليمية، فهي تطل على الساحل الغربي للقارة عند المحيط الأطلنطي، ما يعني قربها الجغرافي -ولو نسبيًّا- من الولايات المتحدة الأمريكية التي تشتبك مع البلدين في عدد واسع من القضايا الخلافية بالإضافة إلى كونها تتصدر أولويات سياسات البلدين باعتبار أنها تمثل سوقًا اقتصادية وعسكرية واعدة. ويمكن الإشارة إلى أبرز مصالح البلدين، وتحركاتهما في غرب أفريقيا على النحو التالي:
المصالح السياسية والاستراتيجية: تُسخِّر أنقرة وطهران دبلوماسيتها لتعزيز العلاقات السياسية التي تسهم بدورها في توطيد علاقات التعاون الاقتصادي والأمني مع دول غرب أفريقيا، وذلك في إطار سياسة الباب المفتوح التي تتبناها الدولتان في أفريقيا خلال السنوات الماضية. وترتبط المصالح التركية والإيرانية في أفريقيا بما في ذلك غرب أفريقيا بعدد من الدوافع، فطهران تسعى للحصول على الدعم الأفريقي لمساندتها والدفاع عن قضاياها في المحافل الدولية، خاصة برنامجها النووي، خاصة أن أفريقيا تتمتع بكتلة تصويتية كبيرة في الأمم المتحدة، فهي تمثل حوالي 28% من إجمالي أعضاء الجمعية العمومية ، وتضم منطقة غرب أفريقيا وحدها 16 دولة أفريقية ما يجعلها كتلة تصويتية معتبرة[5]؛ يُمكن لإيران، وكذلك تركيا التي تسعى لتوظيف الصوت الأفريقي في الكيانات الدولية في حماية مصالحهما الاستراتيجية في النظام الدولي. كما تستهدف البلدان الدعم الأفريقي لسياستهما التي تهدف إلى السيطرة على محيطهما الإقليمي، خاصة في سوريا والعراق ولبنان واليمن.
أهمية الصوت الأفريقي في المؤسسات الدولية بات أكثر إلحاحًا لتركيا وإيران خلال المرحلة الحالية، خاصة مع تعرضهما لانتقادات غير مسبوقة بشأن الأوضاع الداخلية، فبينما تتهم العديد من المؤسسات الدولية إيران باستخدام العنف لإسكات الخصوم، ومواجهة الاحتجاجات، وآخرها التظاهرات التي تصاعدت حدتها في إيران، بداية من 16 سبتمبر الماضي، وكانت بسبب وفاة الفتاة العشرينية الكردية مهسا أميني بعد تعرضها للاحتجاز من قبل شرطة الإرشاد بتهمة عدم ارتداء الحجاب بشكل كامل[6].
في المقابل، تتهم تقارير دولية، وآخرها تقرير الاتحاد الأوروبي السنوي لعام 2022، والصادر مطلع أكتوبر الجاري، الذي اتهم النظام الحاكم في تركيا بالسعي لتفصيل المشهد الداخلي على مقاس طموحاته السياسية، كما اتهم الحكومة باضطهاد الخصوم، والسعي لتثبيت هيمنة الرئيس على مفاصل السلطة. كما كشف التقرير الـمُعد حول تركيا والمؤلف من 140 صفحة، عن التراجع المستمر لا سيما في القضايا الأساسية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، مؤكدًا أنه لا يوجد تقدم في التنسيق مع مكتسبات الاتحاد الأوروبي المطلوبة للعضوية[7].
المصالح الاقتصادية والتجارية: تسعى إيران، وتركيا إلى تقوية نفوذها الاقتصادي في غرب أفريقيا، وذلك من خلال تبنيهما سياسة المعونات والقروض من دون فوائد. كما يقدم البلدان نفسيهما باعتبارهما نموذجًا اقتصاديًّا مناسبًا لها، وهو ما يلقى ترحيبًا أفريقيًّا في ضوء حاجة الدول الأفريقية للمزيد من الاستثمارات الخارجية.
وينصب اهتمام إيران على تعزيز الحضور الاقتصادي في دول القارة بالأساس، على نحو عكسته تصريحات “قناد زاده” مشرف إدارة الشؤون الأفريقية بمنظمة تنمية التجارة الإيرانية، في 16 أغسطس 2022؛ حيث أكد على أن بلاده تخطط لفتح 7 مراكز تجارية جديدة في أفريقيا، بحلول نهاية عام 2023، وأضاف -في اجتماع بالدار الإيرانية الأفريقية- أنه منذ بداية العام الجاري 2022، قام 400 وفد تجاري أفريقي بزيارة البلاد، وأشار إلى أن إيران أبرمت عددًا من العقود لتطوير البنى التحتية والشحن والنقل البحري والجوي، لافتًا إلى استعدادات لتوقيع عقد مع جنوب أفريقيا لتدشين خط ملاحي جوي وخطوط بحرية أخرى.[8]
ويشار إلى أن الملف الاقتصادي كان حاضرًا، بصورة واضحة، في الجولة الأفريقية الأخيرة في أغسطس الماضي لوزير الخارجية الإيراني؛ فعلى سبيل المثال، أشار الوزير عبداللهيان الإيراني -في أثناء لقائه رئيسة تنزانيا في 26 أغسطس الماضي- إلى “الإمكانات الاقتصادية الهائلة لإيران، بما في ذلك قدراتها في مجالات التجارة والطاقة والصناعة والمجالات التكنولوجية والأكاديمية[9]. وبالتوازي مع ما سبق، تخطط طهران لزيادة حجم التبادل التجاري بين إيران والدول الأفريقية من 1.2 مليار دولار حاليًّا إلى 2.5 مليار بنهاية عام 2022، و5- 6 مليارات دولار في عام 2026. كذلك يشار إلى أن شركات صناعة السيارات الإيرانية وجدت سوقًا لتصدير منتجاتها إلى أفريقيا.
في المقابل تتطلع تركيا إلى البحث عن منافذ خارجية لتعزيز وضعية تراجعها الاقتصادي، خاصةً في ظل الثروات المعدنية الهائلة التي تمتلكها منطقة غرب أفريقيا (النفط واليورانيوم والذهب وغيرها من المعادن)، فضلًا عن الثروات الحيوانية والزراعية. وكشفت تصريحات الرئيس التركي عن أهمية أفريقيا الاقتصادية لتركيا، حيث أشار إلى أن بلاده تسعى إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع القارة الأفريقية، الذي وصل بنهاية عام 2021 إلى ما يقرب من 29 مليار دولار، منها 11 مليار دولار مع غرب أفريقيا.
ويبدو أن دول غرب تجاوبت مع رغبة تركيا في تعزيز المبادلات التجارية، خاصة مع تصاعد توتر علاقاتها مع باريس، وقد برز ذلك في زيارة المجلس العسكري الانتقالي التشادي، محمد إدريس ديبي، إلى تركيا في 27 أكتوبر 2021، ونجحت الزيارة في رفع حجم العلاقات بين البلدين لتصل من 500 مليون دولار إلى نحو 112 مليون دولار حاليًّا[10].
المصالح الأمنية والعسكرية: ترى أنقرة وطهران في اضطراب السياق الإقليمي الأمني في منطقة غرب أفريقيا بما في ذلك الساحل والصحراء، خاصة بعد الانسحاب الفرنسي، وتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية هناك، فرصة جيدة لانخراطها في معالجة القضايا الأمنية التي تمثل مدخلًا مهمًّا لتعاظم النفوذ في المنطقة.
في المقابل تحاول إيران وتركيا، بصورة لافتة، إلى تسويق صناعاتهما العسكرية في الأسواق الأفريقية بصورة أساسية. فمن جهتها نجحت إيران في عقد صفقات تسليحية معتبرة، ولعل هذا ما تجسد بوضوح في صفقات المسيرات مع بعض دول القارة، منها إثيوبيا ومالي والنيجر وتنزانيا. كما تمكنت إيران من توظيف حاجة بعض الدول الأفريقية للسلاحفي الوقت الراهن، خاصة في ظل تصاعد حدة الهجمات الإرهابية واتساع نطاقها، ولذا رجحت بعض التقديرات احتمال توسع الصادرات العسكرية الإيرانية لدول مثل مالي وتشاد، وبعض دول القارة التي تعاني من انتشار الجماعات الراديكالية.
من جهتها، سعت تركيا، بصورة لافتة، لتسويق صناعاتها العسكرية في الأسواق الأفريقية، وظهر ذلك في بدء تركيا، منذ أكتوبر 2021، التوسع في إبرام توريد الطائرات دون طيار إلى الدول الأفريقية، فعلى سبيل المثال أبرمت اتفاقيات تسليح مع إثيوبيا والنيجر وأنجولا وتشاد. ووفقًا لبيانات جمعية المصدرين الأتراك، في ديسمبر الماضي، ارتفعت مبيعات الأسلحة التركية إلى أفريقيا بــ39.7%، حيث شهدت الأشهر الـ11 الأولى من عام 2021 وصول الصادرات إلى رقم قياسي بلغ 2 مليار و793 مليون دولار[11]. كما أن الانسحاب الفرنسي من المنطقة، وإنهاء عملية “برخان”، ساهم في ترسيخ وجود تركيا في دول غرب القارة، لا سيما وأن مالي وتشاد وبوركينا فاسو بدأت لتوها في البحث عن شراكات إقليمية ودولية جديدة تستطيع من خلالها سد الخلل الأمني الذي خلفه الانسحاب الفرنسي. هنا، يمكن تفسير توجه دول غرب أفريقيا نحو توطيد التعاون الأمني والعسكري مع تركيا من خلال إبرام صفقة لشراء طائرات مسيرة تركية.
الحصول على اليورانيوم الأفريقي: يأتي الاهتمام الإيراني بتعزيز العلاقات مع أفريقيا في سياق رغبتها في الاستمرار على تأمين مخزونات إضافية من اليورانيوم، خاصة في ظل طموح إيران لبناء 16 مفاعلًا نوويًّا لإنتاج الطاقة واستخدامها لأغراض مدنية. ونظرًا لما قد يترتب على ذلك من إمكانية نفاذ مخزونها خلال فترة وجيزة، لذا بات من الأهمية بمكان الاهتمام بالدول الأفريقية المنتجة له، واعتبار العلاقة معها ذات بعد استراتيجي كبير. ومن المعروف أن هناك العديد من الدول الأفريقية التي يتواجد بها احتياطات كبيرة من اليورانيوم، منها النيجر، الأولى أفريقيًّا والرابعة عالميًّا، وناميبيا، الثانية أفريقيًّا والخامسة عالميًّا، فمالاوي، الثالثة أفريقيًّا والعاشرة عالميًّا، فضلًا عن غينيا وتوجو “غرب أفريقيا “، وأفريقيا الوسطى، والكونغو الديمقراطية، وأوغندا “وسط أفريقيا”، وزيمبابوي “جنوب أفريقيا”، جنوب القارة[12].
تثبيت الهيمنة على الطاقة الأفريقية: يأتي الاهتمام التركي بتعزيز العلاقات مع دول غرب أفريقيا في سياق اهتماماتها بتعزيز سيطرتها على قطاع الطاقة الأفريقي، خاصة أنها تعاني فقرًا شديدًا في مصادر الطاقة. كما تستهدف تركيا تثبيت هيمنتها كناقل للطاقة عالميًّا، خاصة في ظل تصاعد الاكتشافات النفطية في إقليم غرب أفريقيا، الذي يزخر بثروات هائلة، وفي مقدمتها الغاز الطبيعي والنفط، حيث تؤكد التقارير أن 70% من النفط الأفريقي يتمركز بغرب القارة، وأن نصف الاكتشافات النفطية التي شهدها العالم مؤخرًا كانت من نصيب غرب القارة، خاصة في منطقة خليج غينيا. كما يشار إلى أنه تم الإعلان في سبتمبر 2021 عن اكتشافات نفطية هائلة في ناميبيا وغانا والجابون وساحل العاج، وهو ما دفع أنقرة إلى الانخراط بصورة مكثفة في قطاع الطاقة الأفريقي، وكشفت عن ذلك تصريحات سفيرة ساحل العاج لدى أنقرة في 18 ديسمبر 2021، التي قالت -عشية مقابلة لها مع وكالة الأناضول: “نرغب في رؤية العديد من الاستثمارات التركية في بلادنا، خاصة في مجالات الطاقة والبنية التحتية”.
في السياق ذاته، ومع رفض قوى دولية وإقليمية للتحركات التركية للتنقيب عن مكامن الطاقة شرق المتوسط باعتبارها غير قانونية، تتجه أنقرة نحو منطقة غرب أفريقيا، التي تمثل حيزًا مهمًّا لمصالحها في مجال الطاقة مستقبلًا، في ظل احتياطات النفط الكبيرة بها التي قد تساعد أنقرة على تخفيض وارداتها النفطية من إيران وروسيا. لذلك ربما تكون هذه الأهمية الاستراتيجية لمشاريع الطاقة أحد المداخل التفسيرية لحرص أنقرة على تأمين وتطوير وجودها في المناطق البحرية في دول غرب أفريقيا.
تعزيز التمركز في المناطق البحرية: تتمتع القارة الأفريقية بمواقع استراتيجية على عدد واسع من المنافذ البحرية، وبخاصة البحر الأحمر والمتوسط والمحيط الهادي. ويبدو أن ثمة تطلعات إيرانية وتركية لإيجاد موطئ قدم لها هناك، في ظل رغبة البلدين في تعزيز تموضعهما في طرق الملاحة الدولية، خاصة مع إمساك القارة بعدد من الطرق البحرية التي يمكن أن توفر منصة استراتيجية للتأثير على مقاربات خصوم إيران وتركيا الدوليين والإقليميين من جهة، ومن جهة أخرى توظيف هذه الطرق كبديل محتمل لطرق الشحن والتجارة في البحر الأحمر والمحيط الهادي، حال استمرار تصاعد التوتر مع القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة والقوى الأوروبية.
استيعاب الضغوط الغربية: مع استمرار تصاعد القضايا الخلافية بين الولايات المتحدة وإيران، وفي الصدارة منها التشاؤم بشأن المفاوضات النووية بين طهران والقوى الغربية مقابل اتساع مساحات التوتر بين تركيا من جهة وواشنطن والاتحاد الأوروبي من جهة أخرى بسبب تنامي الملفات الشائكة، وأبرزها معارضة حصول تركيا على منظومة الدفاع الروسية S400، واستبعاد تركيا من برنامج إنتاج مقاتلات إف 16، ومعارضة الاتحاد الأوروبي حصول تركيا على عضويته.
في هذا السياق، يمكن فهم تحركات تركيا وإيران للبحث عن دوائر جديدة، يمكن من خلالها استيعاب الضغوط الغربية ضدهما؛ لذا تسعى طهران وأنقرة إلى تعزيز علاقاتهما مع الدول الأفريقية، خاصة دول شمال وغرب أفريقيا بشكل خاص، وهو ما تعكسه تحركات طهران وتركيا في توثيق العلاقة مع مالي والنيجر وتشاد والسنغال وغيرها، وظهر ذلك في إعلان الأولى عن فتح معرض للتكنولوجيا الفائقة في مالي خلال الفترة المقبلة، بهدف عرض المنتجات الإيرانية المتقدمة، وفتح أسواق جديدة لها في غرب أفريقيا. كما أفادت مصادر أميركية وإسرائيلية سابقًا، بتنشيط إيران خلايا نائمة في أفريقيا لاستهداف مسؤولين من دول المنطقة انتقامًا لمقتل الجنرال قاسم سليماني، القائد السابق لـ”فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، في ضربة نفذتها طائرة مسيرة أميركية قرب مطار بغداد الدولي في 3 يناير 2020، إثر اتهامه بالتخطيط لهجمات على دبلوماسيين وعسكريين أمريكيين[13].
في المقابل تعي تركيا أن تراجع نفوذ باريس يمنحها قدرة أكبر لامتلاك أوراق ضاغطة على القوى الغربية، خاصة واشنطن التي لا تزال ترى في أفريقيا نقطة استناد استراتيجية لتحجيم نفوذ خصومها، وبخاصة الصين وإيران وروسيا. ويشار إلى أن وجود مخاوف أمريكية من تراجع الدور الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، خاصة أن هذا التراجع يسمح بتمدد النفوذ التركي والإيراني جنبًا إلى جنب مع الدور الروسي. ومن ثم، فإن تنامي نفوذ أنقرة وطهران يمكن أن يمثل ثقل موازين للمصالح الغربية في أفريقيا، وهو أمر من شأنه أن يفتح آفاقًا جديدة لتعزيز التأثير التركي والإيراني في الاستراتيجية الأمريكية، ويسمح في ذات الوقت بتحييد الضغوط الغربية عليهما في الملفات الخلافية.
تداعيات محتملة
رغم أن التحديات التي تعترض تركيا وإيران في القارة الأفريقية قد تقف حجر عثرة أمام تعزيز نفوذها في غرب أفريقيا إلا أن هناك تداعيات محتملة لانخراط البلدين في غرب القارة، في الصدارة منها تكريس التنافس والاستقطاب الإقليمي، خاصة في ظل الرفض الواسع من عدد معتبر من القوى الإقليمية والدولية. ويبدو أن منطقة غرب أفريقيا ستشكل بؤرة للتنافس الخارجي الحاد خلال الفترة المقبلة، وتكريس لحالة من الاستقطاب بين دول المنطقة، عبر تشكيل تكتل إقليمي منسجم مع تركيا وآخر متوافق مع إيران، وثالث بات مواليًا لروسيا. لذلك، فإن صعود الدور التركي والإيراني في تفاعلات منطقة غرب أفريقيا، التي زادت وتيرتها بعد الانسحاب الفرنسي، يلقي بتبعات مُركّبة على ترتيبات الأمن الإقليمي في أفريقيا بشكل عام، ومنطقة غرب أفريقيا خاصة.
من ناحية أخرى، هناك تحذيرات من الانعكاسات المحتملة للخلافات التاريخية والمذهبية والسياسية بين تركيا وإيران، وهو ما قد يزيد من حدة الاستقطاب بين دول غرب أفريقيا، في ظل استمرار الملفات الشائكة والقضايا الخلافية بين أنقرة وطهران. صحيح أن المصالح الاقتصادية التي تجمع البلدين، ورغبتهما في مواجهة الضغوط الغربية عليها تجعلها أكثر تقاربًا إلا أن ذلك لا ينفي حدة التنافس الإقليمي بينهما.
خلف ما سبق، فإن التواجد التركي والإيراني في منطقة غرب أفريقيا ربما يؤدي إلى تأجيج الانقسامات السياسية والمذهبية في دول غرب أفريقيا، وتعزيز التوترات بين الجماعات المحلية، خاصة مع اتجاه إيران إلى توسيع رقعة المذهب الشيعي ودعم الموالين لها. ويشار إلى أن ثمة سمعة سيئة تلاحق إيران منذ عدة عقود في القارة الأفريقية، بسبب تورطها في دعم حركات التمرد والانقلابات، ما دفع عدة دول أفريقية إلى قطع علاقاتها مع طهران خلال السنوات الأخيرة، على غرار السنغال وغامبيا ونيجيريا، بعد رصد شحنات أسلحة أرسلها “الحرس الثوري” الإيراني لحركات متمردة في هذه البلدان.
في المقابل تتجه تركيا إلى دعم الجماعات السنية، وتعزيز حضورها في المشهد السياسي لدول غرب أفريقيا، وهو ما ينذر بتأجيج مزيد من الصراعات الداخلية، وعرقلة محاولات التسوية السياسية للأزمة الحالية.
على صعيد ذي شأن تعكس التحركات الإيرانية والتركية للهيمنة على اقتصاديات دول غرب أفريقيا، مؤشرات على احتمالية أن تشهد الفترة المقبلة مزيدًا من استنزاف موارد هذه الدول، خاصة في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية في تركيا، وانهيار سعر العملة المحلية، الليرة، وارتفاع أرصدة الديون الخارجية التي وصلت إلى مستوى قياسي. كما تعاني على الجانب الآخر من تدهور لافت في الاقتصاد بفعل استمرار العقوبات الغربية، وتعطل قطاعات إنتاجية خلال المرحلة الراهنة على خلفية الاحتجاجات التي تتوسع رقعتها في البلاد منذ منتصف سبتمبر 2022.
خاتمة
إجمالًا، تُوظِّف تركيا وإيران أدواتهما في غرب أفريقيا بشكل جيد، لا سيما الأداة الاقتصادية والأمنية إلى جانب استثمار التراجع الفرنسي في دول غرب أفريقيا، في سبيل توطيد موطئ قدم مهم لهما في المنطقة التي يمكن أن تصبح بوابة مهمة لتوسيع أنقرة وطهران دائرة تحركاتهما خلال الفترة المقبلة اعتمادًا على بعض المقاربات الأخرى مثل المقاربة السياسية والتنموية بهدف تحقيق تفوق استراتيجي ونوعي، وموازنة أدوار بعض القوى الفاعلة في المنطقة، أهمها واشنطن وباريس جنبًا إلى جنب إزعاج نفوذ القوى العربية المناهضة للتدخلات التركية والإيرانية في الإقليم.
وإذا كانت إيران وتركيا قد تمكنتا من إحداث اختراق ملموس في دول غرب أفريقيا، فإن القوى الإقليمية العربية تمتلك من الأدوات والموارد ما يجعلها أكثر قدرة على محاصرة نفوذ أنقرة وطهران، خاصة أن الانخراط التركي والإيراني في المنطقة لا يلقي ترحيبًا لدى قطاعات واسعة في دول غرب أفريقيا في ظل استمرار تبني أنقرة لسياسة التدخل في الشأن الداخلي للدول، واتجاه إيران إلى ربط جانب من مساعداتها بالسماح بنشر المذهب الشيعي. ويشار إلى أن موقع “عصر إيران” نقل عن موقع “شيعة نيوز” أنَّ عدد الشيعة في غرب أفريقيا نحو 7 ملايين شخص، وكانت إيران قد سعت خلال الـ17 سنة الماضية إلى تعزيز وجودها في غرب
أفريقيا، ما يسهّل نقل المذهب الشيعي وبناء الحوزات العلمية والمراكز الثقافية[14]. على صعيد متصل، فإن ثمة مخاوف في القارة من أن تسفر الاختراقات الإيرانية والتركية في غرب القارة عن إعادة تحول المنطقة إلى ساحة للصراع والتنافس على المكاسب الاستراتيجية ومحاولة تحجيم أدوارهما هناك؛ لذلك إذا كانت بعض الدلائل تشير إلى تصاعد النفوذ الإيراني والتركي في منطقة غرب أفريقيا خلال المرحلة المقبلة، في سياق سعيهما إلى محاولة تأمين مصالحها الاستراتيجية هناك، فإن ذلك يقتضي من القوى الإقليمية والدولية التي تتربص أنقرة وطهران بمصالحها إلى بناء استراتيجية موحدة في مواجهة التمدد التركي الإيراني غرب أفريقيا، خاصة أن دور الدولتين قد يشكل تهديدًا واضحًا لمصالح قوى الإقليم، وينعكس بشكل مباشر على أمن و
[1] – فرنسا تسحب آخر جنودها من مالي… 9 أعوام في مواجهة الإرهاب، موقع الشرق، 16 أغسطس 2022، متاح على:
[2] – انقلاب بوركينا فاسو… احتجاجات ضد فرنسا وحريق بسفارتها والرئيس المخلوع يدعو الانقلابيين إلى تجنب حرب بين الأشقاء، موقع الجزيرة، 2 أكتوبر 2022، متاح على:
[3] – تركيا توقع اتفاقية عسكرية مع النيجر، موقع الدفاع العربي العربي، متاح على:
[4] – ماهر فرغلي، الوحدة 400… ذراع إيران الإرهابية في أفريقيا، موقع حفريات، 25 نوفمبر 2021، متاح على:
[5] – د. محمد علي السقاف: أبعاد “الكتلة التصويتية” لأفريقيا في المحافل الدولية، 3 أغسطس 2021، جريدة الشرق الأوسط، متاح على:
[6] – محمد عباس ناجي، ملفات مترابطة… لماذا كان الدور الإقليمي الإيراني حاضرًا في الاحتجاجات؟ موقع الحائط العربي، 25 سبتمبر 2022، متاح على:
[7] – الاتحاد الأوروبي: تركيا تتراجع ولا تحرز أي تقدم في شروط عضويتها، أحوال تركية، 13 أكتوبر 2022، متاح على:
[8] – لماذا تهتم إيران بتطوير علاقاتها مع الدول الأفريقية؟ 2 سبتمبر 2022، متاح على:
[9] – كسر العزلة… دلالات جولة وزير الخارجية الإيراني في أفريقيا، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 5 سبتمبر 2022، متاح على:
[10] – تركيا – تشاد: اتفاقيات تعاون واستعداد لتطوير التعاون العسكري والأمني، 27 أكتوبر 2021، متاح على:
[11] – ريم محسن الكندي، استثمار ممنهج… كيف وظفت تركيا تراجع النفوذ الفرنسي في شمال وغرب أفريقيا؟ مركز تريندز، 5 يونيو 2022، متاح على:
[12] – – د. بدر حسن شافعي: الدور الإيراني في أفريقيا: المحددات التحديات، المعهد المصري للدراسات، 14 فبراير 2020، متاح على:
[13] – منى عبدالفتاح: ما هي أسباب عودة إيران لتعزيز الاتجاه نحو أفريقيا واحتمالات نجاحها؟ إندبندنت عربية، 31 يناير 2022، متاح على:
[14] – سهيلة زين العابدين حماد: الأخطبوط الإيراني… في شرق وغرب أفريقيا، صحيفة المدينة، 10 فبراير 2022، متاح على: