كتب – محمد الدابولي
مازالت الأزمة السياسية في أوغندا في حالة تصاعد مستمر، رغم انتهاء الانتخابات الرئاسية التي جرت في منتصف شهر يناير الحالي والتي أسفرت عن فوز الرئيس «يوري موسيفني» بعهدة رئاسية سادسة على التوالي، وشابت العملية الانتخابية خروقات عديدة أبرزها فرض قوات الأمن والجيش تفرض الإقامة الجبرية على «بوب واين» مرشح حزب المعارضة «منبر الوحدة الوطنية NUP» في منزله بأحد ضواحي العاصمة كمبالا قبل وبعد الانتخابات.
بدت الأزمة تأخذ الطابع الدولي مع توالي الانتقادات السياسية للنظام الحاكم في أوغندا واستمراره لفرض الإقامة الجبرية علي بوب واين، فمؤخرا اختبرت السفيرة الأمريكية في كمبالا «ناتالي براون» حالة الاقامة الجبرية المفروضة على «واين» بمحاولة زيارته إلا أن قوات الأمن حالت دون تحقيق منشودها، وهو الأمر الذي آثار حساسية دبلوماسية بين الجانبين الأوغندي الأمريكي، إذ اتهمت الحكومة الأوغندية الولايات المتحدة بالتدخل في شئونها الداخلية ودعم أحد الأطياف السياسية ومحاولة تغيير النظام السياسي في البلاد بطرق غير دستورية.
النتائج التي أعلنتها مفوضية الانتخابات أشارت إلى فوز مرشح الحزب الحاكم«حركة المقاومة الوطنية» والرئيس الحالي للبلاد «يوري موسفني» من الجولة الأولي للانتخابات بنسبة 58.64% من إجمالي الأصوات ليستمر خمس سنوات أخري في الحكم حتي عام 2026، فيما حصل مرشح المعارضة «بوب واين» على نسبة 34.48% من إجمالي أصوات الناخبين.
وتخللت الانتخابات عمليات تضييق على الحملات الانتخابية لمرشحي المعارضة خاصة حملة بوب واين تحت دعوي اتخاذ الاجراءات الاحترازية لمواجهة وباء كورونا، فالعديد من حملات واين في المدن الأوغندية لم تتم بسبب وباء كورونا، وقبل الانتخابات استمر التضييق علي الحملات الانتخابية من خلال تعليق خدمات الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في البلاد.
يسيطر موسفني على الحكم والسلطة في بلاده منذ 35 عاما، وفي سبيل تحقيق ذلك اتخذ موسيفني العديد من الأليات من أجل الوصول للسلطة والاستمرار بها بدأً من سلسة التمردات على رؤساء أوغندا السابقين مثل عيدي أمين وتيتو أوكيلو وملتون أوبوتو أسفرت في النهاية عن وصوله للسلطة في 29 يناير 1986، ونجح في استئثار السلطة قرابة عقد كامل من الزمان دون أية انتخابات، فأول انتخابات شهدتها البلاد كانت في عام 1996، ومنذ ذلك العام تم اجراء الانتخابات ستة مرات نجح فيهم موسيفني في تعزيز قبضته على السلطة والحكم في البلاد.
أولا. نسب متقاربة
لا يجوز للمعارضة السياسية في أوغندا أن تستحوذ على أكثر من ثلث أصوات الناخبين في أية انتخابات، فمنذ اجراء الانتخابات الرئاسية في عام 1996 لم تتخطي المعارضة السياسية حاجز ثلث الأصوات، وكأن تلك النتيجة مقررة سلفا، ففي الانتخابات الأولي التي أجريت في مايو 1996 حصد ممثل المعارضة « Ssemogerer» على نسبة23.7 % من إجمالي الأصوات.
أما الانتخابات الأربعة التي جرت في العقدين الأولين من الألفية الجديدة لعب الطبيب والضابط في الجيش الأوغندي «كيزا بيسيجي» دور المنافس المفضل لموسيفني خلال الانتخابات التي أجريت أعوام 2001، 2006، 2011 وأخيرا انتخابات 2016، ففي الانتخابات الثانية والتي جرت في مارس 2001 حصد بيسيجي على 27% من إجمالي الأصوات، أما الانتخابات الثالثة التي جرت في فبراير 2006 فنجح بيسجي في تحسين وضعه الانتخابي بحصوله على نسبة 37% من إجمالي أصوات الناخبين.
تراجعت نسبة الأصوات الحاصل عليها بيسجى في الانتخابات الرابعة التي جرت في فبراير 2011 لتكون 26% من إجمالي الناخبين، ومالبثت أن ارتفعت مرة أخري في انتخابات فبراير 2016 لتكون 35%، أما الانتخابات التي جرت مؤخرا في يناير 2021 لم يتخطي مرشح المعارضة روبرت كياغولاني المشهور باسم بوب واين نسبة الثلث في النتائج الانتخابية إذ حصد 34.8% من إجمالي الأصوات.
أي من النتائج السابقة للانتخابات الرئاسية الأوغندية على مدار أكثر من عقدين من الزمان تشير بوضوح إلي تحديد سقف محدد للمعارضة الأوغندية لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال وأن هذا السقف ليس هدفه مساحة حركة وحرية رأي لقوى المعارضة السياسية بقدر ما هو إلا محاولة لإظهار صورة تبدو جيدة عن النظام السياسي الأوغندي من ناحية وامتصاص غضب قوي المعارضة من ناحية أخري.
ثانيا. انهيار النظام السياسي
كشفت الانتخابات الأخيرة عن أن الأمور في البلاد الواقعة على بحيرة فيكتوريا بدأت تنسحب من تحت أقدام حاكمها الطاعن في السن، وأن هندسته السابقة للنظام السياسي في بلاده أوشكت على الانهيار وأن ثمة تغيير سياسي كبير في البلاد آتي بلا أدني شك، وأن أيام موسيفني في سدة الحكم باتت معدودة وقد لا يستطيع انفاذ مدته الدستورية في قيادة البلاد.
كانت أوغندا منذ استقلالها وحتي تولي موسيفني بؤرة عالمية لعدم الاستقرار السياسي والتمردات المسلحة والانقلابات العسكرية المتوالية فخلال 24 عاما منذ استقلالها عن بريطانيا في عام 1962 وحتي تولي موسيفني قيادة البلاد في يناير 1986 تناوب على حكم البلاد ثمانية من الرؤساء بعضهم تولي الحكم شهورا معدودة ولم يستطع أي حاكم في أوغندا قبل موسيفني أن يستمر في الحكم مدة طويلة من الزمن تصل إلي عشر أعوام فمثلا الرئيس الراحل ميلتون أوبوتو تولي الحكم مرتين الأولي في إبريل 1966 وأُقصى من الحكم في يناير 1971 على يد عيدي أمين الذي تولي الحكم خلفا لأوبوتو حتي تم اقصائه من الحكم في إبريل 1979، ومرة أخري عاد أوبوتو للحكم في الفترة من ديسمبر 1980 وحتي يوليو 1985.
وللتدليل على عدم الاستقرار السياسي في أوغندا قبل موسيفني، تناوب على رئاسة البلاد خلال الفترة من عزل أوبوتو في يوليو 1985 وصعود موسيفني في يناير 1986 اثنين من القادة العسكرين وهما بازيليو «أولار أوكيليو» و«تيتو أوكيليو»، أي أن موسيفني استلم تركة ثقيلة في يناير 1986 يعوزها الاستقرار السياسي وهو ما فطنه وعمل على تحقيقه في سنوات حكمه الأولى التي بدت مسار تقدير من الجميع إذ نجح في تحقيق استقرار في قطر أفريقي مضطرب دائما.
الديمقراطية اللاحزبية
في بداية توليه السلطة سعي موسيفني إلي تحقيق اجماع سياسي حول نظام حكمه في البلاد، ففي البداية رأي أن التجربة الحزبية في بلاده بمثابة عائق يحول دون تحقيق استقرار سياسي، إذ تتقاطعت الأحزاب في بلاده مع الانقسامات الإثنية والدينية والاقليمية في بلاده، مما دفع تلك الأحزاب لتكون آليه لتمكين فئة دون غيرها وأحد أدوات الصراع الاجتماعي.
ومن هنا ارتأي موسيفني لتحقيق الإجماع السياسي في بلاده ضرورة حل الأحزاب السياسية وبناء النظام السياسي علي أسس لاحزبية وأسماها وقتها الديمقراطية اللاحزبية، إلا أن الممارسات السياسية التي أعقبت توليه السلطة لم تسفر عن تقدم حقيقي في الديمقراطية وتحقيق الإجماع السياسي في البلاد إذ تركزت السياسات حول ترسيخ فكرة بقائه في السلطة إلي فترات طويلة فيكفي القول أن موسيفني استمر في السلطة منذ عام 1986 وحتي عام 1995 دون أية سند قانوني ودستوري.
شرعنة دستورية
في خضم التحولات السياسية في مطلع التسعيينات في أفريقيا واتجاه معظم الدول الأفريقية إلي اجراء الانتخابات والتحول نحو التعددية الحزبية، أقرت أوغندا دستورها في عام 1995 الذي حافظ على مسألة عدم الحزبية ولكنه شرع في تنظيم الانتخابات الرئاسية في البلاد والتي جرت في عام 1996 ونجح فيها موسيفني كما نجح في الانتخابات الثانية التي جرت في عام 2001.
اجهاض المعارضة
إزاء الضغوط السياسية المستمرة في البلاد باتت مسألة تتالي الانتخابات الرئاسية ليست سببا كافيا للاستحواذ على الشرعية السياسية لذا لجأت أوغندا في عام 20005 إلي العودة إلي نظام التعددية الحزبية المحسوبة وفيها تم تأمين المعارضة السياسية في البلاد بحيث تكون غير مناوئة لسلطة موسيفني ولا تسعي إلي تحقيق التداول السلمي للسطلة.
فخلال أربع انتخابات رئاسية متتالية نجح موسيفني في هندسة الانتخابات بما يسمح ببقاءه في السلطة وعدم وجود معارضة حقيقية له، فالمعارض الأبرز لموسيفنى خلال عقدين من الزمان «بيسيجي» لم يكن قادرا على إزاحة موسيفني من علي السلطة، فبعد الانتخابات الثانية في مارس 2001 تعرض بيسجي لعملية اعتقال في يونيو 2001 ووجهت له تهم تتعلق بالخيانة والوقوف وراء جماعات متمردة تتمركز في شرق جمهورية الكونغو تدعي «جيش الخلاص الشعبي» People’s Redemption Army ، مما دفعه إلي الهروب خارج البلاد في أغسطس 2001 والاستقرار في جنوب أفريقيا التي اتخذها بيسيجي كمقر لمعارضة سياسات موسيفني في أوغندا.
ومع بدء عملية التحول للتعددية السياسية الحزبية في أكتوبر 2005 عاد إلي بلاده من جديد إلا أنه في نوفمبر 2005 تم القاء القبض عليه بنفس التهمة السابقة وهي الانضمام للجماعات المتمردة مثل جيش الخلاص وجيش الرب فضلا عن تهم أخلاقية أخري متعلقة بجرائم اغتصاب تمت في نهاية التسعينيات، وأتت عملية القبض علي بيسيجي قبيل الانتخابات الرئاسية التي تمت في فبراير 2006، حيث تم الافراج عنه قبيل الانتخابات بشهر تقريبا، وبعد ذلك جري اعتقال بيسيجي أكثر من مرة بتهم تتعلق بالتمرد وإثارة الشغب.
تطور الصراع السياسي إبان الانتخابات الرئاسية في فبراير 2016 تصاعد العنف الانتخابي في العاصمة كمبالا، وتم اتهام الحكومة الأوغندية بالضلوع في تزوير الانتخابات لصالح موسيفني، إذ أعلن بيسجي نفسه ناجحا في الانتخابات وأنه تم تزوير الانتخابات لصالح موسيفني مما زاد من حدة العنف الانتخابي وتم وضع بيسجي رهن الاقامة الجبرية، ومنذ انتهاء أزمة الانتخابات الرئاسية في 2016 تتصاعد الاحتجاجات السياسية بصورة شبه مستمرة، إلا أنه الاحتجاجات الأخيرة شهدت تراجع شعبية بيسيجي في أوساط المعارضة لصالح شعبية نجم الغناء «بوب واين» الذي نجح خلال السنوات الأخيرة في اكتساب زخم سياسي كبير أهله ليكون منافسا وندا قويا لموسيفيني في انتخابات 2021، وتعزز هذا الزخم مع انسحاب بيسجي من الانتخابات لصالح واين.
تلاعب دستوري
سخر يوري موسيفي كافة الأليات الأمنية والسياسية من أجل ترسيخ حكمه وبقاءه في السلطة ومن تلك الآليات التي لجأ إليها موسيفني هي آلية التعديلات الدستورية، فمن خلال العديد من التعديلات الدستورية تم تركيز معظم السلطات في يد موسيفني.
أوضحنا في السابق أن موسيفني استغل وضع دستور للبلاد في عام 1995 من أجل تثبيت حكمه وإيجاد شرعية دستورية له وليس من أجل اتاحة المجال العام وحفظ الحقوق والحريات، ففي البداية أقر الدستور تحديد مدد رئاسة البلاد في فترتين متتاليتين فقط، إلا أن تعديلات يونيو 2005 والتي سُمح فيها بالتعددية الحزبية، ألغت مسألة وجود حد للمدد الدستورية لرئاسة البلاد، أي أصبح من حق موسيفني الترشح لأكثر من ولايتين.
وتكرر استخدام موسيفني لألية التعديلات الدستورية مرة أخري في عام 2017 حين قرر ازالة المادة المتعلقة بوضع حد أقصي لسن المترشح لرئاسة البلاد، حيث سبق أن أقر الدستور الأوغندي بأنه لا يجوز لمن تجاوز سن 75 عاما الترشح للانتخابات الرئاسية، إلا أن موسيفني استخدم آليته المفضلة في ازالة هذا القيد الذي كان سيحول دون ترشحه في الانتخابات الأخيرة.
تداعيات مقلقة
تحمل تطورات الانتخابات الأخيرة تداعيات مقلقة على مستقبل النظام السياسي الأوغندي يمكن توضيحها في النقاط التالية وهي كالآتي:
- انزواء المعارضة التقليدية: لعل من أبرز النتائج التي خلفتها الانتخابات الأخيرة في أوغندا هي انزواء وانحسار المعارضة التقليدية ليس فقط في أوغندا بل في أفريقيا، فالمعارضة التقليدية غالبا ما تنطبع عليها التوجهات الجهوية والإثنية والعرقية والدينية، إلا أن الحالة الأخيرة في اوغندا والمتمثلة في شخصية المغني بوب واين،ـ فهي أقرب للمعارضة الشعبوية التي تتخطي في سياساتها المسائل المذهبية والعرقية والجهوية.
- اظهار عجز النظام: الفارق العمري الكبير بين موسيفنى وكيغولاني، أظهر عجز قيادة النظام السياسي فموسيفني يبلغ من العمر 77 سنة في مواجهة بوب واين الذي يبلغ من العمر 39 عاما فقط، فبوب واين نجح خلال الانتخابات الأخيرة في كسب شعبية شرائح مجتمعية كبيرة خاصة الشباب الأمر الذي يمكن اعتباره بوجود فجوة جيلية بين قيادة النظام السياسي ومعظم الشباب في أوغندا الأمر الذي يهدد فعلا النظام السياسي في البلاد بنذر كارثية خلال الفترة القريبة القادمة.
- انكشاف دولي: أوضحنا فيما سبق أن تجربة موسيفنى في تحقيق الاستقرار السياسي في بلاده خاصة بعد فترة اضطرابات عيدي أمين ومن جاء بعده كانت مثار اعجاب الكثيريين، إلا أن هذا الاعجاب تتضائل مع مرور السنون وتغيير المستجدات الدولية، وما حدث خلال الانتخابات الأخيرة يعد بمثابة انكشاف الأوضاع الداخلية في أوغندا للمجتمع الدولي إذ تتوالي الانتقادات الدولية لما حدث في الانتخابات الأخيرة، فقبل اجراء الانتخابا بيوم واحد ألغت الولايات المتحدة مراقبتها للانتخابات وأعلنت افتقارها للشفافية والمساءلة، وتأتي الانتقادات الدولية للانتخابات الأوغندية في ظل اهتمام عالمي بالأحداث السياسية في منطقة البحيرات العظمي والقرن الأفريقي خاصة بعد الاضطربات السياسية الكبيرة في إثيوبيا الدولة المجاورة لأوغندا.
وأخيرا.. يبدو أن حبائل موسيفني السياسي باتت على وشك الذبول فتقدم سنه واشتداد عود المعارضة الشعبية الشبابية قد يعجلا من نهايته السياسية ويبقي تساؤل هام ما هو مستقبل البلاد في حال انحسار حكم موسيفنى، هل سينجح نجله وقائد حرسه الخاص Muhoozi Kainerugaba في وراثة الحكم خاصة أنه يتولي واحدة من أرقي الفرق العسكرية الأوغندية وهي فرقة الحرس الرئاسي، كما سبق له أن تولي عملية تأمين المنشآت النفطية في بلاده، أيه أنه يجمع بين القوتين العسكرية والاقتصادية، أم سيكون للمعارضة الشعبية بقيادة بوب واين دورا أخر.