بقلم د. أيمن شبانة
مدير مركز البحوث الأفريقية بجامعة القاهرة وأستاذ العلوم السياسية المساعد
أعلنت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم فوز رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد بجائزة نوبل للسلام للعام 2019، تقديرًا لدوره في تسوية النزاع الإثيوبي الإيريتري، ليصبح هو الشخصية رقم مائة التي تنال هذه الجائزة، ولينضم إلى قائمة شرف تضم 23 من الأفارقة الذين نالوا تلك الجائزة العالمية رفيعة المستوى في مجالاتها الخمس؛ أمثال الرؤساء أنور السادات ونيلسون مانديلا وفريدريك ديكليرك وإيلين جونسون سيريليف، والقس الجنوب أفريقي ديمزموند توتو، والناشطة الكينية وانجاري ماثاي، وغيرهم من القادة والناشطين الذين ساهموا في تحقيق السلام، ونشر قيم التسامح والتعايش والتعاون الدولي.
ينتمي أبي أحمد “43 عامًا” إلى جماعة الأورومو، وهي أكبر جماعة إثنية بإثيوبيا “40% من السكان”، وذلك لأب مسلم وأم مسيحية بروتستانتية. وقد انتُخب رئيسًا للوزراء في أبريل 2018، خلفًا لهيلاميريام ديسالين، بعدما راهنت الجبهة الديموقراطية الثورية الحاكمة بإثيوبيا على تأهيله العلمي في مجال الهندسة، وخبراته كضابط بجهاز الاستخبارات، ووزير للعلوم والتكنولوجيا، ونائب لرئيس إقليم أوروميا، وسماته الشخصية الكاريزمية، وطبيعته البراجماتية، التي تجعله يميل دائمًا للبحث عن حلول عملية للمشكلات، بعيدًا عن الاعتبارات الإيديولوجية، أو التمسك بالقوالب النمطية الجامدة، وهو ما تجلى في تجربته الفريدة، التي سعى خلالها لتحقيق المصالحة بين المسلمين والمسيحيين بمدينة جيما (مسقط رأسه).
لم ينتظر أبي أحمد طويلًا، حيث فاجأ الجميع -خلال خطاب تنصيبه رئيسًا للوزراء- بالدعوة إلى “تصفير المشكلات” الداخلية والخارجية لإثيوبيا. واستحدث وزارة للسلام. وألغى حالة الطوارئ بالبلاد. واعترف بوقائع التعذيب ضد المعارضين، وعزل المتورطين فيها. كما فتح خطوط اتصال فعالة مع قادة المعارضة السياسية، وذلك بالإفراج عن الآلاف من المعتقلين، ودعوته لمعارضي الخارج للعودة لممارسة العمل السياسي من داخل الوطن. كما رفع أسماء أربع من حركات المعارضة من قائمة التنظيمات الإرهابية، تمهيدًا للدخول في حوار مفتوح معها.
اهتم أبي أحمد أيضًا بقضايا المرأة، وتبنى سياسة المناصفة لدى تشكيل حكومته، التي شغلت النساء نصف عدد حقائبها الوزارية، فأسند وزارة السلام لرئيسة البرلمان السابقة، موفوريات كامي. وعيّن السيدة عائشة محمد موسى من إقليم عفار وزيرة للدفاع. كما شهد عهده تولي السيدة ساهلى زويدى رئاسة البلاد، بعدما انتخبها البرلمان في أكتوبر 2018. وهي المرة الأولى في التاريخ الإثيوبي الحديث التي تتقلد فيها النساء تلك المناصب العليا.
تصدى رئيس الوزراء أيضًا للفساد السياسي المنتشر بالبلاد؛ فعزل الكثير من القيادات المدنية والعسكرية المتورطة في وقائع الفساد. وأبعد شركة “ميتيك” التابعة للقوات المسلحة عن مشروع سد النهضة، بعد اكتشافه للعديد من المخالفات التي ارتكبتها أثناء تنفيذ المشروع. ولم يتورع عن الإعلان صراحة عن وجود أخطاء فنية ووقائع فساد بمشروع السد.
سعى أبي أحمد أيضًا لإنهاء النزاع الإثيوبي-الإيريتري، باعتباره واحدًا من أطول النزاعات في القارة الأفريقية وأكثرها تكلفة، حيث خلف هذا النزاع أكثر من 80 ألف قتيل، بالإضافة لمئات الآلاف من اللاجئين والنازحين، فضلًا عن الخسائر المالية الفادحة، الناجمة عن تدمير المنشآت والبنية الأساسية، وتوقف تجارة الحدود بين الدولتين، على امتداد 912 كم.
أدرك رئيس الوزراء الإثيوبي أن حجم الخسائر المتحققة جراء استمرار هذا النزاع يفوق بكثير المكاسب المحتملة لتسويته؛ لذا فقد خالف نهج أسلافه ملس زيناوي وهيلاميريام ديسالين اللذين تمسّكا بمواصلة النزاع، وضرورة تحجيم الطموحات الإقليمية لإيريتريا، ورفَضَا تنفيذ قرار مفوضية ترسيم الحدود بين الدولتين في أبريل 2002، الذي قضى بتبعية مثلث بادمي (محور النزاع) لإيريتريا، بدعوى عدم قانونيته وافتقاره للعدالة.
لكن أبي أحمد كان له موقف آخر، حيث تجاوب مع الوساطة الإماراتية السعودية، والتي كان لها عظيم الأثر في إنجاز التسوية المنشودة، من خلال إعلان أسمرة في 9 يوليو 2018. وهي التسوية التي ساهمت في تخلص إثيوبيا من عقدة “الدولة الحبيسة”، وأتاحت لها منفذًا مباشرًا على البحر الأحمر هما مينائي عصب ومصوع، كما أنها زادت من درجة الاعتماد عليها في مكافحة الإرهاب وتسوية الصراعات بالقرن الأفريقي وحوض النيل. بعدما كانت كينيا قد سحبت البساط من تحت أقدامها، باستضافتها للمفاوضات بين نظام الإنقاذ الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان، بداية من بروتوكول ماشكوس حتى اتفاق نيفاشا.
كما منحت التسوية دفعة قوية لمضاعفة أرقام التجارة والاستثمار بالقرن الأفريقي، وأعطت إيريتريا الفرصة للاندماج مجددًا في المحيطين الإقليمي والدولي، بعدما ساندت إثيوبيا مطالبها المتعلقة برفع العقوبات المفروضة عليها منذ عام 2009، إثر اتهامها بتهريب الأسلحة إلى عناصر الشباب المجاهدين بالصومال، ودعم الإرهاب بالقرن الأفريقي.
وضع أبي أحمد على عاتقه أيضًا تسويق صورة بلاده كصانع للسلام الإقليمي؛ فتوسط لتسوية النزاعات بالقرن الأفريقي (النزاع بين إيريتريا وكل من الصومال وجيبوتي)، ونجح في احتواء الأزمة السياسية التي اجتاحت السودان عقب ثورة ديسمبر 2018، حتى تم تشكيل المجلس السيادي، ونقل السلطة لحكومة مدنية انتقالية في أغسطس 2019.
لكل ذلك، لقي فوز أبي أحمد بأرفع جائزة عالمية في مجال السلام ترحيبًا واسعًا من قبل أغلب قادة الدول والمؤسسات الدولية، وفي مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة، وقادة الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، ومفوض الاتحاد الأفريقي موسى فكى، والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، الذي يترأس الاتحاد الأفريقي في دورته الحالية.
في المقابل، رأى البعض أن الجائزة تمثل دعمًا أمريكيًّا غربيًّا لسياسات أبي أحمد، وأنها قد تجاوزت الرئيس الإيريتري أسياس أفورقي، الذي كان جديرًا باقتسامها مع رئيس الوزراء الإثيوبي، باعتباره شريكًا أساسيًّا في تسوية النزاع الإثيوبي الإيريتري، كما ركز البعض الآخر على التحديات الكبيرة التي تواجه رئيس الوزراء الإثيوبي، والذى يتعين عليه مواجهتها، حتى يكتمل جهده من أجل السلام والتنمية.
إذ تلقى السياسات الجديدة لأبي أحمد معارضة داخلية شديدة من جانب رجال الحرس القديم بالجبهة الثورية، خاصة هؤلاء الذين ينتمون لجماعتي تجراي وأمهرة، وهما القوة الأبرز داخل التحالف الحاكم، والذين يرون في سياسات أبي أحمد خطرًا داهمًا على نفوذها السياسي ومكتسباتها المالية، بعد التغييرات التي طالت قادة الاستخبارات والقوات المسلحة بالبلاد.
ضجت أحزاب المعارضة أيضًا بالشكوى من حرمانها من المشاركة السياسية؛ حيث يخلو البرلمان الإثيوبي “547 مقعدًا” من أي تمثيل حقيقي للمعارضة، باستثناء بعض المقاعد التي تشغلها عناصر معارضة موالية للنظام الحاكم، كما تجاهل النظام تحقيق التمثيل المتوازن لمعظم القوميات بأجهزة ومؤسسات الدولة، مع التمسك بتطبيق القوانين المقيدة للحريات، ومنها قانون مكافحة الإرهاب الصادر منذ عام 2009.
في هذا السياق، تواترت الاحتجاجات بالعاصمة أديس أبابا والأقاليم، خاصة إقليم أوجادين الذي يعيش فيه زهاء ثمانية ملايين إثيوبي، من أصول صومالية، حياة بائسة، تفتقر إلى معظم حقوق الإنسان الأساسية، في ظل تعتيم إعلامي حكومي، وصمت دولي مريب. كما كانت محاولة اغتيال أبي أحمد في يونيو 2018، ومحاولة الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال “أسامنيو تسيجى”، القائد العسكري، والرئيس السابق لجهاز الأمن بإقليم أمهرة، وهي المحاولة التي نجم عنها اغتيال حاكم الإقليم، بالتزامن مع اغتيال رئيس أركان القوات المسلحة الإثيوبية “سيرى مكونن”، بالعاصمة أديس أبابا، وهو ما يؤكد ارتباط الحادثين، ويوحي بوجود حالة من الغضب الكامن الذي يتحين الفرصة من أجل التحرك لإسقاط النظام.
لذا طالبت لجنة جائزة نوبل رئيس الوزراء الإثيوبي بالعمل الجاد على تحقيق المصالحة الوطنية، والعدل الاجتماعي، وإنهاء العنف الإثني بالبلاد، والذي أدى لنزوح ما يزيد عن 2.5 مليون إثيوبي، ولجوء الآلاف للخارج، كما طالبته منظمة العفو الدولية بمزيد من الإصلاحات في مجال الحقوق الإنسانية، بحيث لا يقتصر الأمر على مجرد إصدار قرارات فوقية نظرية، لا تجد صداها على أرض الواقع.
من جهة أخرى، يتعين على رئيس الوزراء الإثيوبي العمل الجاد للوصول إلى تسوية سلمية عادلة لأزمة سد النهضة، بالتعاون مع مصر والسودان، حيث إن استمرار هذه الأزمة يشكل محورًا أساسيًا لتهديد السلم والاستقرار والتنمية بحوض النيل، خاصة بعدما أعلنت مصر عن وصول المفاوضات بشأن السد إلى طريق مسدود، إثر رفض أديس أبابا المقترحات المصرية بشأن نظام ملء وتشغيل السد، واعتراضها على إدخال طرف دولي رابع كوسيط في المفاوضات.
فهلا يتحمل أبي أحمد المسئولية مجددًا، بالسعي لإيجاد تسوية عادلة للأزمة، لتكتمل بذلك مسيرة السلام، وليصبح تتويجه بجائزة نوبل بالعاصمة النرويجية أوسلو في العاشر من ديسمبر المقبل عيدًا جامعًا لكل الأفارقة، أم يظل على موقفه الذي يتعامل مع السد كمشروع سيادي، ويتجاهل بنود اتفاق إعلان المبادئ الموقع في مارس 2015، معتبرًا أن جائزة السلام العالمية التي نالها هي بمثابة الضوء الأخضر للمضي قدمًا في تكريس الهيمنة الإثيوبية على التفاعلات السياسية بحوض النيل والقرن الأفريقي.