كتب – محمد الدابولي

على مدار العقدين الماضيين اعتبرت منطقة بحيرة تشاد في غرب أفريقيا برميل بارود يُوشك أن ينفجر في أي لحظة مهددا سلامة واستقرار معظم الدول الأفريقية، فأزمة البحيرة مركبة ومتشابكة للغاية، إذ تتداخل العوامل البيئية مع نظيرتها السياسية والإثنية وكذلك الاقتصادية والاجتماعية في جعل محيط البحيرة الأفريقية نقطة أزمات مدمرة لمعظم دول غرب أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.

تفردت بحيرة تشاد بالجمع بين جميع التحديات التي تزعزع الاستقرار، فهي من ناحية تعتبر من أُولى المناطق في العالم المتأثرة بالتغيرات المناخية فخلال السنوات الماضية خسرت البحيرة أكثر من 90% من مساحتها الشاسعة فبعد أن كانت مساحتها 25 ألف كيلومتر مربع في القرن الماضي أصبحت مساحتها حاليا لا تتخطى ألفي كيلومتر مربع؛ وذلك نتيجة الجفاف الشديد والتصحر الذي تعرضت له المنطقة الأمر الذي عرض حياة الأهالي في تلك المناطق لمخاطر اقتصادية عنيفة أدت في النهاية ازدياد حدة الفقر والمرض في تلك المنطقة.

 وعلاوة على الأزمة البيئية التي عصفت بالبحيرة كانت الأزمة الإثنية تمد جذورها في تاريخ المنطقة؛ فعلى ضفاف البحيرة عاشت أكثر الجماعات المهمشة اقتصاديا وسياسيا في دول غرب أفريقيا خاصة جماعة الفولاني المقسمة بين دول نيجيريا وتشاد والنيجر، أما في الكاميرون فتعاني المنطقة الشمالية المتاخمة لبحيرة تشاد من أزمة اندماج وطني  شديدة، إذ تحاول الجماعة الأنجلوفونية القاطنة في الشمال إلى تحقيق الانفصال السياسي عن المناطقة الجنوبية الفرانكفونية.

وعطفا على  الأزمة البيئية وتأثيراتها في محيط بحيرة تشاد انتشر صراع أهلي يعرف باسم صراع الرعاة والمزارعين، إذ دائما ما يشتعل الصراع بين المزارعين والرعاة حول الموارد الطبيعية خاصة الماء الذي يشح في تلك المنطقة ويذكرنا هذا الصراع بأزمة دارفور في  غرب السودان التي اندلعت في بداية الألفية الجديدة (2003 ـ إلى اليوم).

لذا شكلت الأزمات السابقة في مجموعها بيئة خصبة للغاية للتنظيمات التي تعتنق الأفكار الجهادية إذ تغذت إياها على أزمات الجماعات المهمشة المقهورة بيئيا وسياسيا واجتماعيا، وفي بعض الأحيان تماهت الخطوط الفاصلة بين الجماعات الجهادية والجماعات الانفصالية والمحلية التي تعبر عن تطلعات مهمشي بحيرة تشاد، فعلى سبيل المثال لا  الحصر لعب تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي على أزمات الأزواد في شمال مالي وتماهت الخطوط الفاصلة فعليًّا بين القاعدة وبعض الحركات الأزوادية في تمرد 2012 حينما نجحت القاعدة بالتعاون مع بعض الحركات الأزوادية الانفصالية في السيطرة على شمال مالي والتوجه نحو بماكو العاصمة، وفي شمال بوركينافاسو كان مالام ديكو زعيم تنظيم “أنصار الإسلام” المنتمي لتنظيم القاعدة حاضرا بقوة في أزمات مهمشي شمال بوركينا فاسو.

تمويه المسار

وكذلك الحال ينطبق على بحيرة تشاد التي تسعى الجماعات المتطرفة فيها إلى تمويه مسارها خلال الفترة الحالية لتكون أكثر تماهيا مع أزمات الإقليم أملا في تحقيق العديد من المكاسب مثل توفير الحاضنات الشعبية للتنظيمات الإرهابية وكذلك الدعم المالي واللوجستي المناسب لها، ويبدو أن تلك التنظيمات عازمة على تحقيق تلك الغاية خاصة بعد تمكن تنظيم داعش في غرب أفريقيا “تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا”  بقيادة أبومصعب البرناوي من اغتيال غريمه التقليدي “أبوبكر شيكاو”  الزعيم السابق لتنظيم بوكو حرام  والمعروف عنه بدمويته وعنفه الشديد الموجه إلى السكان المحليين في محيط بحيرة تشاد الأمر الذي دعا هؤلاء إلى النفور من ممارسات التنظيم بقيادة شيكاو.

رأى البرناوي -في وقت سابق وتحديدا في عام 2016- خطورة تصرفات شيكاو والتي ستؤدي في النهاية إلى عُزلة شعبية لتنظيمه ومحاربة الجميع له، لذا جاء قرار عزل شيكاو من قيادة  ISWAP في عام 2016 وملاحقته حتى تحقق مقتله في  19 مايو 2021، وبمقتله أصبح لتنظيم داعش في غرب أفريقيا فرصة سانحة لتمويه مساره من خلال التعاطي مع أزمات سكان المنطقة واكتساب حاضنات شعبية جديدة لتنظيمه الإرهابي.

استجابات واهية

إزاء الأزمات والتحديات السابقة كانت لحكومات بحيرة تشاد استجابات متنوعة لتلك التحديات، لعل أبرزها الاستجابة الأمنية والعسكرية ففي فبراير 2015 وبعد تزايد نطاق عمليات بوكو حرام تكون تحالف إقليمي من دول غرب أفريقيا (تشاد – النيجر ـ نيجيريا – الكاميرون – بنين) لمواجهة التنظيم، هذا بالإضافة إلى مزيد من الاستجابات الأخرى كالتنموية والاقتصادية.

ورغم مرور أكثر من ست سنوات على انطلاق الاستجابة الأمنية والعسكرية في بحيرة تشاد، إلا أنها لم تحقق المأمول منها بل على العكس ساهمت تلك الاستجابة في تعقيد الأزمة وإطالة أمدها فضلا عن تقوية شوكة التنظيمات الإرهابية، فبعد أن كان هناك تنظيم إرهابي واحد في عام 2015 بات هناك ثلاث تنظيمات إرهابية على الأقل وهم تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا بقيادة أبومصعب البرناوي، والميليشيا التابعة لزعيم بوكو حرام السابق أبوبكر شيكاو  والتي كانت تتقاتل تحت راية ومسمى بوكو حرام وأخيرا تنظيم أنصارو الذي تشكل مؤخرا ولا تزال خطواته محدودة مقارنة بالتنظيمين السابقين.

انعدام الثقة

يشير  أكينولا أولوجو الباحث السنغالي في برنامج بحيرة تشاد في معهد الدراسات الأمنية بجنوب أفريقية في مقالته المعنونة “Is the Lake Chad Basin suffering from too much attention?” والمنشورة على موقع معهد الدراسات الأمنية إلى انعدام فرضية الثقة بين العناصر العسكرية والأمنية في بحيرة تشاد وذلك بسبب الإجراءات العقابية الغاشمة الممارسة ضد السكان المحليين إذ عادة ما يتم اتهامهم بمساعدة بوكو حرام.

ففي عام 2017 وجهت منظمة العفو الدولية اتهامات للجيش الكاميروني بارتكاب المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان بحق الشماليين، وذلك خلال حربه ضد تنظيم بوكو حرام وفي هذا الصدد يشير تقرير نشرته صحيفة الجارديان البريطانية بتاريخ 20 يوليو 2017 إلى إمعان جنود الجيش الكاميروني في تعذيب المواطنين بواسطة الهراوات والكهرباء والحبس الانفرادي وكافة صور التعذيب المعروفة كما يتم إجبار المواطنين من ذوي الديانة الإسلامية على تناول لحم الخنزير كمحاولة لإذلالهم، وطالت اتهامات التعذيب الولايات المتحدة التي كانت في ذلك الوقت تقدم دعما لوجستيا وتدريبيا للقوات الكاميرونية في قاعدة سالاك “سيئة السمعة” شمال البلاد مما أدى إلى إعلان وزارة الخارجية الأمريكية في فبراير 2019 عن توقف برنامج المساعدات العسكرية المقدم للجيش الكاميروني، ويشير تقرير الجارديان أيضا إلى توجيه اتهامات مماثلة إلى الجيش النيجيري بارتكاب جرائم حرب مماثلة.

وفي إطار استمرار الأزمات الإنسانية لللتدخلات العسكرية في بحيرة تشاد يشير تقرير معهد الدراسات الأمنية إلى انعدام التعاون بين منظمات المجتمع المدني والجيوش، بل تسود حالة الريبة والشك بينهما ففي عام 2019 على سبيل المثال وجه الجيش النيجيري اتهامات لتلك المنظمات بتقديم مساعدات غذائية لبوكو حرام، وفي النيجر تم إعلان البعض من تلك المنظمات غير مرغوب بها الأمر الذي يعمق مسألة توريد المساعدات الإنسانية العاجلة للمتضررين.

ونقطة أخرى أشار إليها تقرير معهد الدراسات الأمنية إلى انعدام الفاعلية الأمنية والعسكرية، فعادة ما كانت تلجأ الجيوش والقوى الأمنية إلى تمرير بيانات واهية حول الموقف القتالي وتفيد بأن الوضع مستقر والقوات تحقق تقدما إلا أنه في الحقيقة عكس ذلك، ولعل حركة التغيرات التي شهدها الجيش النيجيري في مطلع العام الجاري تفيد بذلك إذ تمت إقالة العديد من كبار الجنرالات ومنهم رئيس هيئة الأركان المسئول عن الحرب مع بوكو حرام واستبدالهم بقادة جدد عسى أن يكونوا خيرا منهم وقادرين على التصدي للظاهرة الإرهابية.

تضييق سبل العيش

واستمرارا لحالة فشل استجابات دول بحيرة تشاد لأزمات المنطقة، نجد أن الإجراءات الأمنية التي تم استخدامها في السابق عمدت إلى تضييق سبل العيش والحياة على مواطني تلك المنطقة، ففي إطار محاربة بوكو حرام لجأت جيوش المنطقة إلى فرض المزيد من إجراءات المراقبة والحظر على الأنشطة التجارية في محاولة لفرض حصار اقتصادي على التنظيم.

إلا أنه في الحقيقة مواطنو المنطقة هم من تعرضوا للحصار والحظر، فبوكو حرام اتبعت تكتيكات الإغارة على الأسواق وفرض الإتاوات لأجل الحصول على التمويل ومواردها اللوجستية، ومن أبرز الإجراءات التي تم استخدامها حظر سير المركبات في المنطقة المحيطة بالبحيرة كالدراجات البخارية والزوارق الخفيفة الأمر الذي عطل التجارة في المنطقة، وفي محاولة قوى الأمن لمنع بوكو حرام من امتلاك القنابل والمتفجرات حظرت تجارة الأسمدة الزراعية والتي تحتوي على مركب نترات الأمونيوم العنصر الرئيسي في تركيب المتفجرات والقنابل وهو الأمر أيضا الذي عطل حياة المزارعين للشلل التام.

كما وقعت تجارة الخشب والحطب بين سندان إجراءات الحظر الأمني ومطرقة استغلال بوكو حرام لها، فالتنظيم يسيطر فعليا على منطقة غابات سامبيسا الغنية بالأشجار والتي لجأ التنظيم إلى تقطعيها وحرقها وبيعها كفحم طبيعي للحصول على الأموال اللازمة له مما أدى في النهاية إلى حظر تلك التجارة وتقليل الفرص الاقتصادية أمام المواطنين المحليين.