كتب – د. أيمن شبانة

مدير مركز البحوث الأفريقية – كلية الدراسات الأفريقية العليا – جامعة القاهرة

 في الخامس عشر من يوليو2020، أعلن وزير المياه والطاقة الإثيوبي سيليشي بيكيلي بدء الملء الأول لسد النهضة، وذلك في حديث نقلته أدوات الإعلام الإثيوبية الرسمية، قبل أن تسارع أديس أبابا إلى نفيه. لكن ذلك لم يكشف حالة الغموض بشأن حقيقة ملء السد، ولم يبدد القلق المصري السوداني بشأن إقدام إثيوبيا على الملء قبل توقيع اتفاق ملزم بشأن قواعد الملء الأول ونظام التشغيل المستدام، وغيرها من القضايا الخلافية الفنية والقانونية، الأمر الذي قد ينذر حال حدوثه بانهيار المسار التفاوضي، والدفع بالاستقرار السياسي والأمني بحوض النيل والقرن الأفريقي إلى نفق مظلم، قياسًا بالتداعيات وردود الأفعال المحتملة المترتبة على ذلك.

وتسعى هذ الورقة إلى تقييم المسار التفاوضي لتسوية أزمة السد، وبيان مدى تطور المواقف التفاوضية للأطراف الثلاثة بكل مرحلة، وبيئة المفاوضات الإقليمية والدولية، والاحتمالات التي يمكن أن تؤول إليها المفاوضات.  

أولًا- تطور المسار التفاوضي لأزمة السد:

 استغرق المسار التفاوضي أكثر من تسع سنوات، وذلك عبر خمس مراحل، منذ مايو2011 حتى يوليو2020، وذلك على النحو التالي:

1- تكوين اللجنة الفنية الثلاثية:  

بدأت هذه المرحلة بعد تدشين مشروع السد في أبريل 2011 وانتهت بسقوط نظام الإخوان المسلمين بمصر في يونيو2013. وخلالها أديرت الأزمة بشكل مباشر بين أطرافها. فلم تتضح أدوار القوى الإقليمية أو الدولية إزاءها بشكل جلي، نظرًا لانشغالها بالتفاعل مع تداعيات الثورات العربية عام 2011.

في غضون ذلك، تعاملت إثيوبيا مع السد كمشروع سيادي، فاحتفظت لنفسها بمعظم المعلومات المرتبطة به. وسعت لتمريره كأمر واقع، بحشد التأييد الداخلي والخارجي للسد، باعتباره حلمًا قوميًّا سيحقق الرخاء للشعب، وقاطرة للتنمية الإقليمية بدول الجوار. كما سعت إثيوبيا لطمأنة مصر بشان جدوى السد، وآثاره السلبية المحتملة، فبادرت بتشكيل لجنة فنية لدراسة جدوى المشروع، عرفت باسم (اللجنة الثلاثية)، تضم خبراء من مصر والسودان وإثيوبيا، إلى جانب خبراء من إنجلترا وفرنسا وألمانيا وجنوب أفريقيا.

أما مصر، فكانت استراتيجيتها لإدارة الأزمة في تلك المرحلة تقوم على تأجيل تنفيذ المشروع لحين اكتمال الدراسات الفنية النهائية، دون التحرك لتدويل الأزمة، مكتفية بالترويج لوجود خطة إثيوبية لإنشاء السد، لتحقيق مكاسب سياسية، بصرف النظر عن احتياجاتها من الطاقة والمياه.  ويمكن تفسير ذلك بالتزامن بين أزمة السد وانشغال مصر بأوضاعها الداخلية عقب ثورة يناير2011، وافتقار المفاوض المصري لمعظم المعلومات المتعلقة بالمشروع.

وبالنسبة للسودان، فقد أمسكت بالعصا من المنتصف. فلم توقع على اتفاق عنتيبي الذي أبرمته بعض دول منابع النيل في +مايو201. لكنها لم تمانع في إنشاء سد النهضة. وكان واضحًا حرص السودان الاستفادة من مزايا السد، وتدعيم العلاقات مع إثيوبيا، دون التضحية بمصالحها المتشابكة مع مصر، خاصة أنها تزامنت مع صدمة انفصال جنوب السودان في يوليو2011. 

2- توقيع اتفاق إعلان المبادئ:

بدأت هذه المرحلة في يونيو 2014، بتولي عبدالفتاح السيسي رئاسة مصر. وخلال هذه المرحلة، اتبعت مصر استراتيجية جديدة تقوم على أساس “إمكانية تسوية الخلافات وفق نهج تعاوني يحقق التنمية المشتركة”، انطلاقًا من تصور يسمح بإنشاء السد ويصون الحقوق والمصالح المصرية. وبالتالي وقّعت مصر بيان النقاط السبع في مالابو “يونيو2014″، وخارطة الطريق في سبتمبر2014، واتفاق إعلان المبادئ بالخرطوم في مارس2015. وحاولت إدخال البنك الدولي كوسيط لتسوية الأزمة. 

أما إثيوبيا، فقد استمرت خلال هذه المرحلة في نهجها الذي يسعى لتمرير المشروع بأسلوب الأمر الواقع، دون تعديل مواصفاته المعلنة، أو السماح بدخول أي أطراف خارجية على خط الوساطة، وذلك رغم إسناد رئاسة الحكومة فيها إلى هيلاميريام ديالسين خلفًا لملس زيناوي، في أغسطس 2012. لكن إثيوبيا تخلت عن لغة التشدد في علاقتها بمصر، مفضلة استخدام لغة هادئة إزاء الأزمة، لإيصال رسالة إلى المجتمع الدولي مفادها أن إنشاء السد يجري بالتنسيق مع مصر والسودان.

وبالنسبة للسودان، فقد انحازت خلال هذه المرحلة بشكل واضح للجانب الإثيوبي. وتجلى ذلك في إعلان الرئيس البشير التأييد الصريح لإنشاء السد في ديسمبر2013. بدعوى أنه سيمكن السودان من استخدام حصته المائية كاملة، بعدما كان جزء منها يذهب إلى مصر على سبيل الدين. وهنا يمكن القول بأن السودان حاولت توظيف الأزمة للاستفادة من الدور الإثيوبي في رعاية مفاوضات التسوية لصراعاتها الداخلية، ومساومة مصر بشأن ملف حلايب، وتعزيز شرعية نظام الإنقاذ الوطني.

3- مرحلة التهدئة المؤقتة (أبريل 2018- أكتوبر2019) :  

 بدأت هذه المرحلة مع وصول آبي أحمد إلى السلطة بإثيوبيا في أبريل 2018، حيث تبنت أديس أبابا سياسة تقوم على احتواء مشكلات الداخل والخارج “تصفير المشكلات”، وذلك لمواجهة المشكلات الاقتصادية والصدامات بين القوميات الإثيوبية، وتهيئة البلاد للانطلاق على طريق التنمية.

 لذا وافقت إثيوبيا على وثيقة مخرجات سد النهضة بالخرطوم في مايو2018. كما زار آبي أحمد مصر في يونيو2018، ليؤكد تبني رؤية تقوم على احترام الحقوق المتبادلة في تحقيق التنمية دون الإضرار بالآخرين، قبل أن يعلن في أغسطس 2018 عن احتمال تأخر إنجاز السد حتى مطلع عام 2022، بدعوى وجود أخطاء فنية في تصميم السد، وشبهات حول وقائع للفساد المالي والإداري.

من جانبها، سعت مصر لاستثمار الموقف، بالتقارب مع السودان، والاستعانة بالوسطاء الإقليميين، لإيجاد تسوية سياسية شاملة للأزمة، بعيدًا عن التعقيدات الفنية. وهو الأمر الذي استجابت له السودان نسبيًا، باعتبار أن ذلك النهج يوفر مخرجًا مناسبًا للخرطوم، يضمن لها إقامة علاقات متوازنة بين كل من إثيوبيا ومصر، دون المساس بمكاسبها المتوقعة من إنشاء السد.

4- مسار واشنطن  (نوفمبر2019- فبراير2020):

استند هذا المسار إلى اتفاق إعلان المبادئ، الذي ينص على إمكانية إحالة ملف السد إلى طرف رابع في حال تعثر المفاوضات المباشرة. لكن إثيوبيا ترددت في قبول المشاركة في المفاوضات. وحرصت على عدم تسمية مسار واشنطن بالمفاوضات، مفضلة تسميته بأنه مجرد “مشاورات”. وتنصلت من الالتزام بأي تعهد معياري أو رقمي ضمن أي اتفاق. فلم تعترف بالحصة المائية المصرية، أو اتفاقات تقاسم المياه بحوض النيل، أو تحديد مدة زمنية للملء الأول للسد. وعلى سبيل المثال فإن الرقم الوحيد المذكور بالاتفاق المبدئي الموقع بواشنطن “اتفاق النقاط الست”، والمتعلق بالاحتفاظ بمستوى المياه عند 595 م3 فوق سطح البحر، إنما يصب في صالح إثيوبيا، حيث يتيح لها القدرة على التوليد السريع للكهرباء.

وفي الوقت الذي كان فيه الجميع  يترقب التوقيع على اتفاق بين أطراف الأزمة في نهاية فبراير2020، انسحبت إثيوبيا من المفاوضات، متذرعة بالتغيرات التي طرأت على الجبهة الحاكمة، والحسابات المتعلقة بانتخاباتها البرلمانية، زاعمة ضلوع مصر في مخطط تخريبي ضد إثيوبيا، وأن القاهرة هي من أفسدت المفاوضات. وأعربت عن خيبة أملها إزاء الوساطة الأمريكية، مؤكدة تعرضها لضغوط من الولايات المتحدة والبنك الدولي للتوقيع على الاتفاقية. كما هاجمت قرار جامعة الدول العربية الصادر في مارس 2020 بالتضامن مع مصر، ورفض اتخاذ أي إجراءات أحادية خاصة بملء وتشغيل السد. في المقابل وقعت مصر بالأحرف الأولى على مسودة اتفاق واشنطن لتسوية الأزمة، رغم رفض السودان توقيعها أيضًا.

5-  نقل الملف إلى مجلس الأمن الدولي:

أعلنت إثيوبيا رفضها استئناف المفاوضات، والشروع في ملء السد في منتصف يوليو2020، مكتفية باتفاق مع السودان. لكن السودان رفض هذا الطرح، مؤكدًا ضرورة أن يشمل الاتفاق مصر أيضًا. وهو ما رفضته إثيوبيا مؤكدة إمكانية الملء بمجرد الإخطار. كما لجأت أديس أبابا للضغط على مصر والسودان، عبر التصعيد الإعلامي، وافتعال أزمات بالمناطق الحدودية مع السودان.

في غضون ذلك، تقدمت مصر بمذكرة إلى مجلس الأمن الدولي في الأول من مايو2020، إعمالًا للمادة 35 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تجيز لأعضاء المنظمة تنبيه المجلس إلى أي موقف قد يهدد السلم والأمن الدوليين، حيث أخطرت القاهرة المجلس بتطور المسار التفاوضي لأزمة السد. وهو ما اتبعته السودان بخطاب يحمل ذات المضمون.   

 وللخروج من هذا المأزق، بادرت السودان بالدعوة لاستئناف المفاوضات. وهو ما حدث بالفعل. لكن المفاوضات انتهت بالفشل، مما دفع مصر للتقدم بشكوى إلى مجلس الأمن في يونيو2020، تتهم إثيوبيا بخرق اتفاق إعلان المبادئ، وتحذر من عواقب ملء السد بدون اتفاق. وهنا قرر المجلس تفويض الاتحاد الأفريقي برعاية المفاوضات، مع وجود مراقبين أفارقة ودوليين، إعمالًا للمادة 53 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تجيز للترتيبات الإقليمية المشاركة في تسوية النزاعات التي قد تهدد السلم والأمن الدوليين بمحيطها الإقليمي.

ثانيًا-  بيئة المفاوضات الإقليمية والدولية:

تجري المفاوضات في بيئة إقليمية ودولية مواتية لإثيوبيا إلى حد كبير. ويعد ذلك أبرز عوامل القوة التي عززت موقف المفاوض الإثيوبي، والتي تفسر سلوكه المتشدد خلال معظم مراحل المفاوضات، في ظل اطمئنانه لعدم وجود ضغوط حقيقية تدفعه للاستجابة للمطالب المصرية. وفيما يلي عرض لأبرز المواقف الإقليمية والدولية. 

1- مواقف دول منابع النيل:

تقف أغلب دول حوض النيل إلى جانب إثيوبيا. وعبرت عن ذلك وفق واحد أو أكثر من الأشكال الآتية: تأييد المشروع صراحة وتكثيف الضغوط على مصر، والسعي للاستفادة من مزايا المشروع، والحياد مع عدم الممانعة في إنشاء السد، دون محاولة التوسط لدى أطراف الأزمة، أو طرح مبادرات لتسويتها.  

وقد اتضحت مواقف دول المنابع في مناسبات عديدة، حيث أعلنت أوغندا صراحة تأييدها لإنشاء السد. بل إن رئيسها يوري موسيفيني، الذي استضافت بلاده توقيع اتفاقية عنتيبي، طالب مصر بالتخلي عما أسماه سياسة الاستعلاء والعنصرية، ودعاها للنظر بعين الاعتبار لموجات الجفاف المتكررة بإثيوبيا، مؤكدًا أن بناء السدود سيقود إثيوبيا نحو التنمية، وأنه حق أصيل لدول المنابع، وأن بلاده تنتوي الشروع في سياسة بناء السدود. بل إن موسيفيني ذهب بعيدًا عندما اتهم مصر بالتخطيط لتدمير الأراضي الرطبة بجنوب السودان، وذلك بالسعي لإقامة مشروع قناة جونجلي، مضيفًا أن موافقة نظام الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري على ذلك المشروع كان أحد الأسباب التي دفعت الجنوبيين للمطالبة بالانفصال.

وبالنسبة لجنوب السودان، فقد أكدت قناعتها بأهمية سد إنشاء السد، بشرط ألا يؤثر على المصالح المصرية. كما وافقت على استضافة بعثة مصرية للإشراف على نهر النيل بالجنوب. لكن الممارسات الفعلية لجنوب السودان يكشف عن أنها ظلت تناور من أجل طمأنة مصر، حتى لا تخسر مساعداتها التنموية والإنسانية. في الوقت الذي تعمدت فيه الضغط على المفاوض المصري، خاصة لدى احتدام التوتر بين مصر إثيوبيا. إذ دأبت حكومة الجنوب على التلويح بأنها بصدد التوقيع على اتفاق عنتيبي، تمهيدا لدخوله حيز النفاذ ، وأن مشروعات استقطاب المياه -ومنها قناة جونجلي- لا تدخل ضمن أولوياتهم. لكن انغماس جنوب السودان في الحرب الأهلية التي اندلعت بالبلاد منذ ديسمبر2013 جعلها تنكفئ نسبيا على الذات، وهو ما خفف من ضغوطها على مصر. 

أما تنزانيا ورواندا وبوروندي وكينيا، فقد أكدوا تطلعاتهم إلى إنشاء السد، بشرط ألا يؤثر على المصالح المصرية والسودانية، بحيث يصبح السد بالفعل مشروعًا للتنمية الإقليمية، وتوفير الطاقة الكهربائية بأسعار معقولة. وبالفعل كشفت التقارير عن تعاقد تلك الدول مع إثيوبيا للحصول على كهرباء سد النهضة، وإقامة مشروعات مشتركة للربط الكهربائي.     

لكن موقفي الكونغو الديموقراطية واريتريا كان مختلفًا. حيث لم تكترث الكونغو الديموقراطية كثيرًا بأزمة سد النهضة، باعتبار أنها ليست من دول حوض النيل الشرقي، وأنها تتمتع بوفرة مائية هائلة، نظرًا لعبور نهري الكونغو والنيل لأراضيها، وغناها بالمطر، واشتراكها في مشروعات للربط الكهربائي مع جنوب أفريقيا ودول جنوب القارة. لذلك لم تعلق كينشاسا رسميًّا على مشروع سد النهضة، أو مشروع نهر الكونغو، الذي روج له البعض في مصر. ويعود ذلك لحرصها على عدم الدخول في مواجهات خارجية على خلفية قضايا لا تمثل تهديدًا لوضعها المائي.

أما اريتريا، فقد كانت تدعم الموقف المصري خلال المفاوضات، وذلك نكاية في إثيوبيا، انطلاقًا من مبدأ “عدو عدو صديقي”، حيث أكد رئيسها أسياس أفورقي أن إثيوبيا تهدف من بناء السد لتدعيم مركزها كقوة إقليمية، وابتزاز مصر، والضغط عليها لصالح قوى دولية وإقليمية أخرى. لكن توقيع اتفاق المصالحة بين إريتريا وإثيوبيا في يوليو2018، نقل أسمرة من مربع الدعم للموقف المصري إلى مربع الحياد، وهو ما شكل خصمًا نسبيًّا من أوراق الضغط المصري على أديس أبابا.

2- مواقف التنظيمات الإقليمية:

ومن أهم تلك التنظيمات الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية والهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا (إيجاد). لكن الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية لم يتفاعلا لسنوات عديدة مع أزمة السد رغم جمود المسار التفاوضي. ويمكن تفسير ذلك بتمسك إثيوبيا بالتفاوض المباشر دون وسطاء. فيما كان التوجه العام لتنظيم لإيجاد يؤيد إنشاء السد، كجزء من مشروعات التكامل الإقليمي في قطاعي الزراعة والطاقة. وبالفعل قدم موظفو إيجاد مائة ألف دولار، كتبرع من رواتبهم لإنشاء السد. 

بيد أن تعثر مسار واشنطن، دفع الجامعة العربية للتعاطي مع الأزمة، فأصدرت قرارًا في الرابع من مارس2020، وذلك خلال الدورة رقم 153 لمجلس الجامعة، والذي أكد التضامن مع الموقف المصري الخاص بسد النهضة، وحقها في صيانة حقوقها التاريخية في مياه النيل. ورفض أي إجراءات أحادية إثيوبية. كما طالب إثيوبيا بالالتزام بمبادئ القانون الدولي. وهو الموقف الذي تعزز بقرار إضافي يحمل ذات المضمون أصدرته الجامعة العربية في يونيو2020. 

وبالمثل، تفاعل الاتحاد الأفريقي مع الأزمة بعدما تقدمت مصر بشكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي تؤكد خرق إثيوبيا للقانون الدولي واتفاق إعلان المبادئ للعام 2015، حيث أحال المجلس ملف السد إلى الاتحاد الأفريقي، والذي منح بدوره أطراف الأزمة فرصة جديدة لمواصلة التفاوض في ظل وجود مراقبين أفارقة ودوليين.

وقد انتهت المفاوضات بعد أحد عشر دون تحقيق إنجاز يذكر، ليتم الاتفاق على عقد قمة أفريقية مصغرة ” افتراضية” في الحادي والعشرين من يوليو 2020، على أن تستضيفها جنوب أفريقيا، التي يتولى رئيسها سيريل رامافوزا الرئاسة الدورية للاتحاد الأفريقي. لكن القمة لم تخرج باتفاق، بما يمهد لإحالة الملف مجددًا إلى مجلس الأمن الدولي.

3-  مواقف الأطراف الدولية:

كانت الولايات المتحدة الأمريكية على رأس القوى الدولية التي تفاعلت مع الأزمة، حيث رعت واشنطن المسار التفاوضي الذي انطلق في 6 نوفمبر2019 حتى نهاية فبراير2020، وذلك بالتنسيق مع البنك  الدولي. وبالرغم من ذلك فقد كان التوجه الأمريكي أقرب إلى مساندة إثيوبيا، حتى ظلت واشنطن تحجب المعلومات المتعلقة بالسد عن مصر والسودان، رغم أن مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي كان صاحب دراسات الجدوى الأولى الخاصة بالمشروع في ستينيات القرن المنصرم. 

يعود ذلك الموقف الأمريكي إلى رغبة واشنطن في بقاء مصر تحت الضغط المستمر عن طريق ورقة المياه، وذلك لضمان اتساق السياسة المصرية إزاء قضايا الشرق الأوسط، خاصة الصراع العربي الإسرائيلي، مع المصالح والتوجهات الأمريكية. وهو الأمر الذي ازدادت أهميته مع الإعلان عما يسمى صفقة القرن. 

ولعل ذلك هو ما يفسر عدم ممارسة واشنطن أي ضغوط فعلية على الجانب الإثيوبي، لإبداء المرونة خلال المفاوضات، أو للعودة إلى مائدة التفاوض. بل إن تصريح وزير الخارجية الأمريكي بومبيو خلال زيارته لأديس أبابا في فبراير2020 بأن المفاوضات قد تستغرق عدة أشهر يتنافى مع تصريحاته السابقة بأن التوقيع على الاتفاق النهائي سوف يكون في نهاية فبراير2020، وهو ما يوحي بأن واشنطن كانت على علم مسبق بالانسحاب الإثيوبي. بل إنه ليس من قبيل المبالغة القول بأن واشنطن هي من أعطت الضوء الأخضر لأديس أبابا.

أما الاتحاد الأوروبي، فقد تعامل مع الأزمة على استحياء مكتفيًا بالتحذير من مغبة ملء السد بدون الوصول إلى اتفاق بين أطراف الأزمة. وبالنسبة للصين فكانت أقرب إلى الموقف الإثيوبي، حيث إن بنوك الصين الخاصة تشارك في تمويل السد. كما ستتولى إحدى الشركات الصينية مهمة توزيع الكهرباء التي سوف ينتجها السد، بالمشاركة مع إحدى الشركات الإسرائيلية. أما الأمم المتحدة فلم تتعامل مع الأزمة إلا مع مطلع مايو2020، عندما لجأت مصر إلى تدويل الأزمة، عبر منبر مجلس الأمن الدولي.

وعلى المستوى الإقليمي، يبرز الموقفان التركي والقطري بشكل سافر، بالإضافة إلى الدور الخفي لإسرائيل. إذ تنظر تركيا لإثيوبيا باعتبارها القوة الأكبر التي يمكنها الاعتماد عليها في القرن الأفريقي، والسوق التي يمكنها استيعاب المنتجات التركية، كما تتركز نصف استثمارات تركيا في القرن الأفريقي في إثيوبيا.

وفي ظل العداء التركي المعلن للنظام المصري، فقد تبنت أنقرة مخطط إثيوبيا لإنشاء سد النهضة، بغية الضغط على الدولة المصرية، وتحجيم قدراتها، وتعزيز النفوذ التركي بالشرق الأوسط والقارة الأفريقية. وقد تركز الدعم التركي في تزويد إثيوبيا بالخبرات التقنية والتفاوضية، وتحريضها على التشدد خلال مفاوضاتها مع مصر، وذلك باستنساخ تجربة سد أتاتورك، الذي استدعى تشييده خوض تركيا لمفاوضات ماراثونية مع العراق وسوريا، استمرت منذ 1983 حتى اكتمال البناء عام 1990، ليتم فرض الأمر الواقع على الدولتين، حيث تتمسك تركيا بنظرية هارمون. وتصر على استخدام مصطلح النهر “العابر للحدود” وليس النهر الدولي، وكأن نهر النيل هو نهر إثيوبي خالص، ثم عبر حدود إثيوبيا، متجها صوب السودان ومصر.

أما قطر، فهي تدعم أديس أبابا، عبر ضخ الاستثمارات في قطاعي الزراعة والري بإثيوبيا، بالإضافة للدعم السياسي، والذي تجلى بمساندتها لإثيوبيا في الحصول على مقعد غير دائم بمجلس الأمن الدولي عام 2017. ومن الجدير بالذكر أن قطر سعت لاستئناف علاقاتها الدبلوماسية بإثيوبيا عام 2012، رغم أن الأخيرة هي التي بادرت بقطعها عام 2008، احتجاجًا على تأييد قطر للمعارضة الصومالية المتشددة، حيث يتيح ذلك لقطر الضغط على النظام المصري من خلال ورقة المياه.  

وبالنسبة لإسرائيل، فقد حرصت على عدم إعلان موقفها من سد النهضة، ساعية في ذات الوقت لاستغلال الأزمة في الضغط على مصر، وتأليب الرأي العام فيها ضد النظام المصري، وذلك بتسريب تقارير بشأن مطالبات مصرية لإسرائيل بالتوسط لدى إثيوبيا لتسوية أزمة السد، وتحريض المفاوض الإثيوبي على التشدد خلال المفاوضات، في إطار سياسة ” شد الأطراف”، التي دأبت إسرائيل على اتباعها، بافتعال الأزمات بين مصر ودول المنابع، وخاصة إثيوبيا، بغية التأثير سلبيًا على المصالح المصرية.

وقد تأكد الدعم الإسرائيلي لأديس أبابا لدى زيارة بنيامين نتنياهو لإثيوبيا في يوليو2016، حيث أعلن خلال خطابه أمام البرلمان الإثيوبي، التزام بلاده بدعم إثيوبيا تقنيًّا لكي تحقق الاستفادة القصوى من مواردها المائية. كما أكدت قيادة حركة تحرير بني شنقول المعارضة للنظام الإثيوبي، استعانة إثيوبيا بمهندسين وفنيين إسرائيليين في إنشاء سد النهضة، ومشاركة إحدى الشركات الإسرائيلية في التوزيع الخارجي للكهرباء التي سينتجها السد.

ثالثًا- السيناريوهات المحتملة للمفاوضات:

تتراوح الاحتمالات التي يمكن أن تؤول إلها المفاوضات بين احتمالين أساسيين، إما النجاح أو الفشل. وفيما يلي تفصيل لذلك:

1- نجاح المفاوضات:

       يرى البعض أن التشدد الإثيوبي يعود لرغبة أديس أبابا في استثمار أزمة السد في التغطية على المشكلات الاقتصادية والتوترات الإثنية التي تعانيها البلاد حاليًا، وفقًا لنظرية “الهروب إلى الأمام”، والتي تقوم على افتعال مشكلات خارجية للتغطية على مشكلات داخلية”. وأنها سوف تضطر في النهاية للاتفاق مع مصر والسودان، خاصة أن الملء الأول للسد في حال حدوثه بالفعل فهو لن يتجاوز4.9 مليار م3. وبالتالي تبدو الفرصة قائمة لإنقاذ المسار التفاوضي، وذلك استنادًا إلى الاعتبارات الأربعة الآتية:

   أ- انكشاف الموقف السياسي الإثيوبي بعد رفض السودان التوقيع على اتفاق ثنائي مع إثيوبيا، واستبعاد مصر، وهو ما يمثل ضغطًا إضافيًّا على المفاوض الإثيوبي.

  ب- إن رعاية الاتحاد الأفريقي للمفاوضات لا ينفي أن مجلس الأمن يظل هو صاحب الاختصاص الأصيل في إدارة الأزمة، وتكييفها على أنها تمثل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين من عدمه. وهنا يمكن للمجلس نقل تعامله مع الأزمة من الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة إلى الفصل السابع، ليطالب إثيوبيا بوقف ملء السد حتى يتم توقيع اتفاق ملزم.

ت- المخاوف الإثيوبية من رد الفعل المصري الذي يمكن أن يتضمن إجراءات قسرية تصل إلى حد استخدام القوة المسلحة، وذلك بعد استنفاد القاهرة لكل البدائل والخيارات السلمية، الأمر الذي قد يهدد استكمال مشروع السد، ويعرض إثيوبيا لخسائر اقتصادية فادحة. وهو أمر محتمل في ضوء أن تشغيل السد بدون اتفاق يمثل تهديدًا لمصلحة “مصيرية”، تهدد كيان الدولة المصرية حاليًا ومستقبلًا. وهو ما قد يدفع البرلمان المصري لتفويض القيادة السياسية باتخاذ قرار باستخدام القوة المسلحة لحماية الأمن المائي، قبل اكتمال ملء السد، وذلك على غرار القرار الذي اتخذه البرلمان بالإجماع في 20 يوليو2020 بالتدخل العسكري في ليبيا لمواجهة التدخل التركي فيها.

   ث- إن الاستفادة القصوى لإثيوبيا من السد تستلزم تحول مصر والسودان إلى معابر لتصدير الطاقة إلى أسواق دول آسيا وشمال أفريقيا، حيث إن اقتصار تصدير الطاقة على دول الجوار الإثيوبي فحسب دون الانفتاح على الأسواق الخارجية الأخرى، هو أمر لا يخدم إثيوبيا في ظل صغر حجم الأسواق بدول الجوار، وضعف القوة الشرائية فيها.  

2-  فشل المفاوضات: 

يظل هذا الاحتمال قائمًا، في ظل وجود العديد من المعطيات، وأهمها ما يلي:

  أ- تمسك إثيوبيا بالتوقيع على قواعد استرشادية لملء وتشغيل السد يمكن تغييرها مستقبلًا بمجرد الإخطار، دون اشتراط موافقة مصر والسودان. على ألا يتضمن أي اتفاق يمكن توقيعه النص على مفهوم الضرر ذي الشأن الذي يحتمل حدوثه إثر تشغيل السد، والتعويضات المناسبة التي ستلتزم بها إثيوبيا، أو تعريف مفهوم حالة الجفاف الممتد، أو تحديد كميات المياه المنصرفة في تلك الحالة، مع ترحيل القضايا الخلافية الفنية والقانونية الأخرى إلى اللجنة التي قد يتم تشكيلها في حال التوقيع على اتفاق. وهي لجنة لم تنشأ بعد حتى يمكن التعويل عليها.

  ب- وجود ثلاثة مؤشرات ترجح أن إثيوبيا قد بدأت إجراءات الملء الأول بالفعل. ومنها التصريحات الأخيرة لوزير المياه والطاقة الإثيوبي، وتصريح رئيس الوزراء الإثيوبي أمام البرلمان، والذي قال: “إن لم تملأ إثيوبيا السد فسيعني ذلك أننا قد وافقنا على هدمه”، بالإضافة لصور الأقمار الصناعية، التي تؤكد وجود تجمعات مائية خلف السد، والتقارير الصادرة من السودان والتي تؤكد تناقص منسوب مياه النيل الأزرق، وانخفاض تصريف كل من سد الروصيرص وسد سنار، الأمر الذي يندر حدوثه في موسم الفيضان، وهو ما انعكس بالسلب على إنتاج الكهرباء بالسدين وغيرهما من محطات توليد الكهرباء بالسودان.

  ت- ترى إثيوبيا أن البيئة التفاوضية الدولية والإقليمية تمثل دعمًا لموقفها، وأن مصر لن يكون بوسعها اللجوء للخيار العسكري، في ظل التحصينات الأمنية بمنطقة السد، وارتباط أديس أبابا باتفاقات أمنية مع إسرائيل وتركيا، وأن إثيوبيا ما تزال تشارك في المفاوضات، حتى ولو لم يتم توقيع اتفاق، الأمر الذي قد يظهر مصر في صورة الدولة المعتدية، مما قد يعرضها لعقوبات دولية وإقليمية أيضًا، بدعوى أن مصر تهدد الاستقرار بالقرن الأفريقي وحوض النيل.   

  ث- سعي إثيوبيا إلى تحويل ملف الأزمة من مجلس الأمن الدولي إلى الاتحاد الأفريقي، على أن يتم إحالته بعد ذلك إلى اللجنة القانونية للاتحاد، مما يعني إطالة أمد المفاوضات، واستنزاف المزيد من الوقت والجهد بالتوازي مع استكمال الملء الأول، وبالتالي تفويت الفرصة على مصر لتوجيه ضربة عسكرية للسد، في ظل التداعيات بالغة الخطورة لذلك على المشروعات المائية في السودان، وربما مصر أيضًا.

خاتمة:

في ظل المعطيات الراهنة يمكن القول بأن أزمة سد النهضة قد بلغت مرحلة “التعقيد الشديد”، خاصة أن ملء السد بدون اتفاق سوف يدفع الاستقرار بحوض النيل والقرن الأفريقي لحافة الهاوية. فهذا يعني بالنسبة لمصر انتكاس سياستها المائية، ودخولها لدائرة القحط المائي الشديد، وتهديد السلم الاجتماعي بها. كما أنه يمثل تهديدًا لإمدادات المياه والطاقة بالسودان، ويحرم إثيوبيا من تحقيق الاستفادة القصوى من السد.

وعلى ذلك، فإن المخرج الأولي لهذا الجمود الذي يعتري المسار التفاوضي يكمن في التوقيع على اتفاق كامل ملزم قبل استكمال إجراءات ملء السد، خاصة بعد رفض مصر التوقيع على اتفاق جزئي، وثبوت تضرر السودان من عملية الملء الأول. وهنا فمن المتوقع مع عودة الملف إلى مجلس الأمن الدولي أن تخوض مصر والسودان معركة دبلوماسية وقانونية لأجل استصدار قرار ملزم من جانب المجلس بعدم استكمال ملء السد حتى يتم التوصل لاتفاق. وهو أمر من المتصور حدوثه إذا ما لقي هذا التوجه مساندة قوية من الاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية، بالتزامن مع ضغوط المنظمات الدولية المعنية بقضايا المياه وإدارة الصراع.