كتبت – علياء عصام الدين

من قلب النهر المشبع بالحياة حيث تتناثر الحكايات وتحط رحالها على ضفتيه مع كل فيضان، وتختلط في القرية المجاورة له أحاديث الجيران مع وشوشات العابرين، وُلد الأديب السوداني الطيب صالح عام 1929.

وفي قرية “كرمكول” الصغيرة -بإقليم مروي الواقعة شمالي السودان، وعلى ضفاف النيل عند منحنى النهر- نشأ وترعرع “عبقري الرواية العربية” -كما درج الكثير من النقاد على تسميته- متشبعًا بعنفوان النيل وسحره وقوته، ليخرج في نَسَق استثنائي اكتملت فيه سردية التمازج بين الطبيعة والإنسان.

وعلى الرغم من سنوات الحرب والاستعمار والفقر والعَوَز التي عايشها، إلا أن الحياة على ضفاف النهر لا تعرف معنى الاستسلام وتظل تتلمس طريقها جيدًا مهما كانت التحديات.

ومن هذه الأجواء خرج الطيب صالح معجونًا بطمي النيل محبًّا لبلاده وبيئته ليظل أثر البيئة راسخًا في أعماقه أينما حل وارتحل.

يقول: “في جنبات الطبيعة في هذه البيئة بدأت مسيرة حياتي، ورغم أنني تعرجت في الزمان والمكان بعد ذلك، لكن أثر البيئة لا يزال راسخًا في أعماقي، وأعتقد أنّ الشخص الذي يُطلَق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع في أعماقه، والإبداع نفسه فيه البحث عن الطفولة الضائعة، حين كبرت ودخلت في تعقيدات الحياة، كان عالم الطفولة بالنسبة لي فردوسًا عشت خلاله متحررًا  من الهموم، أسرح وأمرح كما شاء لي الله، وأعتقد أنه كان عالـمًا جميلًا”.

العصفور المهاجر

قبل أن يُتم الطيب صالح تعليمه الابتدائي كان قد حفظ القرآن الكريم في كُتّاب قريته، وأظهر نبوغًا استثنائيًّا في الشعر والأدب، بيد أن تأثيرات النشأة على ضفاف النيل ظلت تحاوطه، فاتجه في بداية الأمر لدراسة الزراعة فتخصص في دراسة العلوم  بكلية الخرطوم التي التحق بها علم 1949 لكنه سرعان ما اكتشف عدم قدرته على المتابعة، فقطع دراسته بالكلية ليعمل مدرسًا للغة الإنجليزية بالمدرسة الأهلية الوسطى بمدينة رفاعة إحدى المدن الصغيرة بالسودان.

ومن قريته فتح صالح نافذة صغيره يطل منها على عالم الشمال، فبُهر به واستهوته المغامرة، فخرج مغادرًا كهفه الصغير إلى الأبد.

هاجر إلى لندن في شتاء عام 1953 محولًا اختصاصه من العلوم إلى الشؤون السياسية، وعمل في هيئة الإذاعة البريطانية ((BBC مذيعًا ومخرجًا ثم رئيسًا للقسم الدرامي، بيد أن هذا الانبهار نحو الشمال سرعان ما تلاشى وتضاءل شيئًا فشيًئًا، حتى صار الحنين إلى وطنه شبحًا يطارده ليل نهار.

الحنين إلى الجنوب

هكذا استقر عصفور الجنوب في أقصى الشمال، الشمال الذي استقبله ببرود وجمود أشعره بالوحشة والحنين لدفء قريته الصغيرة في الجنوب حيث بدأ رحلة التحدي، فعكف على دراسة الآداب والفنون متلمسًا طريقه إلى عالم الكتابة التي وُلدت لديه من رحم المعاناة وتحت وطأة الاغتراب والتي من خلالها ناجى وطنه السودان.

كتب صالح قصته القصيرة الأولى في نفس العام الذي هاجر فيه، وعبّر فيها عن حنينه الجارف إلى النهر وعالم “كرمكول”، فكانت “نخلة على الجندول” تعبيرًا عن فقده وحنينه إلى الديار، الجنوب الذي لم يعد كهفًا كما كان يراه بل بدا في الغربة منبعًا للحب وللحياة والدفء.

يقول في وصف إحساسه بعد الهجرة: “عندما  ابتعدتُ عن بيئتي شعرتُ بالفقد، والأدبُ -على أي حال- ينبع من الإحساس بالفقد، هو إحساس برثاء فردوس ضائع؛ لقد جئت إلى بلد لم أكن أرغب فيه، لأعمل عملًا ليس لي رغبة فيه أيضًا، تركت الأهل والأحباب والدور الفسيحة، لأجد نفسي داخل غرفة صغيرة برودتها لا تطاق، في بلد غريب بين قوم غرباء”.

عاد الطيب صالح إلى السودان وعمل مدة من الزمن في الإذاعة السودانية، وتوفي في 17 فبراير 2009 بلندن، وشيع جثمانه في مقابر البكري بأم درمان في 20 فبراير في مسقط رأسه.

في 2003 وتخليدًا  لقيمته الأدبية، تم إطلاق جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي في مجالات النقد والرواية والقصة القصيرة، تشجيعًا للفن والثقافة في السودان والوطن العربي.

من وحي القرية

كرّس الأدبُ الذي قدمه الطيب واقعيةً صورت الحياة اليومية البسيطة في بلدته والتي طالما كانت مسرحًا لأحداث رواياته؛ فالجنوب ظل حاضرًا وبقوة في معظم كتاباته، فمنه نَهَلَ وحي إبداعه وإليه كتب وعنه تحدث.

ظلت القرية السودانية بأهلها وعاداتهم وتقاليدهم هي الأفق الذي استمد منه صالح أغلب مواضيع رواياته، فراح يصور كل ما يتعلق بالمجتمع القروي من فساد ومشاكل وعادات وتقاليد وهموم، ويصف تنوع الفئات الاجتماعيه فيه وما يعتريهم من فروق.

عرفت كتابات الطيب صالح طريقها إلى العالمية وكبرى المجلات فكتب في 1960 “دومة ود حامد” وصف فيها حياة القرويين في موطنه السودان وتمسكهم بأراضيهم وقيمهم وعاداتهم، كما وصف مظاهر الحداثة التي اجتاحت حياة القرية وصراع الظلم والفساد والفقر والإقطاع المتجذر فيها، وقد ترجمت الرواية ونشرت في مجلة “أصوات” المتخصصة بالثقافة في لندن.

في عام 1967 نشرت له رواية “عرس الزين”، والتي خلط فيها ببراعة الثقافة الشفهية السودانية والمعايير الغربية الكلاسيكية، فبطل الرواية شاب أحمق مغفل غريب الأطوار يعيش حياة بسيطة مليئة بالجنون والفكاهة، لكنه صاحب حس مرهف، وله رؤيته الخاصة عن الجمال، يقع في حب “نعمة” ابنة عمه الجميلة ويسعى لتحسين مظهره ليصل إلى قلبها، وقد حققت الرواية نجاحًا كبيرًا، لاسيما بعدما تمّ تحويلها لفيلم سينمائي كويتي فاز بجائزة مهرجان كان السينمائي عام 1976.

بيضة الديك

تعد رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” تحفة الطيب صالح الأدبية -إن جاز لنا التعبير- وهي واحدة من أهم 100 رواية في تاريخ الأدب، وقد أثارت الرواية الكثير من الجدل والأسئلة وظلت خلال ربع قرن هدفًا للتحليل والتفكر بشأن ما تحويه من رسائل ودلالات حول طبيعة العلاقة بين بنيتها الروائية ومحمول هذه البنية.

صدرت الرواية في عام 1966، وشغلت الشارع الثقافي من قراء ونقاد ومثقفين، وسرعان ما تحولت من مجرد قصة عن الهجرة إلى سؤال عن الذات وتمثلاتها في صورة الشرق المهزوم وعلاقته بالغرب المستعمر، فكان السؤال الأكثر إلحاحًا في الرواية، هل تترك الشعوب المستعمَرة ماضيها وتستسلم للحضارة الغربية؟

تمكن الطيب صالح فيها من المزاوجة بعبقرية بين سحر الحكي التقليدي وسحر الشخصية في فنّ الرواية الحديثة، فخرجت لنا عملًا بسيطًا واضحًا، وكانت بمثابة استكشاف لتلك الآثار اللاواعية التي خلّفها الاستعمار الأوروبي في نفوس الشعوب المستعَمرة والمستعِمرة على السواء.

أظهرت تفاصيل الرواية عمقًا فكريًّا ووعيًا سياسيًّا حادًّا تميز به بطل الرواية، حيث أشاد بفحواها الكثير من النقاد الذين رأوا فيها عملًا مدهشًا وسلسًا وثريًّا ومتفردًا.

يقول الناقد ستيفان ماير، عن الرواية: “قد تبدو مهمة من عدة نواحٍ، لكنها من ناحية أهم كانت وسيلة لاكتشاف تشابك العلاقات بين النوع الإنساني والسلطة ضمن مظلة الشرق/ الغرب حيث تنسج الرواية مجموعة كبيرة من الجدليات، مثل: الذكر/ الأنثى، المسلم/ المسيحي، الشمال/ الجنوب، التقليد/ الحداثة، الريف/ الحضر، وهي كافية لظهور كتابات جيل من الأكاديميين حول الفروق الدقيقة غير المكتشفة في الرواية”.

وكتب رجاء النقاش مقالًا نقديًّا -نشره في مجلة المصور- تحت عنوان “الطيب صالح.. عبقرية روائية جديد”- قائلًا: “لم أكد أنتهي من قـراءة الرواية، حتى تيقنت أنني -بلا مبالغة- أمام عبقرية جديدة في ميدان الرواية العربية، تولد كما يولد الفجر الجديد المشرق، وكما تولد الشمس الأفريقية الصريحة الناصعة”.

بفضل “موسم الهجرة” تُوج الطيب صالح بلقب “عبقري الرواية العربية”، حيث حققت الرواية شهرة عريضة فكانت بمثابة بيضة الديك بالنسبة له، وترجمت لكثير من اللغات بما فيها الصينية والعبرية.

ظلت الرواية على مدار أكثر من 40 عامًا مقيًاسا يوزن من خلاله قيمة الأعمال التي تناولت فكرة الصدام بين الشرق والغرب، حيث وصفتها الأكاديمية العربية بدمشق بأنها أهم رواية عربية في القرن العشرين على الرغم من أنها منعت من دخول بعض الدول العربية لما حوته من إيحاءات جنسية.

صائد النساء

ظل لغز بطل “موسم الهجرة إلى الشمال” مصطفى سعيد” الشغل الشاغل للنقاد والقراء على مدار أعوام حتى ظن البعض أن الرواية سيرة ذاتية للكاتب، بيد أن الطيب صالح نفى ذلك، مشيرًا إلى أن شخصيته أقرب لبطل “عرس الزين” منه إلى “مصطفى سعيد”.

ومصطفى سعيد -كما وصفه الطيب صالح- هو صورة لشخصية الإنسان الذي جاء من العالم الثالث إلى الغرب فهُزم وضاقت به السبل هناك، لكنه أصر وسعى على تحقيق الانتصار فكان الجنس هو  ميدانه الأول.

وبطل الرواية شخصية مركبة معقدة وقاسية، هو دنجوان وصائد نساء ماهر، يمكن تلخيص شخصيته من خلال عبارة لقاضي المحكمة في بريطانيا وردت في الرواية: “إنه رجل استوعب عقله الحضارة الغربية، ولكنها شطرت قلبه”.

اشتهر مصطفى سعيد بمغامراته النسائية؛ فهو شاب ذكي قادر على جذب النساء بحكاياته المثيرة عن الشرق الساحر، فيستدرج الجميلات ويجلبهن إلى غرفة نومه ليتنشقن عطور الشرق وبخوره.

دارت حياة بطل الرواية في لندن بين أحضان الجميلات حيث تزوج بعضهن منتحلًا أسماءً مزيفة، وانتحر بعضهن الآخر بسبب قسوته وجفاءه… حتى جاءت تلك المرأة التي فشل في ترويضها واستدراجها بسحره “جين موريس”، تلك التي ظل يطاردها طيلة ثلاث سنوات حتى تمكن من الزواج منها وكسب الرهان بعد أن ملت الفرار والسخرية منه.

لم تستطع “جين موريس” الأوروبية التأقلم مع شخصية الرجل الشرقي التي تمثلت في مصطفى سعيد، فظلت تقاومه وتسخر منه ومن عاداته حتى أقدم على قتلها.

 عاد الدنجوان إلى وطنه شمال السودان بعد أن قضى 7 سنوات في السجن، حيث انتهت حياته في ظروف غامضة غارقًا في النيل.

يقول: “إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة، أريد أن أعطي بسخاء، أريد أن يفيض الحب من قلبي فينبع ويثمر، ثمة آفاق كثيرة لابد أن تزار، ثمة ثمار يجب أن تقطف، كتب كثيرة تقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملاً واضحة بخط جريء”.

هكذا تمكن الطيب صالح من أن يأخذ من الحياة كل ما تمناه، فكان عصفورًا حرًّا هاجر إلى الشمال، وغرًد مقطوعاته الأدبية المعجونة بسحر الشرق ليظل اسمه أحد هذه الأسماء اللامعة في ذاكرة العالم العربي وأفريقيا.