كتبت – أسماء حمدي

عندما نفكر في جدارية تضم صورًا لأسماء كل الذين تركوا أثرًا ثاقبًا في الحياة، يجب أن نضع في المنتصف صورة هذا الإنسان الحرّ، إنه “باتريس إمري لومومبا” أول رئيس وزراء منتخب في هذا البلد الكبير في وسط أفريقيا، والمعروفة الآن بجمهورية الكونغو الديمقراطية.

لم يكن لومومبا مجرد زعيم وطني أفريقي ناضل وضحى بحياته من أجل حرية بلاده من الاستعمار الأجنبي، بل أيضا كان ضحية لما يسمي الاستعمار الجديد الذي ابتليت به القارة الأفريقية علي مدار العقود التي تلت  استقلال دولها، فالاستعمار الجديد حرص علي استمرار تبعية الدول الأفريقية للقوي الاستعمارية الغربية.

شكلت الكونغو الديمقراطية في بداية الستينيات حلبة تصارع دولي رهيبة بين القطبين الدوليين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة للعديد من الاعتبارات أهمها على الاطلاق غناها بمناجم اليوروانيو المستخدم في صناعة القنابل النووية، لذا كانت الدول الكبرى أكثر حرصا على الاستيلاء علي صناعة القرار في كينشاسا لأجل ضمان ضمان حصولها على اليورانيوم وحرمان بقية الدول منه، ومن الجدير بالذكر أن اليورانيوم المستخدم في قنبلتي هيروشيما ونجازاكي تم استخراجه من الكنغو.

وفي خضم البيئة المضطربة التي سادت العالم في بداية الستيتيات حيث استقلال العديد من الدول الأفريقية وأفول ظاهرة الاستعمار التقليدي وتأزم الحرب الباردة بين القطبين الكبيرين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيني ومأزق الأمم المتحدة في إرساء السلم والأمن الدولي بزغ نجم باتريس لومومبا كمناضل أفريقي من أجل الحرية، ساعيا بكل ما أوتي من قوة في تحقيق استقلال بلاده سواء من الاستعمار التقليدي القديم (بلجيكا) أو من الاستعمار الجديد المتمثل في تبعية بلاده للقوى الغربية واستمرار استنزاف ثرواتها لصالح الدول الكبري.

الكونغو الأسير في القبضة البلجيكية

في نهاية القرن التاسع عشر احتدم الصراع بين القوى الأوروبية لأجل السيطرة على أكبر قدر من المستعمرات في أفريقيا ولأجل هذا هذا الغرض عُقد مؤتمر برلين 1884 ـ 1885 لإزالة الخلافات بين القوي الكبري حول الأقاليم الفريقية وفي ذلك المؤتمر تم تقسيم افريقيا بين القوى الاستعمارية وخرجت بلجيكا من هذا المؤتمر بجائزتها الكبرى الكونغو.

لم تكن بلجيكا من الدول ذائعة الصيت كفرنسا وإنجلترا في التجارب الاستعمارية إذ اكتفت بثلاث مستعمرات في وسط أفريقيا  هم الكونغو الديمقراطية وروندا وبروندي، ورغم ذلك استعملت بروكسل أشد الأساليب الاستعمارية قسوة ووحشية بحق شعوب مستعمراتها، وفاقت جرائمها الجرائم التي ارتكبت في المستعمرات الانجليزية والبريطانية.

هتلر المنسي

دأبت الصحافة الأوروبية على وصم الملك البلجيكي «ليوبولد الثاني» الذي تم في عهده احتلال الكونغو  بلقب هتلر الثاني ككناية عن جرائمة التي لا حدود لها في حق شعب الكونغو، وفي هذا الصدد يشير الباحث في جامعة دنفر  الأمريكية Jay Syrmopoulos في مقاله المنشور على موقع مشروع الفكر الحر إلا أن الملك ليوبولد الثاني قتل على الأرجح حوالي 10 مليون إنسان في الكونغو الديمقراطية تم استغلالهم في استخراج المطاط، حيث عوملت الكنغو التي تقدر مساحتها أضعاف مضاعفة من مساحة بليجيا على أنها وقف خاص للملك ليوبولد الثاني.

وفي إطار تنفيذ سياسة الابادة الجنسية واستغلال الثروات الكنغولية لجأت بروكسل إلى تجنيد بعض العناصر المحلية لأجل مساعدتها في تنفيذ مسعاها، وضمان توريد المواد الخام إليها التي يتم استخدامها في الصناعة، ويضيف  Syrmopoulos إلي أن ليوبولد عمد إلي التغطية على جرائمه في الكنغو  عن طريق العديد من الجمعيات الخيرية.

النضال لأجل الاستقلال

رغم قسوة ووحشية الاستعمار  البلجيكي للكونغو إلا أن النضال لأجل استقلال البلاد بدأ في مرحلة مبكرة، ففي البداية عملت الصحف الأوروبية على توجيه انتقادات حادة للسياسة الاستعمارية البلجيكية في الكونغو الذي عُد وقفا خاصا للملك ليوبولد الثاني، الأمر الذي دفع البرلمان البلجيكي في عام 1908 إلي الاعتراف بالكنغو مستعمرة بلجيكية وليس وقف خاص للملك.

أدي أداء السلطات الاستعمارية البلجيكية إلي تنامي روح الثورة والتمرد علي المحتل البلجيكي وخروج أجيال كنغولية جديدة رافضة للاستعمار البجليكي الذي ضعف عقب احتلال بلجيكا في الحرب العالمية الثانية على يد ألمانيا، فخلال الفترة ما بين انتهاء الحرب العالمية الثانية واستقلال الكنغو نمت وتيرة وموجة الاستقلال ليس في الكنغو فحسب بل في دول العالم الثالث أجمع.

اتضاح الرؤية

تعرض باتريس لومومبا الذي ولد عام 1925 إلي حالة من القمع والاضطهاد المبكر  في بداية مسيرته السياسية التي لم تتجاوز عقدا من الزمن، ففي البداية لم تكن فكرة استقلال الكونغو واضحة في ذهنه حيث طالب بتحقيق المساواة بين البلجيكيين والكنغوليين  وذلك خلال انضمامه للحزب الليبرالي البلجيكي، وخلال فترة انضمامه للحزب ناضل لومومبا ضد سياسات التمييز العنصري تجاه الكنغوليين.

 شيئا فشيئا اتضحت الرؤية السياسية لدي لومومبا خاصة في عام 1958 الذي أسس فيه الحركة الوطنية الكنغولية والتي دعا من خلالها إلي مقاومة الاستعمار سلميا وإقامة دولة وطنية وتوزيع عادل للثروات الكنغولية، وراجت أفكار لومومبا وسط الشباب الكنغولي مما أدي إلى ازدياد نشاط المقاومة.

ولأجل امتصاص غضب المقاومة دعت بروكسل لعقد انتخابات في عام 1959 إلا أن لومومبا رفض إجراء الانتخابات مطالبا بتحقيق الاستقلال التام مما أدي إلى اعتقاله وتعذيبه  مما زاد حدة التمرد الكنغولي الذي دفع السلطات البلجيكية إلي الافراج عن لومومبا وإعلان استقلال الكونغو، وفي عام 1960 أجريت الانتخابات وفاز بها لومومبا الذي أصبح أول رئيس وزراء للبلاد بعد الاستقلال.

وفي إطار حرصة على الاستقلال كان ضمن المشاركين في مؤتمر أكرا عام 1958 الداعي إلي إقامة الوحدة الأفريقية والتخلص من الاستعمار

المشاكل الحقيقة تأتي بعد الاستقلال

أشرنا في بداية المقال إلى أن الدول الغربية الاستعمارية نجحت في استبدال الاستعمار الكلاسيكي بالاستعمار  الجديد القائم على تمكين العديد من الموالاة لتلك الدول في المناصب القيادية في الدول الأفريقية وهو ما واجه لومومبا بعد الاستقلال.

ففي إطار خطته للتخلص من بقايا الاستعمار البلجيكي في الكونغو وإدارة البلاد لمواردها الاقتصادية والتخلص من معاهدة الصداقة الكنغولية البلجيكية وجد معارضة شديدة من الرئيس الكنغولي جوزیف كازافوبو  الذي سعل إلى إقالة لومومبا ومن جانه حرص لومومبا أيضا على عزله.

وفي سياق الخلاف بين الطرفين ظهر صراعا أخر في جنوب شرق الكونغو  الديمقراطية وهي محاولة إقليم كاتنجا الغني بمواد اليورانيوم الانفصال عن الكونغو بزعامة مويس كابيندا تشومبي الذي استولي على الاقليم وموارده لصالح المستعمر البلجيكي، فتشومبي كان ضمن العناصر المحلية المؤيدة للاستعمار البلجيكي، وفي إطار رفضه لسياسات لومومبا التحريرية أعلن تشومبي الحرب على كينشاسا مطالبا بانفصال إقليمه.

موبوتو الظهور الأول 

أدي الصراع السياسي بين  كازافوبو  ولومومبا إلي إرباك الحياة السياسية مما دفع كازافوبو  إلى إقالة لومومبا والانقلاب عليه وإعلان هذا عبر الراديو في 5 سبتمبر 1960، إلا أن قرار الرئيس الكونغولي وجد معارضة شديدة من لومومبا الذي ألقي بيان هو الأخر في الإذاعة رافضا للانقلاب عليه، وإزاء هذا التناحر السياسي بين الطرفين تدخل قائد الجيش موبوتو بانقلاب عسكري للإطاحة بلومومبا تحت دعوى تحييد الخلافات السياسية بين الطرفين.

الاعتقال والاغتيال

حاول لومومبا مقاومة انقلابي كازافوبو وموبوتو إلا أن محاولاته باءت بالفشل الذريع إذ تم القبض عليه في نهاية أكتوبر 1960 وأودع في سجن تيسيفيل، إلا أن بقاء لومومبا حيا حتي في محبسه يظل عامل خطوره علي النظام السياسي، فلومومبا من وراء قبضان محبسه قد ينجح في تأليب جنود موبوتو، لذا قرر تسليمه إلي ألد أعدائه وعو مويس تشومبي.

في 17 يناير 1961 تم إخراج باتريس لومومبا من محبسه واقتيادته إلي معسكرات تشومبي، حيث قام مرتزقة تشومبي بإمطار لومومبا بوابل من عشرات الطلقات في أحد غابات الكونغو ، وبموته تكون بلجيكا قد تخلصت من أهم مناهضي سياساتها الاستعمارية في أفريقيا.

مصر تتدخل لإنقاذ أبناء لومومبا

الزعيم جمال عبد الناصر يستقبل السيدة بولين اوبانجا لومومبا زوجة المناضل و البطل الأفريقي باتريس لومومبا بعد مقتله عام ١٩٦١

عقب اغتيال لومومبا انطلقت الميليشات المرتزقة بحثا عن أبناء لومومبا ليلاقوا مصير  والدهم المغدور، إلا أن القوة المصرية العاملة في الكونغو  ضمن إطار قوات الأمم المتحدة برئاسة الفريق سعد الدين الشاذلي كان لها رأي أخر، إذ تحركت القوة المصرية بأوامر من الرئيس جمال عبد الناصر ونحجت في الوصول إلي أبناء لومومبا الثلاثة فرانسوا وباتريس وجوليانا وتسفيرهم إلى القاهرة بجوازات سفر وهمية على أنهم مصريين وأحد أبناء الجالية المصرية في الكنغو (محمد عبد العزيز اسحق مستشار السفارة المصرية في الكنغو وصديق شخصي لومومبا)، وفي مرحلة لاحقة لحقت بهم والدتهم وأخاهم الرضيع رولا.

وفي هذا الإطار يشير باتريس لومومبا (الابن) في مقال نشرته صحيفة البيان الإماراتية إلي أن باتريس لومومبا الأب نجح في إرسال خطاب إلي عبد الناصر يحثه على الرعاية بأطفاله في حال اغتياله وهو ما حدث حيث تلقت أسرة لومومبا عناية فائقة من جمال عبد الناصر الذي حرص على استقبالهم وتوفير كافة المتطلبات المعيشية لهم في القاهرة، كما حرص عبد الناصر على تعليم أبنا لومومبا خاصة اللغة العربية ليكونوا سفراء لمصر في الكونغو.  

اعتذار بلجيكي

في عام 2002 قدمت بلجيكا اعتذارها عن دورها في حادث اغتيال لومومبا حيث تم تشكيل لجنة برئاسة عضو البرلمان البلجيكي جيرت فيرسينك للتحقيق في الممارسات البلجيكية في الكونغو ومستعمراتها، وأفضت التحقيقات عن دور بلجيكي في عملية الاغتيال وفي هذا الإطار أعلن وزير الخارجية البلجيكي في عام 2002 لويس ميشيل عن اعتذار بلاده لما حدث في اغتيال لومومبا.

وأخيرا رغم مرور أكثر من 58 عاما على رحيل لولومبا وليل بهيم يلف شوارع الكونغو، اغتيال وإن بدا قديما إلا أن رائحته لا تزال تزكم الأنوف وتجرح المشاعر، و من لحظتها لم تهدأ الكونغو ولم يكتب لها الهدوء، فأيام البلاد بعد باتريس تراوحت بين مأسي الحروب الأهلية والأزمات الاقتصادية وعدم الاستقرار السياسي، ولا يزال تعذيبه واغتياله يمثلان من أقسى الأعمال الوحشية المؤسفة في التاريخ السياسي الأفريقي.