أماني ربيع

أعطى المخرج الموريتاني عبدالرحمن سيساكو لسينما بلاده بعدًا عالميا، بتسليطه الضوء على قضايا ومشكلات المجتمعات المحلية الأفريقية، كالصراع بين العولمة والهوية، وتعرضت أعماله أيضًا لتأثيرات الجماعات الإسلامية المتشددة على دول القارة السمراء عبر رؤية سينمائية جادة تقدم مشكلات حقيقية في القارة.

أصبح سيساكو واحدًا من أهم صناع الأفلام في أفريقيا، ومن القلائل من أفريقيا جنوب الصحراء الذين حققوا حضورا دوليًا فعالًا، بجانب عثمان سيمبين، وسليمان سيسي، وإدريسا وجبريل ديوب مامبيتي.

الدراسة في موسكو

ولد عبدالرحمن سيساكو في كيفة بموريتانيا عام 1961، لكن نشأته كانت في موطن والده بدولة مالي، وعندما عاد إلى موريتانيا عام 1980 دفعته الصعوبات المالية وعدم القدرة على التكيف إلى الاهتمام بالأدب والسينما.

سمحت له منحة دراسية بتحقيق شغفه بدراسة السينما في موسكو في المعهد الفيدرالي للأفلام “VGIK” بين عامي 1983 و1989، كما فعل قبله والد السينما الأفريقية السنغالي عثمان سمبين حيث قدمت موسكو في ذلك الوقت دعما لطلاب السينما من دول غرب أفريقيا عبر التبادل الثقافي والتعليم والتدريب.

ظهرت موهبة سيساكو منذ البدايات، وفاز أول أفلامه “Le Jeu” الذي قدمه كمشروع تخرج عام 1989 بجائزة أفضل فيلم قصير في “Giornate del Cinema Africano” عام 1991.

أسمر في بلاد الغرب

ألقى فيلمه القصير “أكتوبر” عام 1993، الضوء على تجربته بالاتحاد السوفييتي كرجل أسمر البشرة، تناول عبر لوحة سينمائية بالأبيض والأسود، قصة الطالب الأفريقي إدريسا، وصديقته الروسية إرينا وصعوبات تكوين علاقة رومانسية بسبب الاختلافات الاجتماعية والثقافية في الثمانينيات بين مالي وموسكو، عُرض الفيلم في مهرجان لوكارنو السينمائي.

انتقل إلى الحياة في باريس منذ بداية التسعينات، وهو ما يوضح تأثره بالسينما الأوروبية أكثر من نظيرتها الأفريقية، وعندما يُسأل عن الأفلام التي أثرت فيه، لم يذكر أفلاما صنعها أفارقة، بل ذكر مثلًا: “Strada” لفيليني، و”Ivan’s Childhood” و”Andrei Rublev” لتاركوفسكي، و”Fear Eats the Soul” لراينر فاسبيندر، و”The Passenger” لأنطونيوني.

البدايات

في عام 1998 قدم فيلم “Rostov-Luanda” الذي ناقش علاقة الدول الأفريقية مع العالم، يروي الفيلم قصة البحث عن صديق قديم فيلم سيرة ذاتية عن صديق حقيقي من أنجولا يدعى باريبانجا تعرف عليه سيساكو أثناء دراسته في موسكو، وكيف يؤدي به البحث إلى لقاء مع أنجولا الحالية، رحلة ومغامرة من موريتانيا إلى مالي ثم الاتحاد السوفيتي وصولا إلى أنجولا، يقدم الفيلم في نسيج شاعري تاريخ البلدان وتداخلها، ويكشف لنا عن تجربة حسية من واقع القارة السمراء.

أخرج الفيلم القصير “La vie sur Terre” في عام 1998 أيضًا، مدته 60 دقيقة، وأنتج كجزء من سلسلة دولية من 10 حلقات لإظهار تأثير اقتراب الألفية الجديدة على الناس حول العالم، وأبرز هذا الفيلم سيساكو كشخصية رائدة في السينما الأفريقية.

انطلاقة عالمية

جاءت انطلاقته على الساحة العالمية، عبر فيلم “في انتظار السعادة” عام 2002، فاز الفيلم بجائزة نقاد الأفلام “فيبراسي” بمهرجان كان السينمائي، كما عُرض في مهرجان نيويورك السينمائي بنفس العام، وفاز بالجائزة الكبرى في مهرجان ” FESPACO “عام 2003.

أظهر سيساكو مقدرته في إضفاء صبغة شاعرية على السياسة في فيلم “باماكو” عام 2006، وهو أول أفلامه التي تناولت السياسة بشكل صريح بعيدًا عن السيرة الذاتية، لكنه عرض أيضًا موضوعات ظهرت ضمنًا في أعماله السابقة مثل إرث الاستعمار والعلاقة غير المتوازنة بين العالمين الأول والثالث.

باماكو

في “بامكو” وداخل قاعة محكمة بالهواء الطلق، يتهم الشعب المالي البنك الدولي وصندوق النقد الدولي بالإضرار باقتصادهم، في محاكمة خيالية مرتجلة تبحث عن عدالة رمزية، وتناقش تأثير العولمة والاستعمار الجديد الذي عصف باستقرار القارة السمراء، في هذه الساحة البدائية جعل سيساكو المستحيل ممكنا، في سيناريو لا يمكن تحقيقه واقعيا على أرض الواقع.

عُرض الفيلم في العام الذي توفي فيه أبو السينما الأفريقية المخرج السنغالي عثمان سمبين، وقوبل بإشادة واسعة جعلته في طليعة صناع السينما الأفريقية والوريث لأفلام الواقعية السياسية بعد سمبين، وتقديمها لأجيال جديدة.

أنسنة الجهاديين

يطرح سيساكو في أفلامه مواضيع صعبة ومعقدة بصورة بسيطة وجميلة وعلى نفس النهج سار فيلمه “تمبكتو” عام 2014، الذي يعد أكبر نجاحاته على المستوى الدولي، رسم خلاله صورة متعاطفة وإنسانية للحياة اليومية في المدينة المالية القديمة التي مزقها العنف والأصولية في السنوات الأخيرة.

صدر الفيلم في وقت تصاعدت فيه التغطية العالمية لهجمات الجماعات الإسلامية المتشددة مثل: “داعش” و”بوكو حرام” في نيجيريا، نرى في الفيلم وجهة نظر مغايرة حول حياة الأشخاص الذين نشاهدهم في الأخبار، واعتبر الفيلم جريئا في محاولته لـ “أنسنة الجهاديين”.

نجاح دولي

نافس الفيلم على السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي، وحصل على ترشيح لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي لعام 2015، واكتسح جوائز سيزار الفرنسية بنفس العام، بحصوله على 7 جوائز بما فيها أفضل مخرج وأفضل فيلم، ليصبح سيساكو بعد ذلك وجهًا مألوفًا ومشاركًا منتظمًا بالمهرجانات العالمية.

في عام 2003، اختير سيساكو عضوًا في لجنة تحكيم مهرجان برلين السينمائي وكان عضوًا أيضًا في لجنة تحكيم مهرجان كان عام 2007. 

كرمته لجنة تحكيم جائزة “كونراد وولف” الممنوحة من أكاديمية الفنون في برلين (AdK) عن مجمل أعماله الفنية، باعتباره واحدا من أهم صناع الأفلام في أفريقيا، عبر أعمال انطلقت منها عشرات الأهداف والأفكار الإنسانية، وكيف يعيد صياغة نفسه كمخرج مع كل فيلم.

دعم هواة السينما في نواكشوط

في عام 2002، أسس سيساكو مع المخرج عبدالرحمن ولد أحمد سالم، وسينمائيين آخرين مدرسة لتعليم الشباب مبادئ السينما، باسم “دار السينمائيين”، التي ساهمت في خلق بيئة سينمائية خصبة في نواكشوط، وتنظيم ورش ودورات والمساهمة في إنتاج أفلام للهواة والمحترفين، بالإضافة إلى مبادرة “الشاشة الرحالة” التي تنقل السينما إلى الأرياف والأماكن النائية.

وأطلق سيساكو مع مجموعة من السينمائيين الموريتانيين “أسبوع الفيلم الموريتاني” للتعريف بإنتاج هواة السينما، وعرض أفلام عربية وأجنبية، واستضافة شخصيات سينمائية هامة.