كتب.. محمد الدابولي

في عملية عسكرية هادئة، تمكنت الاستخبارات الأمريكية، مطلع الأسبوع الحالي، من تصفية زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في وسط العاصمة الأفغانية “كابول”، والذي تولى قيادة التنظيم عقب مقتل مؤسسه أسامة بن لادن في مايو عام 2011.

 خلال فترة توليه، حاول “الظواهري” الحفاظ على إرث “بن لادن” في جعل “القاعدة” تنظيمًا عالميًّا جامعًا لكافة التنظيمات الأخرى المتناثرة حول العالم، إلا أن المتغيرات العالمية التي واكبت توليه المسئولية كانت أكبر من قدراته وطموحاته التنظيمية، إذ لم تمر سنوات عدة حتى تصدعت أفرع التنظيم، مُعلنة استقلاليتها عن “القاعدة” وسحب بيعة “الظواهري”، وتجلى ذلك بصورة صارخة في نشأة تنظيم داعش وإعلانه الخلافة في عام 2014.

بظهور “داعش” وتمدده في أفريقيا وانفصال العديد من الحركات والقيادات الأفريقية التقليدية مثل انفصال “مختار بلمختار” عن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في عام 2012 وتشكيل تنظيم “المُلثمون”، وكذلك انفصال حركة التوحيد والجهاد، وأيضًا تغير بيعة “بوكو حرام” من “القاعدة” إلى “داعش” عام 2016، هذا بالإضافة إلى تغلب الطابع الإثني على معظم التنظيمات الأفريقية مثل جبهة تحرير ماسينا وجبهة نصرة الإسلام والمسلمين، والتنظيمات المنتشرة حاليًّا في غرب أفريقيا، كل هذه العوامل أدت إلى ولوج “القاعدة” مرحلة الانحسار التدريجي، ومن المتوقع أن سطور نهايتها خُطت حاليًّا بمقتل “الظواهري”.

ارتباط أفريقي

لعبت القارة الأفريقية دورًا هامًّا في تاريخ “القاعدة”، ففي بداياتها اتخذت أفريقيا موطنًا لها في السودان، كما كانت باكورة عملياتها الكبرى في أفريقيا مثل تفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام عام 1998، وتفجير المدمرة الأمريكية كول في خليج عدن عام 2000، كما أن معظم قيادتها المؤثرين ينتمون قاريًّا إلى القارة السمراء، مثل أيمن الظواهري، وسيف العدل وعبدالرحمن المغربي المرشحان الأوفر حظًّا لتولي التنظيم حاليًّا.

ومثلما كانت أفريقيا هي نقطة البداية لتنظيم القاعدة، فهي أيضًا نقطة النهاية له،إذ تمكنت التنظيمات الأفريقية من تطوير قدراتها التنظيمية، وسارت أكثر استقلالية وانفصالًا عن التنظيم الأم في جبال قندهار الأفغانية، وتلاحمًا مع الطبائع الأفريقية المجتمعية والإثنية والسياسية.

لذا يمكن اعتبار تصفية “الظواهري” بمثابة قطع شعرة معاوية التي كانت تربط التنظيم بأفريقيا، فرغم انعدام كاريزميته القيادية عكس سابقه “بن لادن”، إلا أنه كان يحظى بهيبة وبيعة وتقدير في نفوس قيادات بعض الجماعات الأفريقية وغير الأفريقية، وبموته قد تدخل “القاعدة” مرحلة التقزم والشتات في أفريقيا والعالم، وهو ما سيتم توضيح أسبابه في النقاط التالية:

  • افتراق الحلفاء: على مدار 3 عقود وفر التحالف التنظيمي بين “القاعدة” وحركة طالبان ملاذًا آمنًا وحاضنة شعبية للقاعدة في جبال أفغانستان، إلا أن عملية مقتل “الظواهري” في منزله وسط العاصمة كابول المسيطر عليها حاليًّا من قبل طالبان، تثير الشكوك حول مستقبل التحالف بين التنظيمين، حيث تذهب بعض التحليلات والتأويلات إلى دور ما لعبته قيادات “طالبان” في كشف موقع “الظواهري”، إذ يأتي اغتياله تماشيًا مع المرحلة الجديدة التي بدأتها “طالبان” بعد اتفاق الدوحة (2020) وسيطرتها على الحكم في البلاد.
  • هيمنة النموذج الطالباني: شكل نجاح اتفاق الدوحة بين حركة طالبان والولايات المتحدة حدثًا ملهمًا لكافة التنظيمات المسلحة خاصة في أفريقيا، فطالبان رغم أنها تتبنى منهج السلفية الجهادية إلا أنها في الأساس حركة مسلحة إثنية، فطالبان غلب عليها الطابع البشتوني، وهو الوضع الدارج والمتعارف عليها أفريقيًّا؛ إذ إن معظم الجماعات في أفريقيا تحمل طبائع إثنية مثل تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين الذي ينتمي أنصاره إلى جماعة الأزواد، وكذلك بوكو حرام التي تنتمي إلى جماعات الهوسا الفولاني وتحديدًا الجماعات المهمشة في محيط بحيرة تشاد.
  • تشظي التنظيمات الإرهابية الأفريقية: خلال الفترة الممتدة من عام 2001 وحتى 2012، كانت التنظيمات الإرهابية في أفريقيا تدور في فلك القاعدة سواء تنظيميًّا أو فكريًّا، ونذكر في هذا الخصوص تنظيمات مثل اتحاد المحاكم الإسلامية ومن بعده حركة شباب المجاهدين في الصومال، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وأخيرًا بوكو حرام في فترة تولي محمد يوسف قبل اغتياله في عام 2009.

 لكن بعد عام 2012 وفي ظل تداعي أزمتي ليبيا ومالي، تفشت ظاهرة انتشار الجماعات الإرهابية في أفريقيا والتي بدأت تخرج خارج إطار تنظيم القاعدة وعملياته الخارجية وصارت الرابطة بين “القاعدة” والتنظيمات الموالية رابطة فكرية أيديولوجية أكثر من كونها رابطة تنظيمية، ويبرز في هذا الأساس تنظيم نصرة الإسلام والمسلمين بقيادة إياد أغ غالي في منطقة الساحل، وتنظيم أنصارو في نيجيريا، كما أن تنظيم حركة شباب المجاهدين هو الآخر يتميز باستقلالية حركية وتنظيمية عن “القاعدة”، وإن كان مرتبطًا أيديولوجيًّا وفكريًّا بها، هذا فضلًا عن قضم تنظيم داعش المزيد من وجود “القاعدة” في أفريقيا، وبات أكثر التنظيمات انتشارًا في كافة أرجاء القارة.

  • أزمة الخلافة: قوبل اختيار الظواهري زعيمًا للقاعدة خلفًا لـ”بن لادن” على مضض، فرغم افتقاده الكاريزما المناسبة لهذا المنصب إلا أن ملازمته لـ”بن لادن” طوال حياته فضلًا عن امتلاكه خبرات تنظيمية طويلة بدأت مع نشأته في ظل الجماعة الإسلامية في مصر في ثمانينات القرن الماضي، مرورًا بمرحلة الجهاد الأفغاني ثم أحداث سبتمبر 2001 وما تبعها من حوادث كبرى، كل هذه العوامل أهلته ليكون زعيما للتنظيم، لكن بعد وفاة “الظواهري” من المرجح أن يمر التنظيم بمرحلة حرجة تتمثل في اختيار زعيم جديد، فمعظم الأسماء المطروحة حاليًّا سواء سيف العدل أو عبدالرحمن المغربي ما زالت شخصياتهما الحقيقية مبهمة، ومن المؤكد أن من ستقع عليه البيعة سيواجه تحديات غير مسبوقة في تاريخ التنظيم، أبرزها السيطرة على قيادات التنظيم في قندهار والعلاقة مع “طالبان” الحاكمة وليست المتمردة، وأخيرًا ضبط العلاقات مع التنظيمات الموالية والمتحالفة في أفريقيا.

 واتساقًا مع النقطة الأخيرة، ستكون القيادات الأفريقية الموالية فكريًّا أو تنظيميًّا لـ”القاعدة” عصية على الاندماج مرة أخرى في فلك “القاعدة”، وستمارس أدوارها بصورة أكثر استقلالية عن ذي قبل، بل قد ترى أنها أكثر تأهيلًا لترث منصب قيادة التنظيم حاليًّا.