أماني ربيع
في ظهيرة يوم خميس بارد وممطر في يناير عام 2016، وصل محققان من قوة الشرطة الفيدرالية في بروكسل إلى قرية ميلين، التي تبعد نحو ساعة عن العاصمة البلجيكية، وتوقفا عند منزل من الطوب الأحمر على حافة المدينة، كانت “الفيلا الراقية في قرية ريفية”، كما وصفتها الشرطة لاحقًا في إجراءات المحكمة، محاطة بسياج معدني.
أطلق الضباط الجرس، وتم السماح لهم بالدخول عبر بوابة مدببة، أجابت على الباب امرأة صغيرة الحجم، كان اسمها جودليف سويت، التي على رغم من ولادتها في بلجيكا، أمضت معظم حياتها في أفريقيا، حيث كان والدها ضابطًا في الشرطة الاستعمارية في الكونغو البلجيكية، وبعد عقود من استقلال المستعمرة، عملت هي نفسها في سفارة بلجيكا في البلاد.
دليل في قضية باردة
الآن، في عمر 66 عامًا، عاشت سويت حياة هادئة في ميلين، تعتني بخيولها وكلابها، لكنها أحاطت نفسها بما يذكرها بمنزلها السابق، فالأقنعة والرماح تزين الجدران، وغيرها من التحف النحاسية الكونغولية موضوعة على رف الموقد.
قدم ضباط الشرطة أنفسهم وأبرزوا مذكرة تفتيش، تذمرت سويت، التي كانت تتوقع هذه الزيارة وقد سئمت من الأمر، فقد وقعت الأحداث التي أدت لهذه اللحظة، عندما كانت تبلغ من العمر 11 عامًا فقط، وكانت من فعل والدها، وليس من فعلها هي، كانت تعلم أن شخصًا ما قد يظهر عند بابها لمعاقبتها على خطاياه، بحسب موقع مجلة “بروكسل تايمز”.
أعطت سويت للشرطة ما كانوا يبحثون عنه، وهو عبارة عن صندوق خشبي أزرق صغير يضم ضرسًا متحللًا مغطى بتاج ذهبي، وفي مكان آخر كانت هناك حفنة من الرصاص الفارغ، وقام الضباط بوضع الأشياء في كيس بلاستيكي وغادروا إلى بروكسل.
كان هذا السن والرصاص دليلاً في قضية باردة، تحقيق في مقتل رجل قُتل بالرصاص في الكونغو قبل 62 عامًا من اليوم، باتريس إيمري لومومبا، أول رئيس وزراء منتخب قانونيًا لجمهورية الكونغو الديمقراطية، الذي اغتيل في 17 يناير عام 1961، بعد أشهر قليلة من احتفال الكونغو، في 30 يونيو عام 1960، باستقلالها عن بلجيكا بعد 75 عامًا من الحكم الاستعماري.
حتى اليوم، لا تزال وفاة لومومبا حدثًا مثيرًا للجدل ومأساويًا كان له تأثير عميق على التاريخ الأفريقي والنضال من أجل الاستقلال في جميع أنحاء القارة.
انطفاء سريع لشخصية كاريزمية
إن قصة باتريس لومومبا هي قصة رجل ناضل من أجل استقلال بلاده وحقها في تقرير المصير، ليتم قتله في النهاية بوحشية في مؤامرة أمريكية بلجيكية بالتعاون مع متواطئين من الكونجوليين أنفسهم، كان لومومبا زعيمًا يتمتع بشخصية كاريزمية، لم يدم طويلاً في دائرة الضوء، واتسمت فترة ولايته القصيرة كرئيس للوزراء بعدم الاستقرار السياسي والتوترات العرقية والتدخل الدولي الذي أدى في النهاية إلى الإطاحة به، فكيف كانت البداية؟
بحلول عام 1960، لم تعد الحكومة البلجيكية قادرة على تجاهل موجة الحركات المناهضة للإمبريالية التي اجتاحت معظم أنحاء القارة، في تلك الفترة كان باتريس لومومبا رئيس وزراء الكونغو أهم سياسي في البلاد، وبعد عقود طويلة تعامل خلالها الملك ليوبولد الثاني مع البلاد باعتبارها إقطاعيته الخاصة، وأنشأ نظام استغلال كان وحشيًا حتى بالمعايير الاستعمارية، أعلن ملك بلجيكا بودوان استقلال الكونغو عن بلاده في حفل بالعاصمة ليوبولدفيل، كينشاسا حاليا.
كلمة صادقة تُسقط المناضل
ألقى كلمة تشوبها نبرة استعلائية وكأن الحرية منحة من بلجيكا لشعب الكونغو، ختمها قائلا: “الأمر متروك لكم الآن، أيها السادة، لتظهروا أننا كنا على حق في الثقة بكم”.
لم تكن الكلمة مرضية لـ لومومبا، الذي رد بشكل مباشر على كلام بودوان، متحدثًا عن الإهانات اليومية التي تعرض لها الأفارقة السود في الكونغو البلجيكية، وتحدث أيضا عن العنف الذي تعرض له شعبه، وارتفع صوته قائلا لأبناء وطنه: “نحن الذين عانينا في أجسادنا وقلوبنا من القمع الاستعماري، نقول لكم بصوت عال: من الآن فصاعدًا، انتهى كل شيء”.
بعد نحو 7 أشهر، من هذه اللحظة قُتل لومومبا، أسقطته مجموعة من الساسة الكونغوليين و”المستشارين” البلجيكيين، بدعم ضمني من الولايات المتحدة وإهمال خبيث من جانب الأمم المتحدة، بحسب صحيفة “ذا نيويوركر” الأمريكية، وانتهت الأزمة المعقدة والوحشية التي اجتاحت الكونغو بعد ذلك، مع حكم جوزيف ديزيريه موبوتو الذي دام ثلاثة عقود، وكان هو نفسه، حليفًا للومومبا في وقت ما، ثم واصل الحكم كعميل لا يرحم للغرب.
بدايات لومومبا
في كتابه “مؤامرة لومومبا: التاريخ السري لوكالة المخابرات المركزية واغتيال الحرب الباردة” تحدث ستيوارت أ. ريد، عن بدايات لومومبا الذي غادر مسقط رأسه مقاطعة كاساي، حيث ولد عام 1925، واستقر في ستانليفيل، كيسنجاني الآن، في منتصف الأربعينيات، ليصبح جزءًا من الطبقة الوسطى السوداء في الكونغو البلجيكية.
انغمس الشاب في الحياة المدنية، وبحلول أوائل الخمسينيات، وفقًا لريد، كان لومومبا قد تولى مناصب قيادية في سبع مجموعات مدنية مختلفة في المدينة، وخلال معظم هذه الفترة، بدا وكأنه شخص سيوافق عليه الملك بودوان، فكان يحث البلجيكيين على توفير فرص أوسع للوصول إلى التعليم في الكونغو وتعزيز المساواة العرقية، بعبارات لطيفة، وهو ما جذب إليه انتباه المسؤولين الاستعماريين البلجيكيين، وحتى لقاء بودوان، عندما زار الملك الكونغو في عام 1955.
لكن بعد تلفيق تهمة اختلاس له في وظيفته بالخدمة البريدية وإرساله إلى السجن الذي بقي فيه لمدة 14 شهرًا، بدأ لومومبا في التحدث علنًا أكثر، وبقوة ضد الحكم الإمبراطوري، داعيًا الكونغو إلى “تحرير نفسها من قيود الأبوية”.
وقت الحرية قد حان
لم تكن الظروف في بلاده فقط هي التي غيرت تفكيره، ففي تلك الفترة كان جزء كبير من أفريقيا يشق طريقًا نحو الاستقلال، ورأى لومومبا أن وقت حرية الكونغو، واستغل مهارته في الحديث الجذاب وحماسته التي جذبت إليه الكثير من الأتباع، ليصبح الشخصية المهيمنة في الحزب السياسي الذي حصل على معظم المقاعد البرلمانية في الانتخابات التي حددت أول حكومة ديمقراطية في الكونغو.
خلال تلك الفترة، سافر لومومبا، الذي كان لا يزال في أوائل الثلاثينيات من عمره، عبر البلاد بأكملها، وكان يعتقد أن الدولة المستقلة يجب أن تُوحد الكونغوليين المقسَّمين حسب الولاءات العرقية والإقليمية، لكن الصراعات الإقليمية في الكونغو كانت قابلة للاشتعال بشكل خاص؛ لأن البلجيكيين كانوا عازمين على تشكيل الدولة الجديدة على هواهم، والاحتفاظ بالسيطرة على إقليم كاتانجا الجنوبي الغني بالمعادن.
في إقليم كاتانجا، لم يحقق حزب لومومبا أي انتصارات خلال انتخابات عام 1960، حيث سيطر تشومبي أهم سياسي في الإقليم، والذي كان مقربا من المستوطنين البلجيكيين على الأوضاع، وكان تشومبي يشارك حلفاءه البلجيكيين في القلق من سيطرة الحكومة الجديدة في ليوبولدفيل على أرباح التعدين.
العالم ضد لومومبا
بعد الاستقلال، بدأ القلق يتزايد لأنه لم تتم ترقية أي جندي كونجولي فوق مستوى رقيب أول، وتبع ذلك أعمال شغب وهجمات واسعة النطاق على الضباط البيض، وفي رد فعل محسوب، هبطت القوات البلجيكية، التي رحب بها تشومبي، في كاتانجا، ظاهريًّا لحماية مواطنيها، وفي وقت قصير، أعلن تشومبي ومرافقوه البلجيكيون كاتانجا دولة مستقلة.
وفي غضون شهر من استقلال الكونغو، تقدم الجنود البلجيكيون نحو العاصمة، وسيطروا على المطارات في جميع أنحاء البلاد، وأصدروا أوامر للومومبا بشأن المكان الذي يُسمح له بالسفر إليه.
طلب لومومبا مساعدة الأمم المتحدة في شكل قوات دولية لدعم الحكومة الكونغولية والحفاظ على السلام، وبالتالي تمهيد الطريق أمام البلجيكيين للمغادرة، لكن الأمم المتحدة تقاعست في أداء دورها وترددت قواتها بشأن دخول كاتانجا، مما دفع نظام تشومبي الانفصالي إلى ترسيخ نفسه بمساعدة بلجيكية، وما يوضح تواطؤ المنظمة الدولية هو زيارة رئيسها داج همرشولد للكونغو، والذي مر بالعاصمة دون أن يقابل لومومبا، وذهب مباشرة لرؤية تشومبي.
وفي محاولة لكسب الدعم الأمريكي، سافر لومومبا إلى أمريكا في يوليو 1960، لكنها كانت رحلة كارثية، فلم يحظ باستقبال رفيع المستوى، وفشل في الحصول على المساعدة العسكرية التي سعى إليها، وكانت وكالة المخابرات المركزية تثير المخاوف بشأن “نفوذ الشيوعية”، رغم أن لومومبا لم يكن شيوعيًا.
الأيام الأخيرة
في هذا الوقت تقريبًا، اندلعت نيران انفصال ثان في جنوب كاساي، وهو إقليم آخر غني بالمعادن، وأعطى لومومبا الضوء الأخضر لخطة موبوتو للإخماد، لكن القوات الكونغولية قتلت العديد من المدنيين في جنوب كاساي، مما أدى إلى ترسيخ فكرة عدم إمكانية الوثوق بالحكومة المركزية، في ظل ذلك شعر لومومبا بتخلي كل من الولايات المتحدة والأمم المتحدة، فاتجه إلى السوفييت للحصول على المساعدة العسكرية، ووافقوا في النهاية، لكن ما عرضوه كان ضئيلاً.
بحلول أغسطس من عام 1960، سمح البيت الأبيض، الذي حفزه تحول لومومبا نحو السوفييت، بإجراء عملية سرية لوكالة المخابرات المركزية. مخطط “لاستبدال حكومة لومومبا بالوسائل الدستورية”، مهما كان معنى ذلك. وفي الشهر نفسه، في اجتماع لمجلس الوزراء، أدلى أيزنهاور بتصريحات فسرها البعض على أنها دعوة للاغتيال، ثم بدأت الوكالة في التخطيط لقتله بالفعل.
ومع تفاقم الوضع، شكل القادة داخل الكونغو والغرب خطة، بدعم من الرئيس كاسافوبو، لإقالة لومومبا، وكانت الأشهر القليلة التالية بمثابة مأساة، وتم القبض على لومومبا مرتين على يد موبوتو، وهرب لومومبا، لكن تم القبض عليه بينما كان جنود الأمم المتحدة ينظرون إليه وهو يتعرض للضرب.
أهم عملية اغتيال في القرن 20
كانت الأيام الأخيرة مروعة: في 17 يناير 1961، نقل موبوتو الأسير لومومبا إلى كاتانجا، حيث قام تشومبي ورفاقه، بحضور مسؤولين بلجيكيين ومرتزقة، بضربه لساعات، تم نقل لومومبا إلى منطقة نائية وقُتل مع اثنين من أعضاء حزبه السياسي، وبعد مقتل الرجال، قام القتلة بسكب حمض الكبريتيك على الجثث. وأحد الضباط البلجيكيين الحاضرين، جيرارد سويت، والد جودلفين، أخذ ضرسين من أضراس لومومبا، وإصبعا كتذكار، وفي وثائقي تلفزيوني تحدث معتبرًا ما فعله بمثابة غنيمة حرب.
يصف الكاتب البلجيكي لودو دي ويت، هذه الجريمة بأنها “أهم عملية اغتيال في القرن العشرين”، تكمن الأهمية التاريخية للاغتيال في العديد من العوامل، أبرزها السياق العالمي الذي حدث فيه، وتأثيره على السياسة الكونغولية منذ ذلك الحين، وإرث لومومبا العام كزعيم قومي.
مؤامرة أجهضت أحلام الحرية
كانت المؤامرة متداخلة، ومثل بلجيكا، كان لأمريكا يد كبرى فيها، رغم بعدها الظاهري عن مسرح الأحداث في الكونغو، لكن على مدى 126 عاماً، لعبت الولايات المتحدة مع بلجيكا أدوارًا رئيسية في تشكيل مصير الكونغو. في أبريل 1884، قبل سبعة أشهر من انعقاد مؤتمر برلين، أصبحت الولايات المتحدة أول دولة في العالم تعترف بمطالبات الملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا بأراضي حوض الكونغو.
وخلال الفترة الاستعمارية اكتسبت الولايات المتحدة حصة استراتيجية في الثروة الطبيعية الهائلة للكونغو، واستخدمت اليوارنيوم من المناجم الكونغولية لتصنيع أول أسلحة ذرية، قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، ومع اندلاع الحرب الباردة، لم تكن الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون ليسمحوا للأفارقة بالسيطرة الفعالة على المواد الخام الاستراتيجية، خشية أن تقع هذه المواد في أيدي أعدائهم في المعسكر السوفييتي.
في ظل ذلك، كان باتريس لومومبا مصمما على تحقيق الاستقلال الحقيقي والسيطرة الكاملة على موارد الكونغو من أجل استخدامها لتحسين الظروف المعيشية للشعب، ولهذا السبب بات يُنظر إليه على أنه تهديد للمصالح الغربية، ولمحاربته، استخدمت الولايات المتحدة وبلجيكا جميع الأدوات والموارد المتاحة لهما، لشراء دعم خصوم لومومبا الكونغوليين، والقتلة المأجورين.
وفي الكونغو يُنظَر إلى اغتيال لومومبا باعتباره مأساة البلاد الأصلية، فقد جاء ذلك بعد أقل من سبعة أشهر من الاستقلال وكان بمثابة حجر عثرة أمام مُثُل الوحدة الوطنية والاستقلال الاقتصادي والتضامن الأفريقي التي دافع عنها لومومبا، فضلاً عن ضربة قاصمة لآمال الملايين من الكونغوليين في الحرية والرخاء المادي.