إعداد أ.د/ سالي محمد فريد

أستاذ الاقتصاد ورئيس قسم السياسة والاقتصاد – كلية الدراسات الأفريقية العليا جامعة القاهرة

على رغم اعتياد النظام الإيراني تصدير أزماته الداخلية إلى الخارج وربطها بالقوى الغربية أو إسرائيل، لكنه الآن وصل حد تصدير أزماته الداخلية إلى الخارج من خلال مهاجمة المناطق الكردية وقصفها، سواء التي في إيران أو في إقليم كردستان العراق، على نحو أدى إلى مزيد من تعميق أزمة الأقليات الإيرانية.

وقد عملت إيران على تصدير الأزمة الداخلية، التي لم تنجح في إخمادها حتى الآن، لتشتيت الانتباه عما يحدث في الداخل، لا سيما أن الانتقادات الدولية تتصاعد تجاه تعامل النظام مع المتظاهرين، وما زالت هذه الاحتجاجات تشهد زخمًا وتضامنًا عالميين.

تهدف الورقة إلى بحث ما يحدث في إيران من احتجاجات شعبية وأزمات داخلية وتداعياتها على علاقاتها بقارة أفريقيا خاصة بعد تمدد النفوذ الإيراني في القارة، ومستقبل ذلك على النفوذ السياسي والديني والمذهبي والاقتصادي في أفريقيا.

أولًا: تحليل الأزمات الداخلية في إيران

يُعاني الداخل الإيراني – سواءً على مستوى المجتمع أو الدولة – من مصاعبَ جمّة كارتفاع معدل الجريمة وسوء التّغذية (التي طالت  70 % من السكان) وشبكات نقل وكهرباء عفا عليها الزمن وظاهرة الهروب من المدارس بالإضافة إلى عدم مشروعيّة الحكومة. وعلى الرغم من هذه المصاعب وتعدُّدها هناك أزمات عميقة تدور حول الهُويّة الوطنيّة والبنية التحتيّة واتساع فجوات الدخول، ومع مرور الوقت ازدادت هذه الأزمات سوءًا ولم تعالجها أيٌ من الحكومات المُتعاقبة.[1]

وعلى صعيد الأمن المائي، تُعاني شبكات مياه الشرب في إيران من أزمةٍ خانقة؛ حيث إنّ 30 – 40 % من أنابيب مياه الشرب المستخدمة لم تُجرَ فيها عمليّات صيانة منذ حوالي ستين عامًا. وبلا شكّ تُفاقم هذه الشبكات المتهالكة من نسب تسرُّب المياه، إذ تقدرُ كميات المياه المهدورة سنويًّا بـ30%. وعلى صعيد خدمات الطاقة، أصبح انقطاع التيار الكهربائي ظاهرةً معتادة وستَتَفاقم ما لم تقُم الحكومة الإيرانية بإجراءاتٍ تُعالج بها شبكات الكهرباء المتردية في البلاد.[2] 

كما أنّ معظم خطوط شبكات الكهرباء شُيّدت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؛ بمعدل عمرٍ افتراضيﱟ يصلُ إلى خمسين عامًا تقريبًا، والآن قد تهالكت بالفعل وتحتاج إلى تطويرٍ عاجل. أمّا المدارس فتعاني من نقص التمويل ومتابعة صيانةٍ للمباني؛ فهناك 30 % من مباني المدارس في حالةٍ سيئّة. والطُرقات كذلك ليست بحالةٍ أفضل فالجسور والشوارع متهالكة؛ قرابة الــــ 30% من حوادث الطرقات سببها تدني مستوى البنية التحتية لشبكات الطرق. وما ذكرناهُ من أزماتٍ تعصفُ بإيران لا يدخل معظمها في تقييم الحكومة السنويّة للبنية التحتيّة حتى تُقرّر إذا ما كانت هذه القطاعات تحتاجُ إلى تحسينات أم لا.

ونظرًا للفساد الهيكليّ في البلاد وما تتمتّع به الطبقة الحاكمة من امتيازاتٍ وتوزيع إيرادات الحكومة بين أعضاء الطبقة الحاكمة وأقاربهم، نشأت فجوةٌ كبيرة في الثروة بين الشعب الإيراني والطبقة الحاكمة. وازدادت هذه الفجوة اتساعًا وعُمقًا على الرغم من القفزة في إيرادات النّفط وتدفُّق الأموال بعد إبرامها للاتفاق النووي عام 2015. كما ازدادت نسبة الاستيلاء على موارد الدولة أو ما يُطلق عليه اصطلاحًا بـــِ « السعي وراء الريع».

وأصبح الاقتصاد الإيراني والنظام السياسي غارقًا في الفساد. وهذا دفع لنشوب أزمةٍ في عام 2018 وعام 2019 عندما اندلعت مظاهراتٌ عفوية في الشوارع والمدن الإيرانية والأحياء الفقيرة في أطراف المدن. وحسب التقارير الصادرة عن الحكومة الإيرانية يوجد قرابة 23 إلى 40 مليون إيرانيﱟ تحت خط الفقر المُطلق ويعيش ثلاثة أرباعهم تحت خط الفقر النسبيّ. تعيشُ هذه الطبقة الفقيرة على إعانات الحكومة ليسُدُّوا بها رمقهم، إذ إنّ متوسط تكلفة المعيشة لأسرةٍ يُعيلها شخص واحد تسعة ملايين تومان شهريًّا، بينما نجد أنّ متوسط الدخل الشهري للعامل في إيران يصل تقريبًا إلى ثلاثة ملايين تومان.[3]

وازدادت أعداد الإيرانيين الذين يعيشون في العشوائيات من 19 مليون نسمة عام 2018 إلى 38 مليون نسمة عام 2021. وفي الأدبيّات الاجتماعيّة والسياسيّة في إيران يُطلق على قاطني العشوائيات “سكان المقابر” و”سكان مصانع الطوب” و”سكان الأحياء الشعبيّة” و”سكان العشوائيّات”. وهنالك عوامل عِدّة أدت إلى ازدياد نسبة نزوح الإيرانيين نحو أطراف المدن الكبُرى أبرزها: شُحّ المياه وارتفاع معدلات البطالة في المدن الصغيرة والكوارث الطبيعيّة كالفيضانات والهزات الأرضية. وفي جميع الأحوال يزداد الإيرانيون فقرًا؛ فقد انخفض نصيب الفرد من الدخل بنسبة 34% بينما تزداد الطبقة الحاكمة غنًى، وهذا أدى بدوره إلى اتساع فجوة الثروة في البلاد لتُثقل كاهل الدولة والمجتمع بالمزيد من الضغوطات.[4]

ثانيًا: الأبعاد الاقتصادية والسيناريوهات الداخلية لإيران

إن رسم خرائط السيناريوهات المحتملة أمر ضروري، لتقييم الأبعاد الاقتصادية لخيارات إيران بغض النظر عن المقاربات الشخصية. وفي هذا السياق، ينبغي النظر في سيناريوهين مختلفين. يتمثل الأول في انهيار المحادثات النووية والثاني في استعادة خطة العمل الشاملة المشتركة. ومع ذلك، يجب التعامل مع كلا السيناريوهين بناء على قاسم مشترك واحد وهو افتراض أن الصفقة النووية لن تستمر على المدى الطويل.

  1. السيناريو الأول: انهيار مفاوضات خطة العمل المشتركة الشاملة

يتوقع هذا السيناريو انهيار المحادثات الإيرانية الأميريكية غير المباشرة وغياب أي تخفيف للعقوبات على الجمهورية الإسلامية. كما يُفترض زيادة في تطبيق العقوبات الأمريكية، ما سيؤدي إلى انخفاض صادرات النفط الخام والمكثفات الإيرانية من متوسط ​​1.5 مليون برميل يوميًا في عام 2022 إلى حوالي مليون برميل يوميًا بين عامَي 2023 و2026. وفي هذا السيناريو، يمكن توقع زيادة تجارة إيران مع جيرانها، لكن وضع مالية الحكومة سيبقى رغم ذلك متوترًا. وفي حال غياب استثمارات كبيرة، يمكن الافتراض أن القاعدة الاقتصادية والصناعية للبلاد ستستمر في التآكل.[5]

جدول رقم (1) آفاق الاقتصاد الإيراني بين عامي 2022 و2026

المصدر: صندوق النقد الدولي

وفي نهاية المطاف، سيؤدي استمرار العجز في الميزانية وهروب رؤوس الأموال وهجرة الأدمغة ونقص الاستثمار إلى تدهور اقتصادي. كما ستزداد البطالة، خاصة أن الكثير من مؤسسات القطاع الخاص ستخضع لمساءلة سياسية واقتصادية بالإضافة إلى مزيد من تخفيض قيمة العملة الوطنية. كذلك، سيبقى التضخم مرتفعًا بسبب إصلاحات الدعم الأخيرة التي أدت إلى ارتفاع أسعار المستهلكين بطريقة غير مسبوقة.

2 . السيناريو الثاني: استعادة خطة العمل الشاملة المشتركة حتى عام 2025

يتوقع هذا السيناريو رفعًا مؤقتًا للعقوبات الأمريكية حتى عام 2025. وفي حين ستضر عودة العقوبات الأمريكية بالشركات الإيرانية، يمكن افتراض أن القرارات الاستراتيجية الصحيحة ستقلل من آثارها. على سبيل المثال، يمكن لقطاع البترول الإيراني زيادة قدرته المحلية على التكرير إلى حد أن يتحرر جزئيًا من الاعتماد على صادرات النفط الخام في مرحلة ما بعد العام 2025 ما سيمكنه من تصنيع منتجات بترولية يصدرها إلى الأسواق في الدول المجاورة وسيدرّ عليه فائدة أكبر.[6]

من وجهة نظر الاقتصاد الكلي، من المتوقع أن تصل إيران من جديد إلى أكثر من 100 مليار دولار أمريكي من احتياطياتها من العملات الأجنبية. وقد يسمح ذلك للسلطات في طهران بإدارة أسعار صرف العملات بشكل أفضل، وتحسين أوضاع الميزانية وتقليل الضغوط التضخمية.

شكل رقم (1) احتياطيات إيران من العملات خلال الفترة (2018 – 2022)

المصدر: صندوق النقد الدولي

كما يمكن أن يؤدي ضخ رأس المال إلى تمويل الاستثمار المتأخر في البنية التحتية. وقد تصل صادرات النفط الخام والمكثفات الإيرانية إلى 2.8 مليون برميل يوميًا لمدة سنتين ونصف بزيادة 1.8 مليون برميل يوميًا. ومن شأن هذا التطور أن يدر دخلًا إضافيًا يقارب الـ 65 مليار دولار أمريكي سنويًا بحسب أسعار الطاقة العالمية الحالية، ما سيعزز بشكل كبير الإيرادات الحكومية وصندوق الثروة السيادي كما سيسمح لقطاع البترول بتلبية بعض احتياجاته الاستثمارية.

3 . تحليل المؤشرات الاقتصادية

استنادًا إلى تقرير صدر عن غرفة التجارة في طهران، من المتوقع أن يتوسع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3 % في العام الحالي وبمعدل سنوي يبلغ 2 % خلال السنوات الأربع المقبلة. وهذه الأرقام بعيدة عن هدف إيران المتمثل في تحقيق نمو سنوي بنسبة 8 % كما أنها غير كافية أيضًا لتوليد مليون وظيفة سنويًا وهو الحد المطلوب للحفاظ على معدل البطالة. ونتيجة لذلك، يمكن توقع ارتفاع معدل البطالة مرة جديدة، من 9.8 % في العام الحالي إلى 11 % بحلول عام 2026.[7]

شكل رقم (2) آفاق تصدير النفط الخام في إيران

يعتبر التضخم هو التحدي الرئيسي الذي يواجهه الاقتصاد الإيراني، ويعتقد الخبراء أن التضخم سيبلغ ذروته عند حوالي 50 % هذا العام. وعلى الرغم من أنه سيبقى مرتفعًا، سيعود لينخفض ​​تدريجيًا إلى حوالي 30 % بحلول عام 2026؛ ما سيؤدي إلى زيادة الفقر وكذلك رغبة المواطن الإيراني العادي في الهجرة. كما أن الهجرة وانعدام الأمل في مجتمع الأعمال سيمهدان الطريق لاستمرار هروب رأس المال، ما يزيد من تآكل القاعدة الاقتصادية ويطيل فترة التضخم وانخفاض النمو الاقتصادي.[8]

شكل رقم (3) توقعات الاقتصاد الإيراني من خلال مقارنة المؤشرات %

ثالثا: النفوذ الإيراني في أفريقيا

تتغير آليات التوجه الإيراني نحو أفريقيا، ليس فقط لرغبة إيران في تغيير منهجها، بل أيضًا عجزها عن انتهاج آلياتها القديمة، فالتجارب الإيرانية التاريخية المتكررة تشير إلى أن سلوكها الإقليمي وتعنتها يقود في النهاية إلى تجنب التعامل معها؛ فالتجارب الأكثر وضوحًا على ضرورة تغيير إيران لمنهجها هو أنها حولت من قبل سياستها الخارجية التقليدية إلى سياسة خارجية متحفزة يسيطر عليها “الحرس الثوري”، وليست ذات صلة بأنشطة وزارات الخارجية التقليدية.

وتحاول إيران الاستفادة من تراجع الدور الإقليمي العربي في أفريقيا بسبب الآثار التي خلفتها أحداث “الربيع العربي”، مستغلةً حاجة هذه الدول إلى الاستقرار عبر مد يد العون إليها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا. كما تتجه إيران في علاقاتها مع أفريقيا لتملأ الفراغ الذي أحدثته عداواتها مع بقية الدول الغربية خصوصًا الولايات المتحدة.

تتمثل أدوات السياسة الخارجية الإيرانية تجاه أفريقيا فيما يلي:

  1. المؤسسات الخيرية والمراكز الثقافية

استخدمت إيران مجموعة من المؤسسات الرسمية والمنظمات الخيرية في تنفيذ هذه الأهداف؛ حيث تقوم مؤسسات ما يسمى بـ”البنياد”، وهي مؤسسات خيرية تعمل بشكل مستقل عن سلطة الحكومة وتمثل كيانات اقتصادية عملاقة تضاهي إمكانيات الدولة نفسها مثل مؤسسة (المستضعفين والشهيد والإمام والرضا و15 خرداد) وغيرها، وتمارس هذه المؤسسات أنشطة كثيرة تمتد من التجارة إلى التصنيع ونشر الدعوة الدينية السياسية وتقديم الخدمات الاجتماعية، وهي معفاة من الضرائب وتتبع المرشد الأعلى للجمهورية مباشرة.

وبعض هذه المؤسسات تعتبر مؤثرة باعتبارها أحد الأدوات التي تستخدمها إيران لتأمين وجودها في شرق أفريقيا، لا سيما في دعم تأسيس مراكز شيعية في هذه المنطقة، وقد كان لهذه دور بارز في عملية تشييع واضحة في جزر القمر بعد وصول الرئيس أحمد عبد الله سامبي – وهو خريج إحدى مدارس مدينة قم الإيرانية – إلى السلطة هذا الدور الحيوي الذي تمارسه مؤسسة إمداد الإمام يأتي في سياق السعي إلى تصدير الثورة الإيرانية للخارج، والتي عادت إلى واجهة الأحداث مع وصول أحمدي نجاد إلى السلطة.[9]

بالمقابل يتمثل دور الملحقيات والمراكز الثقافية بمجالات الأدب والفنون في التعريف بالبلد وثقافته وموروثاته ومعالمه السياحية والحضارية، ولكن إيران انحرفت بهذه المراكز عن غرضها الدبلوماسي والثقافي المعلن؛ فصارت منصات للترويج للأفكار والكتب ذات الصلة بالمذهب الشيعي، كما اجتهدت هذه المراكز طوال السنوات الماضية في تعميق العلاقات الثقافية مع كل الجهات ذات الصلة بالجوانب الثقافية مثل الصحف والجامعات والمكتبات العامة ووزارة الإرشاد والأوقاف واتحادات المرأة والشباب والطلاب وتنظيم احتفالات ذات طابع شيعي مثل الاحتفال بمولد الإمام الرضا وميلاد السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها وذكر كربلاء وغيرها.[10]

2 . الأدوات الإعلامية

تمتلك إيران إمبراطورية إعلامية هي الأكبر على مستوى المنطقة وواحدة من أكبر الإمبراطوريات الإعلامية في منطقة آسيا – المحيط الهادئ والعالم، وتسيطر وكالة بث الجمهورية الإسلامية الإيرانية (IRIB )، وهي مؤسسة حكومية يشرف عليها شخصيًّا المرشد الأعلى. ومن خلال هذه المؤسسة يتم توجيه السياسات الإعلامية الخاصة بجميع المحطات التليفزيونية وإذاعات الراديو في البلاد، بما يتناسب مع توجهات الدولة. وترتبط الوكالة بعدد من الوزارات مثل الثقافة الخارجية، ويتم استخدامها لخدمة الرسائل التي تصدر عنهم فيما يتعلق بالترويج للثورة الإسلامية والثقافة الإيرانية والدبلوماسية العامة.[11]

3 . تقديم التدريب والدعم الفني والمالي

حرصت إيران على تثبيت أقدامها في أفريقيا عبر تقديم المساعدات وبناء مشروعات البنية التحتية للطاقة وبناء محطات توليد الكهرباء، وكذا تعد إيران أكبر مصدري السلاح للسودان؛ حيث تم توقيع اتفاقية للتعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين. وعلى غرار ما سبق تتمدد البحرية الإيرانية في أفريقيا بانتظام منذ أن بدأت إيران تشارك في بعثات مكافحة القراصنة في خليج عدن، وترسو على سواحل الصومال، فضلاً عن العلاقات مع إريتريا التي تدعم تنظيم القاعدة في الصومال كما تدعم الانفصاليين بالتدريب والسلاح في السنغال ومتمردي ساحل العاج وجامبيا ونيجيريا. وقد ظفت إيران أدوات القوة المختلفة في سياستها الإقليمية تجاه دول القارة الأفريقية؛ فجاء توظيف المشترك الحضاري والإسلامي، واعتمدت على ابتعاد الرأي العام الأفريقي عن حساسية التجاذب الشيعي والسني.[12]

رابعًا: تداعيات الأزمات الداخلية لإيران على استراتيجيتها تجاه أفريقيا

إن الاستراتيجية الإيرانية الجديدة تنحو إلى أبعد من الاستراتيجيات القديمة التي كانت تركز على استخدام المعارك لكسب المواقف الدولية؛ فهي ترغب في السيطرة على الأرض والموارد والممرات المائية والمقدرات الاقتصادية والمواقع العسكرية الحساسة بوسائل ناعمة. ولكل دولة من الدول التي سعت إيران إلى توثيق علاقاتها معها مزايا مختلفة عن غيرها، فإريتريا مطلة على مضيق باب المندب، والسودان يربط بين شرق القارة وغربها بملتقى طرق حيوي يسهم في نشر التشيع مع الحركة التجارية والثقافية، أما دول غرب أفريقيا مثل نيجيريا والسنغال فتبدو متأهبة لتوطيد هذه العلاقات نظرًا لوجود بعض الحركات الإسلامية المساندة للمذهب الشيعي، وهناك أيضًا العلاقة مع جنوب أفريقيا التي تستمر على الصعيد الاقتصادي، نظرًا إلى معدلات النمو الاقتصادي الكبيرة التي تمتلكها.[13]

ويكتسب القرن الأفريقي أهميته الاستراتيجية من كون دوله تطل على المحيط الهندي من ناحية وتتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر حيث مضيق باب المندب من ناحية أخرى، ومن ثم فإن دوله تتحكم في طريق التجارة العالمي خاصة تجارة النفط القادمة من دول الخليج والمتوجهة إلى أوروبا والولايات المتحدة، كما أنها تعد ممرًّا مهمًّا لأي تحركات عسكرية قادمة من أوروبا أو الولايات المتحدة في اتجاه منطقة الخليج العربي. ولا يقتصر أهمية القرن الأفريقي على اعتبارات الموقع فحسب وإنما تتعداها للموارد الطبيعية خاصة البترول، وهو ما يعد أهم أسباب رعاية واشنطن لمفاوضات السلام في السودان، بالإضافة إلى قربه من جزيرة العرب بكل خصائصها الثقافية ومكنوناتها الاقتصادية.[14]

جعلت إيران من القارة الأفريقية منذ وقت مبكر واجهة خلفية للتحرك الدبلوماسي والاقتصادي في مواجهة الحصار الدولي والعزلة الإقليمية، وضلعًا أساسيًّا في “الهلال الشيعي”، وتعمل إيران على نشر المذهب الشيعي الاثنى عشري في البلدان الأفريقية تحت غطاء التعاون في المجالين العلمي والثقافي؛ حيث تقدم منحًا دراسية للطلاب الأفارقة أو تسهل لهم الانتقال إلى إيران بمنح دراسية من أجل إخضاعهم للتكوين وتوظيفهم بعد عودتهم إلى بلدانهم في نشر التشيع. وتركز طهران بشكل أساسي على نيجيريا، البلد الأكبر من حيث عدد السكان المسلمين في القارة؛ حيث تؤثر على حوالي 30 مؤسسة تعليمية في مختلف المناطق الرئيسية للبلاد.

وتعتبر جنوب أفريقيا من الدول الأفريقية الهامة التي تربطها علاقات قوية مع إيران، فجنوب أفريقيا تعد من الدول الإقليمية المؤثرة التي تمتلك قدرًا كبيرًا من النفوذ، ليس على مستوى أفريقيا فحسب وإنما على المستوى الدولي كذلك، وتشمل مجالات هامة سواء على المستوى الاقتصادي أو العسكري والطاقة والدعم السياسي في المحافل الدولية والإقليمية، وعليه فإن هذه العلاقة ليست مفاجئة وإنما جاءت تكريسًا لعقود من التعاون الدبلوماسي بين الدولتين.وكانت جنوب أفريقيا من أوائل الدول التي نادت برفع العقوبات عن إيران، وبعد تخفيف العقوبات الدولية عن طهران استغلت جنوب أفريقيا الحدث لتوطيد العلاقات الاقتصادية والعسكرية معًا، ليس فقط على مستوى تصدير النفط وإنما في المجالات العسكرية أيضًا وتحديث معداتها الدفاعية القديمة؛ ففي عام 2017 وقّعت إيران وجنوب أفريقيا مذكرة تفاهم في إطار التعاون العسكري والدفاع بينهما، وتأتي الاتفاقية المذكورة في أعقاب وصول أحد الأساطيل الإيرانية الصغيرة ورسوها في ميناء بجنوب أفريقيا، كما بعثت حكومة جنوب أفريقيا رسالة إلى الأمم المتحدة في مارس 2017 تطالب فيها بالسماح ببيع صواريخ أرض – جو إلى الحكومة الإيرانية، وكشفت الصحف الجنوب أفريقية أن حكومة بلدهم تسعى إلى إبرام اتفاق لبيع صواريخ أرض – جو من نوع أومكونتو، وأن هذه الصواريخ تمثل سلسلة صواريخ حديثة قصيرة المدى قادرة على الإطلاق في جميع الأحوال الجوية، مصنعة من قبل شركة دينيل ديناميكس في جنوب أفريقيا، كما أن عقد بيع هذا النوع من الصواريخ إلى إيران يصل إلى 1.5 مليار رند “عملة جنوب أفريقيا” وهو ما يعادل 180 مليون دولار أمريكي.[15]

وختامًا فإن أفريقيا تمثل أهمية استراتيجية من الناحية العسكرية والأمنية لإيران، وتتسم مصالح القوى الخارجية – ومنها إيران – بالتشابك والتعقد، ولكنها تتجه في مجملها نحو تحفيز الصراع واستمراره في العديد من الدول الأفريقية لاسيما في الصومال والسودان، بل تعتبر المحدد الرئيسي لمستقبل التفاعلات؛ إذ تتقاطع  المصالح في جانب منها مع بعضها البعض وتناقضه في جوانب أخرى في إشارة واضحة إلى ما يمكن اعتباره خريطة التحالفات الإقليمية والخارجية إذ يشير الواقع الاستراتيجي إلى تأثير عملية المصالح في مسيرة التفاعلات، وقد حولت الأهمية الاستراتيجية لأفريقيا إلى منطقة النفوذ غربي جعلتها دائمًا محل تنافس بين الدول الكبرى؛ لذا تغير إيران استراتيجياتها في ضوء ما يستجد من أزمات داخلية بها، وما تصل إليه منافستها مع القوى الأخرى داخل أفريقيا.

الهوامش


[1]  ضاري سرحان حمادي، “الأداة الاقتصادية في السياسة الخارجية في أفريقيا” على الرابط التالي: http://afroar.com/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AF%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%AA%D8%B5%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86/

[2]  المرجع السابق مباشرة

[3]  نعمة سعيد سرور، “تطور السياسة الإيرانية تجاه منطقة القرن الأفريقي”، على الرابط التالي: تطور السياسة الإيرانية تجاه منطقة الغرب الأفريقي (الأهداف والتداعيات) – المركز الديمقراطي العربي

[4]  المرجع السابق مباشرة

[5] https://amwaj.media,article,iraneconomy

[6] Ibid.

[7]  تقرير غرفة التجارة بطهران

[8] The Washington institute; Iran Economy, www.Washingtoninstitute.org

[9]  عبدالمنعم، محمد نور الدين، “السياسة الخارجية الإيرانية في أفريقيا”، دار المنظومة (القاهرة: جامعة القاهرة – مركز الدراسات الشرقية، ع 7)

[10]  ضاري سرحان حمادي، مرجع سبق ذكره

[11]  محمد السيد سليم، “تحليل السياسة الخارجية”، (القاهرة: دار الحبل للنشر)

[12] فاروق حسين أبو ضيف، التدخلات الإيرانية–  التركية في القرن الأفريقي: دراسة في المآلات والتطلعات والأهداف، مركز ليفانت للبحوث، https://bit.ly/3ioSfRf

[13]  لطفي صور، “سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية تجاه أفريقيا في فترة حكم أحمد نجاد”، مجلة الناقض للدراسات السياسية (الجزائر: جامعة معسكر، أكتوبر 2017)

[14]  المرجع السابق مباشرة

[15]  نعمة سعيد سرور، مرجع سبق ذكره