كتب – د. محمد جلال حسين
أستاذ الأنثروبولوجيا المساعد بكلية الدراسات الأفريقية العليا – جامعة القاهرة

مقدمة

تعد التغيرات المناخية أحد أكثر التحديات التي تواجه البشرية تعقيدًا، وذلك لما لها من تأثير على الاقتصاد والبيئة بما في ذلك الجوانب البيئية المتعلقة برفاهية الإنسان كالهواء النظيف، مياه الشرب الآمنة، الغذاء الكافي، والمأوى الآمن([1])؛ فالمناخ يعد أهم المؤشرات الرئيسية التي تحدد طبيعة الزراعة وتربية الماشية؛ حيث يتحكم في نوعية المحاصيل التي يتم زراعتها وموعد وطريقة زراعتها، كما يتحكم أيضًا في نوعية الحيوانات التي يتم تربيتها، فهو المسؤول عن توطن بعض الزراعات والحيوانات في منطقة ما دون الأخرى([2]).  

وتعد القارة الأفريقية واحدة من القارات الأكثر عرضه وتأثرًا بتغير المناخ([3])، وتزداد وطأة تلك التغيرات المناخية وتأثيراتها في المناطق القاحلة والأراضي الجافة نتيجة التقلب الكبير في هطول الأمطار ودرجات الحرارة المرتفعة التي تشهدها تلك المناطق([4])، وداخل النطاق الأفريقي، تعد أفريقيا جنوب الصحراء من أكثر المناطق تضررًا من تداعيات التغير المناخي، وذلك لأن غالبية سكانها يعتمدون على الزراعة البعلية في أنشطتهم الاقتصادية، وكذلك في تأمين سبل معيشتهم، فتلك التغيرات المناخية جنبًا إلى جنب مع الأداء الضعيف لقطاع الزراعة والنمو السكاني السريع تجعل العديد من سكان تلك المنطقة عرضة للعيش في فقر مدقع؛ فمن المتوقع أن استمرار التغيرات المناخية في الحدوث وتفاقم شدتها سيؤدي إلى انعدام الأمن الغذائي والمائي في تلك المنطقة([5]).

وتشمل الآثار السلبية الأكثر تدميرًا لتغير المناخ في أفريقيا كلًّا من الجفاف، زيادة الضرر البيئي، انتشار آفات وأمراض المحاصيل، فقدان التنوع البيولوجي، استنفاد الحياة البرية، تغير الغطاء النباتي، وتدهور التربة([6]). فالتغيرات المناخية على الإنتاجية الزراعية نتيجة لارتفاع درجة الحرارة والتغيرات في أنماط هطول الأمطار، وما يترتب على ذلك من الإمداد المحدود بمياه الري وزيادة شدة تآكل التربة. كما يُسهم تغير المناخ في خلق ظروف مناسبة لنمو وتكاثر الحشائش والحشرات والآفات الضارة بالمحاصيل، الأمر الذي يؤثر بالسلب في الإنتاجية الزراعية. هذا بالإضافة إلى تأثيره في الإنتاجية الحيوانية؛ حيث يُسهم الإجهاد الحراري ونقص المياه وسوء التغذية الناجمة عن التغير المناخي في انخفاض الإنتاجية الحيوانية([7]).

وفي هذا الصدد، حذر “برنامج الأمم المتحدة الإنمائي” من أن التقدم المحرز في التنمية البشرية خلال الفترات الماضية قد يتباطأ بسبب تغير المناخ كنتاج للتهديدات الجديدة التي تواجه الأمن المائي والغذائي والصحة([8]). كما أكدت منظمة “الفاو” على أن التغيرات المناخية التي تشهدها القارة ستؤثر بشكل خطير على سبل عيش صغار المزارعين بسبب قدرتهم المحدودة على التكيف مع تلك التغيرات المناخية([9]).

ووفقًا لتقرير “التقييم الثالث للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ”، فإن التغيرات المناخية التي يشهدها العالم بأسره ناجمة عن عوامل طبيعية (كالزلازل والبراكين) وعوامل بشرية (كالتصنيع، حرق الوقود الأحفوري، حرق الغابات)؛ حيث تسهم الظواهر الطبيعية كالزلازل والبراكين في خروج كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكبريت والرماد وبخار الماء في الغلاف الجوي. كما يُسهم حرق الوقود والتصنيع وغيرها من الأنشطة البشرية في انبعاث الكثير من الغازات الدفيئة أيضًا([10]).

ومن هذا المنطلق، نسعى في متن هذا المقال الإجابة عن بعض التساؤلات المتعلقة بالتغيرات المناخية التي تشهدها القارة الأفريقية، والتي تتمثل في: كيف يتصور الأفارقة التغيرات المناخية وكيف يلتمسون حدوثها؟ وما هي الآليات التي يتبعونها، لا سيما المزارعين، للتكيف مع تلك التغيرات الطارئة؟ وهل تسيطر الأساطير والمعتقدات الدينية على تصور الأفارقة لأسباب حدوث التغيرات المناخية والحد من وطأتها؟

وفيما يلي استعراض للإجابات عن تلك التساؤلات.

أولًا: التصورات المحلية للتغيرات المناخية

تمثل التصورات المحلية للتغيرات المناخية وتحليلات بيانات الأرصاد الجوية طريقتين مختلفتين، ولكن يحتمل أن يكونا متشابهين ومكملين لمعرفة التأثيرات المحلية للتغيرات المناخية؛ حيث تلعب وجهات النظر المحلية هذه دورًا لا يستهان به في الجهود المبذولة لقياس تأثيرات التغيرات المناخية والاستجابة لها من خلال وضع استراتيجيات فعالة ومناسبة محليًا من شأنها العمل على التكيف والتخفيف من وطأة التغيرات([11])، وتشير الأدلة إلى أن المزارعين في جميع أنحاء العالم يقرون بالتغيرات المناخية وتهديدها لسبل معيشتهم؛ حيث لاحظ معظم المزارعين في البلدان الأفريقية ارتفاع درجات الحرارة على المدة الطويل، وانخفاض أنماط هطول الأمطار وزيادة تواتر الجفاف كنتيجة لتغير المناخ([12]).

فلدى المزارعين المحليين في “منطقة السافانا الاستوائية” بغانا، أُرجعت التغيرات الأخيرة في درجة الحرارة وأنماط هطول المطر التي شهدتها مناطقهم إلى بعض الأنشطة البشرية المتمثلة في الرعي الجائر وقطع الأشجار لبيع الخشب وحرق الغابات([13])، وكذلك الحال لدى “سيسالا” بشمال غرب غانا؛ حيث أرجعوا حدوث التغيرات المناخية أيضًا إلى تلك الأسباب السالف الإشارة إليها، بالإضافة إلى الاستخدام المفرط للكيماويات الزراعية([14])، أما في مقاطعة “بونغو” في غانا، يدرك المزارعون جيدًا التغيرات المناخية الراهنة ويحصرونها في تغير أنماط هطول المطر وموعدها واختلاف درجات الحرارة عما كانت عليه في الفترات السابقة، ويشيرون إلى أن هذا التذبذب جعلهم لا يدركون متى يتوجب البدء في إعداد الأرض للزراعة وخاصة مع المحاصيل التي تحتاج إلى المياه بكميات كبيرة، وقد وصل الحال بالكثير منهم إلى انتظار قيام أحد المزارعين بالقيام بحرث الأرض وإعدادها حتى يسيروا على خطاه. في حين يفضل آخرون تأخير موعد الزراعة حتى تستقر الأجواء ويتأكدوا من حلول موسم الأمطار([15]).

أما في كينيا، تحديدًا بين مزارعي منطقة “لايكيبا”، تمثلت المعرفة المحلية للتغيرات المناخية في تذبذب هطول المطر وتغير موعد سقوطها، وتغير اتجاه الريح، بالإضافة إلى ارتفاع درجات الحرارة وسيادة الجفاف، وقد انعكست تلك التغيرات على إنتاجيتهم الزراعية، مما دفع بالكثير من المزارعين إلى الهجرة بالقرب من الأنهار أو الاتجاه إلى المدن للبحث عن وظائف أخرى بخلاف العمل الزراعي([16]).

بينما أقر المزارعون في مجتمع “كويننج” ببوتسوانا ارتفاع درجات الحرارة وزيادة عدد الأيام الحارة وانخفاض هطول المطر وتقلص عدد أيامها خلال السنوات الماضية كملامح أساسية للتغير المناخي، وقد أعزوا انخفاض إنتاجية أراضيهم وثروتهم الحيوانية إلى تلك العوامل([17]).

وتتشابه تفسيرات مزارعي إثيوبيا مع التفسيرات السالف الإشارة إليها؛ حيث أشار مزارعو “سيداما” بجنوب إثيوبيا إلى ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط هطول المطر وتغير اتجاه الريح وظهور الطفيليات والآفات كملامح ومؤشرات للتغير المناخي الذي يكتنف مجتمعاتهم والذي لمسوا آثاره وأدركوها في ضوء خبرتهم ومعرفتهم ببيئتهم. كما عَزوا حدوث تلك التغيرات إلى الأنشطة البشرية بما تشمله من إزالة الغابات وغيرها من الأنشطة([18])، وقد أكدوا على أن تلك التغيرات ترتب عليها انخفاض الإنتاج الزراعي وما تبعه من انخفاض الربح، بالإضافة إلى نفوق الماشية وانخفاض خصوبة التربة، وارتفاع معدلات البطالة، إلى جانب ارتفاع أسعار السلع الغذائية([19]).

أما في “تنزانيا”، فقد أشار المزارعون إلى أن التغيرات المناخية التي تشهدها مجتمعاتهم أثرت على الإنتاجية الزراعية؛ حيث أسهمت في ضعف إنتاج البذور وتوقف نمو النباتات وفشل المحاصيل. كما أكدوا على أن تلك التغيرات أثرت أيضًا على إنتاجيتهم الحيوانية نتيجة انخفاض المراعي وانتشار الطفيليات والأمراض التي تصيب الحيوانات([20])، وتحديدًا في دلتا “روفيجي” بتنزانيا، تم الإشارة إلى انخفاض إنتاجية العسل بسبب فترات الجفاف الطويلة التي تزعج النحل البري، وموت أشجار المانجروف، وقلة النباتات الطبية كآثار رئيسة للتغير المناخي([21]).

في حين أقر أيضًا المزارعون في ولاية “كوارا” بنيجيريا تأثير التغيرات المناخية على إنتاجية الحبوب لديهم؛ حيث أدت تلك التغيرات المناخية إلى انخفاض إنتاجية الحبوب، وخفض مستوى الربح، وزيادة تكلفة الإنتاج. فضلاً عن إحجام الكثير من الشباب عن العمل الزراعي([22]).

وبالانتقال إلى “الطوارق” في الصحراء الجزائرية، نجد أن تلك القبائل لديها معرفة محلية بالتغيرات المناخية تتجلى بوضوح في درجات الحرارة المتباينة وعدم انتظام الأمطار والجفاف الشديد، والتي أثرت على سبل معيشتهم الرعوية تأثيرًا جليًا([23]).

أما في “مناطق المانجروف” بساحل الكاميرون، فقد حصر قاطنيها معرفتهم المحلية بالتغيرات المناخية في هبوب العواصف الشديدة، تآكل التربة وتعرضها للتعرية، زيادة الفيضانات، وتسرب المياه المالحة إلى الأراضي الزراعية نتيجة ارتفاع مستوى مياه البحر([24]). وبالصعود إلى مرتفعات “باميندا” في الكاميرون، والتي يقطنها بعض المزارعين والرعاة الفولاني. تجلت المعرفة المحلية بالتغيرات المناخية في قصر مواسم المطر وتأخرها، وارتفاع درجات الحرارة وانخفاض الضباب، وقد أرجعوا تلك التغيرات إلى تدهور الغابات، وأكدوا على انعكاسها بالسلب على إنتاج المحاصيل كالفول والبطاطس الأيرلندية، بجانب تأثيرها على إنتاج العسل الأبيض وبعض الفاكهة البرية. كما أكد رعاة الفولاني على تأثير تلك التغيرات على توافر العلف وجودته([25]).

بينما يدرك “المزارعون المصريون” أيضًا حدوث التغير المناخي (الحرارة والأمطار)، ويعزون حدوثه إلى الإرادة الإلهية. كما يستشعرون حدوثه في الانتشار الواسع للآفات الزراعية وأمراض الحيوانات ونقص المياه. بينما في المناطق الحضرية يعزو ساكنوها التغيرات المناخية إلى الأنشطة البشرية ويلمسون آثاره في الأمراض البشرية المنتشرة مثل السعال والشعور بالتعب والإجهاد المستمر([26]).

في ضوء ما سبق، يمكننا القول بأن المعرفة المحلية بالتغيرات المناخية في أفريقيا تكاد تكون متسقة مع الأدلة التي تظهرها البيانات العالمية للمناخ؛ حيث تمثلت المعرفة المحلية بالتغيرات المناخية في تذبذب وتغير أنماط هطول الأمطار ودرجات الحرارة. فضلاً عن سيادة الجفاف، وهي الملامح الرئيسة التي يتسم بها التغير المناخي في العديد من أنحاء القارة الأفريقية.

ثانيًا: الأساطير والتفسيرات الثقافية الروحية المتعلقة بالتغيرات المناخية

تذخر الديانات التقليدية بالعديد من الأساطير التي تلعب دورًا عميقًا وتؤثر بقوة في فهم الإنسان الأفريقي للبيئة، وجزء من تلك الأساطير تتعلق بالتغيرات المناخية والتقلبات التي تشهدها القارة؛ حيث ترتبط العديد من الأساطير باحتراق الغابات وانبعاث الأدخنة، والزلازل والانهيارات الأرضية، فضلاً عن التصحر والجفاف والفيضانات والأمطار([27]). وبالتالي، فهناك علاقة وطيدة بين المعتقدات والقيم والمعايير الاجتماعية وبين القضايا المتعلقة بالتغير المناخي في أفريقيا، لا سيما في أفريقيا جنوب الصحراء؛ حيث عادة ما تتحكم المعتقدات والمعايير الاجتماعية في أنشطة السكان بما في ذلك الممارسات الزراعية([28]).

وبالإشارة إلى تلك الأساطير والتصورات الخاطئة، نجد أن بعض المزارعين المحليين في “منطقة السافانا الاستوائية” بغانا يَعزون حدوث التغيرات المناخية إلى بعض العوامل الروحية كانتهاك المحرمات. ذلك الأمر الذي أثار غضب الآلهة، ويعتقدون أن تقديم التضحيات للآلهة يعد وسيلة مجدية للحد من وطأة تلك التغيرات المناخية([29])

وكذلك الحال لدى شعب “سيسالا” في شمال غرب غانا؛ حيث يتم تفسير حدوث التغيرات المناخية إلى عدم الالتزام بالجوانب الروحية والعبادات التقليدية وحلول لعنات الآلهة؛ فالمسبب الرئيس لتلك التغيرات من منظورهم يتمثل في إغفال الكثير من المزارعين تقديم التضحيات للآلهة والأسلاف قبل البدء في الزراعة، فقد كان من السائد لديهم أن يقوم المزارعون بذبح الماعز والأغنام وبعض الدواجن وتقدم كقرابين للآلهة لضمان الحصول على حصاد جيد لزراعتهم، بينما يعزو البعض الآخر من “سيسالا” حدوث التغيرات المناخية نتيجة انتهاك المحرمات كممارسة الجنس في المزارع وبين الأشجار أو قيام النساء أثناء فترات الحيض بالذهاب إلى المزارع؛ حيث يجلب ذلك غضب الآلهة والأسلاف وتحل لعنتهم على الزراعة كعقاب رادع يأخذ شكل الفيضانات والجفاف([30]). ويتماشى ذلك التفسير السابق مع تفسير شعب مقاطعة “بونغو” في غانا؛ حيث ينظرون إلى التغيرات المناخية باعتبارها انعكاسًا لغضب الله والآلهة والأسلاف. كما يعزون التغير المناخي إلى إهمال المزارعين لترك مساحات من الأراضي الزراعية غير مزروعة؛ حيث كان عادة ما يترك مساحات في الأراض الزراعية كمسارات للأرواح تتيح لهم حرية التحرك ليلاً، ولكن في الوقت الراهن تم تجاهل ترك تلك المسافات، الأمر الذي أثار غضب الأرواح وجعلهم يرسلون الجفاف كعقاب إلهي وفق تصور السكان المحليين[31]).

بينما يعزو شعب “سيسالا” في شمال غرب غانا التغيرات المناخية إلى عدم التمسك بالقيم والتقاليد والممارسات الدينية التقليدية المتمثلة في طقوس الشكر وتقديم التضحيات للآلهة والقيام بطقوس المطر، فلم يعد الكثير من المزارعين يقومون بأداء تلك الطقوس، الأمر الذي جعلهم يفسرون التغيرات المناخية باعتبارها عقابًا من الآلهة وتعبيرًا عن استيائهم([32]).

بينما لدى شعبي “الأزاندي” و“النوير” في السودان، يتم إرجاع حدوث الجفاف وانتشار المجاعات إلى رغبة الخالق في عقاب البشر نتيجة عصيانهم وانتهاكهم للمحرمات؛ لذلك يتجهون إلى التضحيات كوسيلة لاسترضاء الخالق والآلهة المساعدة له حتى تزول اللعنة. وتقليديًا، كانت تتخذ تلك التضحيات شكل التضحيات البشرية لتطهير الأرض واستعادتها لطبيعتها بينما لدى شعب “سوكوما نيامويزي” في تنزانيا و“بافاندا” في جنوب أفريقيا”، يتم تفسير انتشار الجراد على أنه ناجم عن غضب الآلهة، حيث يعتقد أن الجراد يتم حبسه في قفص ضخم في السماء، ويتم فتحه لعقاب البشر عند انتهاكهم المحرمات. بينما ينظر إلى الأعاصير والعواصف الشديدة على أنها إعلان عن غضب الخالق لما بدر من تصرفات من البشر؛ لذلك يتم إشعال البخور لاسترضاء الخالق وقت الأعاصير والعواصف والقيام بالصلاة والدعاء بتغيير العواصف لمسارها([33]).  

أما في “نيجيريا”، يعتقد البعض أن الخالق يعيش في الأماكن المفقرة؛ حيث يخشى الناس الذهاب إليها أو بناء منازلهم وحقولهم بها؛ لذلك يعزون حدوث التصحر إلى رغبة الخالق في الإقامة في ذلك المكان، ولا يعزون حدوثه إلى الأنشطة البشرية. في حين يعزو “الإيغبو” في شرق نيجيريا تآكل التربة وفقدانها لخصوبتها إلى ضعف العلاقة المتناغمة بين البشر وإله “الأرض والزراعة”، وخاصة في حال تجاهل القيام بطقوس التضحية. لذلك،يتجهون إلى التضحيات لاسترضاء الآلهة وضمان استعادة خصوبة التربة والحصاد الجيد([34]).

أما فيما يتعلق بالفيضانات والأمطار؛ فعادة ما يتم إرجاع حدوثها إلى الكائن الأسمى “الخالق”؛ حيث ينظر العديد من الأفارقة إلى الخالق باعتباره المسؤول عن المطر. في حين ينظر البعض الآخر إلى أن الخالق قد وكَّل بعض الآلهة لتكون مسؤولة عن المطر “إله المطر”. وينتشر ذلك الاعتقاد لدى العديد من الشعوب الأفريقية مثل “الأشانتي”، “اليوروبا”، والعديد من الشعوب الأخرى في حوض الكونغو ودلتا النيجر؛ فعادة ما يُنظر إلى المطر على أنه خير قادم من الكائن الأسمى يُسهم في تطهير المجاري المائية ويوفر مصايد الأسماك، وعمل على زيادة الإنتاج الزراعي ويزيد من خصوبة التربة([35]).

وفي ضوء ما سبق، يتضح لنا أن حقيقة تأثير الأنشطة البشرية في إحداث التغيرات المناخية باتت بعيدة كل البعد عن أذهان البعض من الأفارقة كنتاج لتأثير الديانات التقليدية والمعتقدات الراسخة في أذهانهم. تلك المعتقدات التي دفعتهم لتفسير كل ما يحيط بهم وإرجاع حدوثه إلى تأثير القوى الغيبية، فقد تمحورت التفسيرات الثقافية للتغيرات المناخية حول غضب الآلهة وحلول اللعنات وفقدان العلاقة المتناغمة بين الخالق والبشر. الأمر الذي يوحي لنا بمدى تأثير المعتقدات الدينية على الأمور المتعلقة بحياة الأفارقة كافة في العديد من أنجاء القارة.  

ثالثًا: الآليات المتبعة للتكيف مع التغيرات المناخية

تم تحديد التكيف كاستراتيجية من شأنها الحد من الآثار المحلية للتغير المناخي، ويتم هذا التكيف على مستويات فردية ومحلية وإقليمية([36])، وبالنظر إلى القارة الأفريقية، نجد أن غالبية المزارعين ومربي الماشية انتهجوا آليات تكيفية مع الظروف المناخية التي تشهدها القارة خلال الفترات الراهنة لتمكنهم من تدابير سبل العيش والقدرة على البقاء في ظل تلك التغيرات.

فقد اتبع المزارعون في مجتمع “كويننج” ببوتسوانا استراتيجية للتكيف مع التغيرات المناخية التي تشهدها مجتمعاتهم، وقد تمثَّلت تلك الاستراتيجية في تغيير مواعيد زراعة المحاصيل لتتماشى مع أوقات هطول المطر الحالية، التغيير في أنواع المحاصيل المزروعة مع التركيز على زراعة المحاصيل التي تتحمل الجفاف وندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة، تنفيذ تقنيات الحفاظ على التربة وتسميدها لتعويض الفقد، استخدام طرق الري الحديثة والاعتماد على الصوبات الزراعية. هذا بالإضافة إلى التحول إلى الإنتاج الحيواني بدلاً من الإنتاج الزراعي، مع الاهتمام الدوري بتلقيح الحيوانات وإمدادها بالأغذية التكميلية وتوفير الظروف المواتية لفاعلية إنتاجياتها([37]).

بينما اتجه صغار المزارعين في “الكاميرون” إلى اتباع بعض الآليات التكيفية المتمثلة في تغيير توقيت الزراعة، زيادة مساحة الأراضي المزروعة، تغيير المحاصيل التي يتم زراعتها لتتناسب مع الظروف المواتية، فضلاً عن القيام ببعض الطقوس الدينية التي من شأنها الحد من وطأة التغيرات المناخية من منظورهم([38]). في حين اتجه مزارعو مرتفعات “باميندا” بالكاميرون إلى زراعة المحاصيل المقاومة للجفاف، واستخدام المبيدات الحشرية، وتنويع سبل كسب العيش. فضلاً عن الاتجاه إلى تربية الأغنام والماعز كوسائل تكيفية مع التغيرات المناخية الطارئة. بينما قام رعاة “الفولاني” بالاتجاه إلى استخدام الأشجار كأعلاف للحيوانات، والسير لمسافات طويلة بالقطعان للوصول إلى المراعي. في حين اتجه البعض منهم لممارسة الزراعة بجانب الرعي([39]). وبالانتقال إلى “مناطق المانجروف” في ساحل الكاميرون، نجد أن قاطنيها تمكنوا من انتهاج استراتيجية تكيفية مع التغيرات المناخية التي يشهدونها؛ حيث قاموا ببناء منازلهم على أعمدة خشبية مرتفعة وقاموا بإنشاء السدود للحماية من مخاطر الفيضانات، كما قاموا بإحاطة المزارع بالأشجار العالية والأعمدة الخشبية لحماية المحاصيل من التلف بفعل الرياح الشديدة([40]).

بينما أتجه مزارعي ولاية “كوارا” بنيجيريا إلى الزراعة المبكرة، زراعة الأصناف المحسنة من المحاصيل التي لديها القدرة على مقاومة الآفات والأمراض، تعديل أنظمة الري، زراعة المزيد من الأراضي كآليات للتكيف مع التغيرات المناخية([41]). وفي دلتا “روفيجي” بتنزانيا، اتجه المزارعون إلى تنويع المحاصيل والاتجاه إلى ممارسة الأنشطة الأخرى بخلاف الزراعة كأنشطة مكملة للحصول على الدخل. فضلاً عن الصيد في المياه العمية لتوفير سبل العيس وتحقيق القدرة على البقاء. في حين اضطر البعض إلى الهجرة للبحث عن فرص عمل([42]).

وفي ضوء ما سبق، يمكننا إيجاز استراتيجيات وآليات التكيف التي اتبعها المزارعون في أفريقيا للتكيف مع التغيرات المناخية في النقاط التالية:

– تحول بعض المزارعين من زراعة المحاصيل التي تتطلب كميات كبيرة من المياه إلى المحاصيل التي تتطلب كميات قليلة من المياه، وقاموا بتغيير مواعيد الزراعة لتتماشى مع التغير في درجات الحرارة وأنماط هطول الأمطار.

– الاتجاه نحو توسيع مساحة الرقعة الزراعية مع التركيز على زراعة المحاصيل قصيرة المدة، والقيام بحفر الآبار الجوفية في الأماكن شديدة التأثر بالجفاف([43]).

– أتجه المزارعون إلى ممارسة بعض الأنشطة الأخرى بجانب النشاط الزراعي أو التخلي عن الأنشطة الزراعية والتحول إلى الأنشطة الأخرى المُدرة للدخل.

– ابتكر المزارعون طرقًا للحفاظ على المياه مثل تجميع مياه الأمطار وتخزينها، والقيام بإعادة استخدام مياه الصرف الصحي.

– سعى العديد من القائمين بتربية الماشية ورعيها إلى تقليص عددها من خلال بيعها أو القيام بذبحها وتجفيفها وتخزينها([44]).

– خاتمة

سعينا في متن هذا المقال إلى إبراز التصورات المحلية للأفارقة حول التغيرات المناخية التي تشهدها القارة مع تركيزنا على أكثر الفئات تضررًا من تلك التغيرات “المزارعون والرعاة”. بجانب إيضاح الآليات التكيفية التي اتبعوها للتكيف مع تلك التغيرات. كما استهدفنا أيضًا إبراز التفسيرات الثقافية الروحية للتغيرات المناخية ومدى تأثير الأساطير في تشكلها.

وقد تبين لنا أن التصورات المحلية للأفارقة بشأن التغيرات المناخية تتطابق بشكل كبير مع الأدلة التي تظهرها البيانات العالمية للمناخ، والتي تمثلت في ارتفاع درجات الحرارة، وتذبذب أنماط هطول الأمطار وسيادة الجفاف وغيرها من التغيرات. كما تبين لنا وجود العديد من الاستراتيجيات التكيفية التي اتبعها الأفارقة وخاصة المزارعين والرعاة في سبيل التأقلم قدر الإمكان مع تأثير تلك التغيرات المناخية، كزراعة محاصيل تتحمل قسوة الجفاف وتقاوم الآفات، ومزاوجة بعض المهن مع مهنة الزراعة، وزراعة الأشجار تلافيًا لإتلاف الرياح للمحاصيل وغيرها من الاستراتيجيات.

كما اتضح لنا أيضًا أن المعتقدات الدينية التقليدية ما زالت تهيمن على أفكار وتصورات البعض من الأفارقة، وقد تجلى تأثيرها في تفسير مسببات حدوث التغيرات المناخية؛ فقد فُسرت التغيرات المناخية لدى بعض الشعوب والقبائل الأفريقية باعتبارها لعنة وغضب من الخالق والآلهة نتيجة لانتهاك المحرمات، ولا تزال القارة الأفريقية تزخر بالعديد من التفسيرات التي يغلب عليها الطابع الديني والروحي لتلك المعتقدات الأفريقية التقليدية.

  الهوامش


[1] (Miara, M. D., Negadi, M., Tabak, S., Bendif, H., Dahmani, W., Ait Hammou, M., … & Teixidor‐Toneu, I. (2022). Climate change impacts can be differentially perceived across time scales: A study among the Tuareg of the Algerian Sahara. GeoHealth6(11), p1.

[2] (Mogess, Y. K., & Ayen, D. D. (2023). The effects of climate change adaptation strategies on the welfare of rural farm households in Ethiopia. Food and Energy Security, e451, p511.

[3] (File, D. J. M. B., Domapielle, M. K., & Derbile, E. K. (2021). Local perspectives on the causes of climate change in Rural Ghana: Implications for development planning. Ghana Journal of Geography13(2), p141.

[4] (Kgosikoma, K. R., Lekota, P. C., & Kgosikoma, O. E. (2018). Agro-pastoralists’ determinants of adaptation to climate change. International Journal of Climate Change Strategies and Management, p488.

[5] (Chalchisa, S. S. T. (2016). Farmers’ perception, impact and adaptation strategies to climate change among smallholder farmers in sub-Saharan Africa: A systematic review. J. Resour. Develop. Manag26, p2.

[6] (Ejembi, E. P., & Alfa, G. B. (2012). Perceptions of climate change in Africa: regional agricultural perspectives. Research on Humanities and Social Sciences2(5), 1-10, p1.

[7] (Kgosikoma, K. R., Lekota, P. C., & Kgosikoma, O. E. (2018). op. cit., p489.

[8] ) Tadesse, D. (2010). The impact of climate change in Africa. Institute for Security Studies, No. 220, p4.

[9] (Awazi, N. P., Tchamba, M. N., Temgoua, L. F., & Tientcheu-Avana, M. L. (2021). Farmers’ adaptive capacity to climate change in Africa: small-scale farmers in Cameroon. In African handbook of climate change adaptation (pp. 87-115). Cham: Springer International Publishing, p89.

[10] (File, D. J. M. B., Domapielle, M. K., & Derbile, E. K. (2021). op. cit., p145.

[11] (Dickinson, K. L., Monaghan, A. J., Rivera, I. J., Hu, L., Kanyomse, E., Alirigia, R., … & Wiedinmyer, C. (2017). Changing weather and climate in Northern Ghana: comparison of local perceptions with meteorological and land cover data. Regional environmental change17, 915-928, p915.

[12] (Kgosikoma, K. R., Lekota, P. C., & Kgosikoma, O. E. (2018). op. cit., p489.

[13] (Teye, J. K., Yaro, J. A., & Bawakyillenuo, S. (2015). Local farmers’ experiences and perceptions of climate change in the Northern Savannah zone of Ghana. International Journal of Climate Change Strategies and Management7(3), 327-347, p342.

[14] (File, D. J. M. B., Domapielle, M. K., & Derbile, E. K. (2021). op. cit.,p153.

[15] (Adaawen, S. (2021). Understanding climate change and drought perceptions, impact and responses in the rural Savannah, West Africa. Atmosphere12(5), 594, p11.

[16] ) Ogalleh, S. A., Vogl, C., & Hauser, M. (2013). Reading from farmers’ scripts: local perceptions of climate variability and adaptations in Laikipia, Rift Valley, Kenya. Journal of Agriculture, Food Systems, and Community Development3(2), 77-94, p83.

[17]) Kgosikoma, K. R., Lekota, P. C., & Kgosikoma, O. E. (2018). op. cit., p492.

[18] (Hameso, S. (2017) Farmers and policy-makers’ perceptions of climate change in Ethiopia, Climate and Development, pp.1-13, p1.

[19] (Belay, A., Oludhe, C., Mirzabaev, A., Recha, J. W., Berhane, Z., Osano, P. M., … & Solomon, D. (2022). Knowledge of climate change and adaptation by smallholder farmers: evidence from southern Ethiopia. Heliyon8(12), p8.

[20] (Mary AL, Majule AE (2009) Impacts of climate change, variability and adaptation strategies on agriculture in semiarid areas of Tanzania: the case of Manyoni District in Singida region,Tanzania. Afr J Environ Sci Technol 3(8):206–218, p210.

[21] (Nyangoko, B. P., Berg, H., Mangora, M. M., Shalli, M. S., & Gullström, M. (2022). Community perceptions of climate change and ecosystem-based adaptation in the mangrove ecosystem of the Rufiji Delta, Tanzania. Climate and Development14(10), 896-908, p 903.

[22] (Mogess, Y. K., & Ayen, D. D. (2023). op. cit., p510.

[23] (Miara, M. D., Negadi, M., Tabak, S., Bendif, H., Dahmani, W., Ait Hammou, M., … & Teixidor‐Toneu, I. (2022). op. cit., p1.

[24] (Din, N., Ngo-Massou, V. M., Essomè-Koum, G. L., Kottè-Mapoko, E., Emane, J. M., Akongnwi, A. D., & Tchoffo, R. (2016). Local perception of climate change and adaptation in mangrove areas of the Cameroon coast. Journal of Water Resource and Protection8(05), 608, p612.

[25] (Ngute, A. S. K., Marchant, R., & Cuni-Sanchez, A. (2020). Climate Change, Perceptions, and Adaptation Responses Among Farmers and Pastoralists in the Cameroon Highlands. Handbook of Climate Change Management: Research, Leadership, Transformation, 1-14, p7.

[26] (Froehlich, P., & Al-Saidi, M. (2018). Local community perception of climate change adaptation in Egypt. In IOP Conference Series: Earth and Environmental Science, Vol. 191, No. 1, p. 012003). IOP Publishing, p4.

[27] (Waapela, N. P. (2016). African Myths on Climate Change and Environmental Degradation and Challenges of Development in Africa. Global Journal of Human Social Science, Volume XVI, Issue I, Version I, 6-16, p6.

[28] (File, D. J. M. B., Domapielle, M. K., & Derbile, E. K. (2021). op. cit., p146.

[29] (Teye, J. K., Yaro, J. A., & Bawakyillenuo, S. (2015). op. cit., p342.

[30] (File, D. J. M. B., Domapielle, M. K., & Derbile, E. K. (2021). op. cit., p158.

[31] (Adaawen, S. (2021). op. cit., p12.

[32] (Hameso, S. (2017). op. cit., p12.

[33] (Waapela, N. P. (2016). op. cit., p10.

[34] ) Christian, N. G. (2014). The Impact of Climate Change on African Traditional Religious Practices, Journal of Earth Science & Climatic Change, Vol. 5, No. 7, p4.

[35] (Waapela, N. P. (2016). op. cit., p12.

[36] (Yung, L., Phear, N., DuPont, A., Montag, J., & Murphy, D. (2015). Drought adaptation and climate change beliefs among working ranchers in Montana. Weather, Climate, and Society7(4), 281-293, p282.

[37] (Kgosikoma, K. R., Lekota, P. C., & Kgosikoma, O. E. (2018). op. cit., p494.

[38] (Molua EL, Lambi CM (2006) The economic impact of climate change on agriculture in Cameroon. CEEPA discussion paper no. 17.

[39] (Ngute, A. S. K., Marchant, R., & Cuni-Sanchez, A. (2020). op. cit., p9.

[40] (Din, N., Ngo-Massou, V. M., Essomè-Koum, G. L., Kottè-Mapoko, E., Emane, J. M., Akongnwi, A. D., & Tchoffo, R. (2016). op. cit., p615.

[41] (Mogess, Y. K., & Ayen, D. D. (2023). op. cit., p510.

[42] (Nyangoko, B. P., Berg, H., Mangora, M. M., Shalli, M. S., & Gullström, M. (2022). op. cit., p896.

[43] (Juana, J. S., Kahaka, Z., & Okurut, F. N. (2013). Farmers’ perceptions and adaptations to climate change in sub-Sahara Africa: A synthesis of empirical studies and implications for public policy in African agriculture. Journal of Agricultural Science5(4), 121, p131.

[44] (Chalchisa, S. S. T. (2016). op. cit., p4.