كتب – د. محمد فؤاد رشوان

باحث في الشؤون السياسية الأفريقية

تـقوم الـديمقراطـية على مـبادئ عـديـدة لا يمكن الـفصل بـينها، بـحكم ارتـباط تـحقق كـل مـبدأ بـتحقق الآخـر، مـا يـفرض الـتعامـل مـع هـذه المـبادئ كـكل لا يتجـزأ، بـحيث يسـتدعـي نـقص أحـد المـبادئ انـتفاء صـفة الـديمقراطـية عـن أي نـظام سـياسي، ليتخـذ عـنوانـًا آخـر مـن عناوين اللاديمقراطية.

وتـنطلق الـديمقراطـية مـن فـرضـية أن الـفرد هـو مـركـز المـجتمع ومـحوره، ويـــحتل المـــرتـــبة الأســـمى في نـــطاق اهـتمامات الـدولـة، وقـد نـشأت فـكرة الـدولـة والـحكومـة لـتحقيق سـعادة هـذا الـفرد ولـتحافـظ على حـقوقـه الأسـاسـية وعلى كـرامـته. وعلى هـذا الاعـتبار تـعد جـميع الـقوى الـتي مـن شـأنـها المـساس بـقيمة الإنـسان ومـكانـته في المـجتمع بـاطـلة، ولا تـعد في نـسق الـديمـقراطـية جـميع الـحكومـات الـتي تـجعل الـفرد في غير المـرتـبة الأسـمى التي يستحقها.

وتسعى هذه الدراسة للإجابة على تساؤل رئيسي حول مدى ملائمة شروط ومبادئ الديمقراطية الغربية للواقع الأفريقي؟ وللإجابة على هذا التساؤل سعت الدراسة لتوضيح أبرز المبادئ والشروط اللازمة لقيام الديمقراطية بمفهومها الغربي الذي يُسعى لتسويقها وفرضها في أفريقيا.

أولًا: الشروط اللازمة لقيام الديمقراطية الغربية

هناك ثلاثة أبعاد جوهرية في تعريف الديمقراطية أولها يتعلق بالوصول إلى السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة لانتخاب ممثلين للشعب مع المساواة التامة في حق الانتخاب والترشح، وثانيها يتعلق بالعلاقة بين السلطة والمواطنين بأن تكون السلطة التنفيذية مسؤولة أمام ممثلي الشعب في برلمان أو غيره، وهو ما يجعل المواطن هو أصل كل السلطات، وهو من يمنحها ويكون من يملك تلك السلطة مسؤولًا أمام الشعب، وأخيرًا حرية إنشاء الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنقابات المستقلة التي تمثل كل جماعة خير تمثيل وتسعى لتحقيق مصالحها، أو بمعنى آخر التعددية بكل ما تحمل الكلمة من معنى، بل والتعددية المنطوية تحت ذات الفئة فيكون لكل مجموعة نقابات متعددة تمثلها وتعمل على تحقيق مصالحها وأحزاب متنوعة بأفكار وأيديولوجيات متنوعة تسعى لتحقيق مصالحها.

  1. طبقة وسطى قوية ومستقلة

وفقًا للدراسات التي قام بها البنك الدولي فإن الطبقة الوسطى بشكل عام هي التي تقوم  باستهلاك ما بين 20 إلى 80 %  من الإنتاج، ويتجاوز الدخل السنوي للفرد فيها 3900 دولار، أما من ناحية القوة الشرائية فيتراوح نصيب الفرد فيها ما بين 2 إلى 105 دولارات يوميًا.

وقامت الدراسة بتقسيم الطبقة الوسطى إلى ثلاث طبقات فرعية تبدأ الطبقة الوسطى الدنيا فيها بالإنفاق على الاستهلاك بملغ يتراوح بين دولارين إلى أربعة دولارات يوميًا أي إنها تقع فوق خط الفقر مباشرة في العالم النامي البالغ دولارين للفرد (خط الفقر الثاني)، وهي فئة معرضة بشكل كبير للانزلاق إلى تحت خط الفقر، أما الفئة الثانية وهي الوسطى في الطبقة الوسطى والتي يبلغ نصيب الفرد فيها من الاستهلاك ما بين 4 إلى 10 دولارات يوميًا وتعيش هذه الطبقة فوق مستوى الكفاف وهي قادرة على توفير واستهلاك السلع غير الأساسية، أي السلع الكمالية والترفيهية، وأخيرًا الفئة الثالثة وهي الفئة العليا والتي تتمتع بمستويات للاستهلاك تتراوح ما بين 10 إلى 105 دولار يوميًا.[1]

ومن ناحية أخرى فقد أعلن بنك التنمية الأفريقي عام 2012 بأن ما بين 300 إلى 500 مليون أفريقي ضمن الطبقة الوسطى في أفريقيا، والتي لها تركيبة مختلفة عن المعايير الدولية التي قدمها البنك الدولي؛ حيث يرى بنك التنمية الأفريقي أنها يتراوح فيها مستوى دخل الفرد بين دولارين إلى عشرة دولارات يوميًا وهي كافية لتسمح بنمط حياة اجتماعي متوسط في المجتمعات الأفريقية، وهي بذلك طبقة محفوفة بالمخاطر لضعفها بشكل كبير أمام الانكماش في الاقتصاد الكلي الذي تواجهه الدول الأفريقية .[2]

وعلى الرغم من جدية تلك الدراسات إلا أنها تتعلق فقط بالأرقام متغاضية عن الأوضاع الاجتماعية والمركز المهني والتوجهات السياسية والثقافية والتعليمية لتلك الطبقة، وبالتالي فذلك التعريف جاء فضفاضًا لتغطية كافة البيانات المختلفة التي تنطوي داخله.

 ويُعد ارتفاع حجم الطبقة الوسطى دافعًا قويًا لتحفيز النمو الاقتصادي؛ فالدراسات تشير إلى أن زيادة حجم الطبقة الوسطى ساعد كوريا الجنوبية على النمو بشكل أكبر من البرازيل التي تعاني من تآكل تلك الطبقة بشكل ملحوظ، وللطبقة الوسطى العديد من القيم التي تساعد على النمو الاقتصادي منها الحرص على التعليم؛ حيث يعد التعليم مصدرًا أساسيًا للدخل لدى تلك الطبقة، وكذلك من قيم تلك الطبقة الحرص على الادخار، وهو ما تسعى إليه الكثير من الحكومات لما فيه من آثار اجتماعية واقتصادية إيجابية وبالتالي فتلك الطبقة تسعى دائمًا للضغط على الحكومات من أجل تحسين مستويات التعليم والصحة والمواصلات، وهو ما يساعد على رفع مستوى الرفاهة المعيشية في الدولة . [3]

وقد وقعت أغلب الأنظمة الأفريقية في خطأ فادح خلال العقدين الأخيرين وهو التركيز على الإصلاح الاقتصادي دون التحرك بشكل مساوٍ معه في مسار الإصلاح الاجتماعي والسياسي حتى يدعم كل من الاتجاهين الآخر، الأمر الذي خلق العديد من التشوهات البنيوية على كافة المستويات منها تزايد معدلات البطالة وتراجع كبير لدور المعارضة السياسية وعدم الاعتداد بأهميتها في الإصلاح السياسي والاقتصادي وما طالها من تخوين وتبعية، وهو ما كان له كبير الأثر على التراجع الكبير في تأثير الطبقة الوسطى في المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وهو ما انعكس بدوره على مستوى المشاركة السياسية الفعالة لتلك الطبقة، وذلك نتيجة لعدم التجانس داخل بنية الطبقة الوسطى ذاتها من النواحي الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وجاءت ممارستها السياسية غير متجانسة على مختلف الأيديولوجيات السياسية في المجتمع الأفريقي. [4]

2 . نظام حزبي تعددي تنافسي

يعكس نظام التعدد الحزبي وجود مصالح متضاربة في الواقع السياسي بين الشرائح والطبقات الاجتماعية المتنوعة داخل الدولة الواحدة مما يصعب معها على حزب سياسي بمفرده أن ينجح في الحصول على الأغلبية المطلقة التي تؤهله لتشكيل الحكومة، ولذك فتسعى تلك الأحزاب لعقد تحالفات فيما بينها إما تحالفات انتخابية تتشكل قبل إجراء الانتخابات، أو تتشكل بعد الانتخابات عند تشكيل الحكومة .[5]

ويختلف تأثير الأحزاب على رأس السلطة التنفيذية باختلاف أشكال نظام الحكم فحين يكون نظام الحكم برلمانيًا فإن رئيس الوزراء الذي لا يجد في البرلمان قاعدة حزبية تشكل الأغلبية يبقى وحكومته تابعين للبرلمان وتقتصر مهمتهم على تنفيذ السياسات التي يضعها البرلمان لتسيير الدولة ويصبح البرلمان في هذه الحالة صاحب السلطة، وفي حالة تعدد الأحزاب وتكوين ائتلافات برلمانية لتشكيل الحكومة يكون عمر تلك الحكومات قصيرًا نتيجة لاختلاف المواقف المكونة للأغلبية، وبالتالي يعرضها بصورة دائمة إلى الانهيار ويتسم ذلك النظام بعدم الاستقرار الوزاري.

   أما في النظام الرئاسي فإن رئيس الجمهورية إذا كان ذا خلفية حزبية عريضة أتت به على رأس السلطة وفازت بالأغلبية في البرلمان فإنه يكتسب نفوذًا وتأثيرًا ضخمًا في سير العملية السياسية.

وبناء على ما سبق، يختلف وضع المعارضة السياسية في كل من النمطين السابقين ففي حال تعدد الأحزاب خارج الائتلاف المشكل للحكومة فتواجه الحكومة معارضة مزدوجة يمارسها أحزاب الأقلية الخارجة عن الائتلاف الحاكم ومعارضة داخلية يقودها مجموعة الأحزاب المؤتلفة داخل الحزب الحاكم؛ حيث توجِّه بعض لانتقادات من أجل تصحيح مسار ما أو الحصول على مكاسب إضافية أو للضغط من أجل تبني برنامج معين لتحميل الحزب الحاكم بالأخطاء التي قد تقع فيها الحكومة. [6]

3 . الحرية الاقتصادية

ظل العالم الاقتصادي في نقاش فكري كبير لأكثر من مائة عام بين تدعيم الفكر المتحرر والفكر المعادي له وكان الفلاسفة والاقتصاديون يدافعون عن نظام اقتصادي قائم على الملكية الخاصة وحرية السوق أو ما يمكن أن يُطلق عليه الحرية الاقتصادية والتي نشأت بالأساس في أوروبا لا سيما في أعقاب الثورة الصناعية .

ويعتبر مصطلح الحرية الاقتصادية من المصطلحات الحديثة التي ترتبط بالأنظمة الاقتصادية الحرة لا سيما الرأسمالية ويعتبر آدم سميث من أوائل الاقتصاديين الذين طالبوا بالحرية الاقتصادية؛ حيث دعا إلى عدم التدخل من قبل الدولة تجاه النشاط الاقتصادي الخاص لكنه طرح أيضًا نظرية اجتماعية أوسع مفادها أنه يجب تقييد الشركات والأفراد في ميلهم إلى الاحتكار والتواطؤ، ودفع أجور منخفضة (أي حقوق العمال ضد اصحاب أرباب العمل) والتراكم المفرط للربح والثروة بشكل عام، فيرى أنه لا يمكن أن يوجد مجتمع مزدهر وسعيد والجزء الأكبر منه  فقير وبائس. [7]

فيما يرى كل من ميلتون فريدمان وفريدريك هايك أن الحرية الاقتصادية تقوم على العديد من المبادئ الأساسية منها الحرية الشخصية، وحرية التبادل التجاري والمنافسة في الأسواق، وللقيام بذلك فإن الأمر يتطلب حماية قوية للأشخاص والممتلكات، ويرى هذا الاتجاه أن هناك ثلاث غايات تماهت معها الديمقراطية الليبرالية الغربية، وهي: زيادة دور السوق في تنظيم الحياة الاقتصادية عبر الانفتاح على التجارة والاستثمارات الدولية وعقد اتفاقيات التجارة الحرة العالمية وتقليص حقوق العاملين من أجل تحرير الشركات من أي قيود، وكذا خصخصة المنشآت والخدمات العامة كالبنوك والسكك الحديدية والطرق العامة والمستشفيات والمدارس، وأخيرًا تخفيض الإنفاق العام على الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة وتقليص شبكة الأمان للفقراء وبالتالي يقوم هذا الاتجاه على استبدال مفهوم الصالح العام إلى مفهوم المسؤولية الفردية، ما يزيد من معاناه الفقراء ويحملهم مسؤولية البحث عن حلول لما يواجهونه من تحديات.

وتعمل الحكومات التي تسعى لتعزيز الديمقراطية إلى توفير بنيه قانونية قوية تقوم على إنفاذ القانون وحماية حقوق الملكية والفصل في المنازعات الاقتصادية بعدالة وسرعة ناجزة، وكذلك يمتنع على الحكومات الاستيلاء أو مصادرة الأموال الشخصية والتدخل في الأسواق، وترك حرية المنافسة وعدم فرض قيود على المهن والأنشطة التجارية.[8]

ويعد هذا النهج هو الأساس الذي اعتمدت عليه وانتشرت الديمقراطية الليبرالية من خلاله حيث يسمح بأوسع نطاق من الحرية في التبادل الحر للسلع والخدمات بين الأفراد والجماعات، حيث تحد الملكية الخاصة فيه من سيطرة الدولة على الحياة الاقتصادية لمواطنيها، وكذلك تحد من سلطة الدولة في اتخاذ القرارات الاقتصادية المرتبطة بالحياة السياسية للمواطنين، وبالتالي تحرس الملكية الفردية من طغيان الدولة إلا أنها تؤدي إلى تراكم الملكية والسلطة في أيد الأفراد أو الأقلية وهو ما يترتب عليه انتهاكات للحريات الفردية والرفاهية الاجتماعية. [9]

4. سيادة القانون والفصل بين السلطات

يقصد بسيادة القانون خضوع المواطنين والدولة بكافة سلطاتها ومؤسساتها وإداراتها وموظفيها كافة في جميع المراتب للقانون المطبق في البلاد، دون أن يكون هناك امتياز لأحد أو استثناء من تطبيق حكم القانون عليه بسبب المنصب أو الدين أو الثروة وما إلى ذلك، أو أن تعتبر إرادة الزعيم أو المسؤول الكبير فوق القانون.

وكذلك يعني مبدأ سيادة القانون أن يكون القانون المُشرع من قبل السلطة التشريعية المختصة لتنظيم علاقة ما هو الواجب التطبيق عليها أو أن تعتبر أحكام القانون المرجع الأول والأخير للبت في أي خلاف أو موضوع منظم في القانون أو معالج فيه وهو مبدأ واجب الاحترام من قبل السلطتين التنفيذية والقضائية، ومن قبل الأفراد أيضًا .[10]

ومن ناحية أخرى، تقوم فكرة الفصل بين السلطات على ضرورة توزيع سلطات الحكم الرئيسية: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية على هيئات منفصلة ومتساوية تستقل كل منها عن الأخرى في مباشرة وظيفتها حتى لا تتركز السلطة في يد واحدة فتسيء استخدامها وتستبد بالمحكومين بشكل يضر بحياة الأفراد وحقوقهم.

لذلك يعد مبدأ الفصل بين السلطات هو الضمانة الأساسية والفعالة لحماية حقوق وحريات الأفراد من قمع واستبداد الحكام في حال اجتماع وتركز السلطات في أيديهم، وبالتالي فإنه لا يتصور وجود حماية لحقوق الأفراد إذا ما تركزت السلطة في يد فرد أو هيئة واحدة فعندما تسيطر السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية فإنه يخشى أن يقوم شخص أو مؤسسة بسن قوانين جائرة يتم العمل على تنفيذها بطريقة تعسفية، كما يمكن أن تعمل السلطة التنفيذية على إصدار تشريعات تخول فيها لنفسها سلطات واسعة، وهو ما ينطبق على السلطة القضائية إلا لم تحصل على استقلالها فإن حرية الأفراد سوف تصبح عرضة للفوضى والضياع .[11]

وبناء على ما سبق، ومن أجل تعزيز مبدأ سيادة القانون لا بد من توفير البيئة الملائمة التي يمكن أن يتطور فيها الفكر لدى الأفراد والحكام على حد سواء للإيمان بأهمية مبدأ سيادة القانون عبر اتخاذ العديد من التدابير الافتصادية منها إصلاحات الأسواق وتعزيز الحرية الاقتصادية وتقليل التدخل الحكومي في الاقتصاد، وبالتالي إتاحة الفرصة بشكل أكبر لرفع مستوى المعيشة لقطاع عريض من السكان ونمو الطبقة المتوسطة لتشكل الغالبية العظمى من السكان. [12]

ثانيًا: مظاهر تراجع الديمقراطية الغربية في أفريقيا

تتعدد مظاهر أزمة الديمقراطية الغربية والمتمثلة في تصاعد حدة المعارضة الشعبية للمنظومة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المهيمنة على أغلب الدول الأفريقية، فبدأت تتصاعد الأصوات الرافضة للعولمة والحرية الاقتصادية دون توفير حماية من قبل الدولة لمواطنيها، كذلك فشل النموذج التنموي في الدول الأفريقية، ويمكن أن يعود ذلك الفشل إلى طبيعة النخبة الحاكمة وذلك بحكم طبيعة تكوينها والتي تقوم بجمع وتعظيم الثروات لاكتنازها وتهريبها خارج بلادهم وبالتالي تستفيد منها دول أخرى دون إعادة تدويرها داخل الاقتصاد الوطني وهو الأمر الذي كان من الممكن أن يجعل الفساد مقبولًا بدرجة أو بأخرى، أما الجزء الذي يتم إنفاقه داخل البلاد فيذهب إلى سلع استهلاكية باعتبار أن الثروة مظهر من مظاهر الترقي الاجتماعي والطبقي، ومن أبرز تلك المظاهر:

  1.  العنف الانتخابي المصاحب للعملية الانتخابية

تتسم الممارسة السياسية في غالبية الدول الأفريقية بالعنف، ويعود ذلك إلى أن الدولة  تمثل في الغالب أحد طرفي الصراع، فهي ليست حكمًا أو وسيطًا في الصراعات، ويمكن إرجاع ذلك إلى كون الدول الأفريقية ذات درجة منخفضة جدًا من الاستقلالية الذاتية عن الطبقات الاجتماعية خاصة الطبقة الاجتماعية المهيمنة.

وقد شهدت القارة الأفريقية العديد من موجات العنف الانتخابي خلال كافة مراحل العملية الانتخابية، وذلك لرفض الطرف الخاسر نتيجة الانتخابات والطعن في نزاهتها ومصداقيتها، وبذلك لم تتمكن الديمقراطية التي كان من المتوقع أن تحد السمات المذكورة أعلاه من القيام بذلك بل إن موجة الديمقراطية جلبت معها المزيد من الأزمات المتصاعدة؛ حيث اتسمت بالعنف الانتخابي بأحجام مختلفة كما في الكونغو عام 2006؛ ونيجيريا 2007 و2011، كينيا 2008، ساحل العاج 2012.

وعلى الرغم من تغير التركيبة المؤسسية الرسمية في العديد من الدول الأفريقية إلا أن المنطق الأساسي للسياسة لم يتغير؛ حيث لا تزال السلطة والموارد تتركز في يد السلطة المركزية، وبالتالي يسعى كل طرف للفوز بالانتخابات، فالفائز يحصل على كل شيء ويترك الطرف الخاسر دون الحصول على أي مكاسب، ومع تزايد أساليب المراقبة على الانتخابات ورصد التزوير في اللجان الانتخابية تزايد خطر العنف الانتخابي.[13]

ولا يقتصر العنف الانتخابي على الانتخابات العامة والوطنية ففي سيراليون، على سبيل المثال، أسفرت عدة انتخابات فرعية برلمانية على مستوى الدوائر الانتخابية عن مستويات عالية من العنف والتخويف وانعدام الأمن؛ حيث تتنافس الأحزاب السياسية الرئيسية على التمسك بالأرض وإقامة الطرق الإقليمية استعدادًا للجولة المقبلة من الانتخابات الوطنية.

وتظهر العديد من المواقف مرحلة العنف في مرحلة ما قبل الانتخابات؛ حيث يسعى الرئيس لتمديد فترة ولايته عبر إجراء تعديلات على الدستور الموجود في البلاد من  أجل استمراره في الحكم لفترة أطول، وهو ما ترفضه الأحزاب والجماعات الأخرى خارج الحكم، وبالتالي تشهد البلاد موجات من العنف وهو ما حدث على سبيل المثال في كل من بوروكينا فاسو 2014، بوروندي 2015، وجمهورية الكونغو 2016 .

فعلى سبيل المثال، شهدت بوروندي أزمة سياسية منذ عام 2015 حين أعلن الرئيس بيارنكور الذي يحكم البلاد لفترتين مدتهما عشر سنوات ترشحه لولاية ثالثة في انتخابات رئاسية قاطعتها المعارضة وفاز بها رغم أن الدستور يحدد ولايتين كل منها مدتها خمس سنوات، وسعى لإجراء تعديلات دستورية وإجراء استفتاء بالترشح في 2020 لولايتين مدة كل منهما سبع سنوات؛ أي يمتد حكمه إلى 2034، وبسبب تلك التعديلات شهدت بوروندي موجة من العنف غير المسبوق أعاد إلى البلاد ذكرى المذابح البشرية التي شهدتها البلاد في تسعينيات القرن الماضي حيث أدت تلك الأزمة لمقتل 1200 شخص على الأقل ونزوح قرابة النصف مليون شخص وهو ما أدى إلى فتح المحكمة الجنائية الدولية تحقيقًا لارتكاب جرائم ضد الإنسانية. [14]

وفي ذات السياق، فقد شهدت جمهورية الكونغو عام 2016 أحداث عنف ومظاهرات رافضة للتعديلات الدستورية التي دعا إليها الرئيس دنيس ساسو نغويسو ليسمح بترشيح نفسه للانتخابات في عام 2016 وهو ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات من المتظاهرين الرافضين تلك التعديلات .[15]

ويتضح مما سبق أن عملية العنف الانتخابي تلعب العديد من الأدوار المزدوجة،  لذا تقوم بها العديد من الأحزاب الحاكمة والمعارضة على حد سواء؛ حيث يمكن أن تؤدي إلى تقليص الفضاء الديمقراطي عن طريق منع الحملات الانتخابية للأحزاب المتنافسة داخل معقل الحزب، كذلك يمكن استخدامها للدفاع عن وجود الحزب داخل مناطق سيطرته ونفوذه، ومن ناحية أخرى يمكن استخدام العنف من أجل توحيد صفوف القوى المتنافسة داخل الحزب وتجنب عملية الانشقاقات التي تحدث في مناطق نفوذهم ومعاقلهم . [16]

2 . تراجع التعددية الحزبية وعسكرة الحياة المدنية

مرت تجربة التعددية الحزبية في أفريقيا بالعديد من المراحل، ارتبطت كل مرحلة بالتأثر بالقوة الدولية الفاعلة في القارة الأفريقية وبالنظام العالمي السائد في تلك المرحلة وكذلك ارتبطت بالتطور السياسي والاجتماعي في القارة الأفريقية بشكل عام ويمكن تصنيف تلك المراحل إلى ثلاث مراحل أساسية؛ أولها المرحلة المبكرة لتى تشمل معظم سنوات تصفية الاستعمار وبداية تحقيق الاستقلال الوطني؛ حيث تم تأسيس نظم ديمقراطية ليبرالية من أجل تسهيل عملية نقل السلطة إلى الزعماء الوطنيين وقادة التحرر الوطني، وقد اتسمت تلك الفترة بالتفاؤل والشعور بالزهو والحماس من أجل الانطلاق التنموية الأفريقية وبناء الدولة.[17]

وبتبلور تكوين الأنظمة السياسية في أفريقيا بعد الاستقلال سرعان ما بدأت تنهج طريقًا جديدًا يختلف عن النظم الديمقراطية الغربية، ويتميز أيضًا عن النظم الشيوعية؛ فمنذ أوائل الستينيات من القرن الماضي شهدت أفريقيا التحول إلى نظام الحزب الواحد المسيطر، ومنه إلى نظام الحزب الوحيد الذي يحتكر السلطة السياسية ولا يترك لغيره فرصة التعايش معه أو منافسته، وعلى الرغم من احتفاظ تلك النظم بشكل المؤسسات الدستورية الغربية إلا أنها لم تحتفظ بروح تلك المؤسسات وتبدلت تدريجيًا من نظام الحكم البرلماني إلى النظام الرئاسي الذي يجعل السلطة في يد رئيس الدولة وحدة .[18]

 وكنتيجة لحالة التسلط التي فرضتها الأنظمة الحاكمة في أفريقيا بالتزامن مع التنافس في النظام الدولي بين الكتلة الشرقية والكتلة الغربية وتجسده داخل القارة؛ فقد شهدت أفريقيا خلال فترة الستينيات وحتى عام 1980 رقمًا قياسيًا من حيث عدد الانقلابات العسكرية حيث وصل عددها إلى 120 انقلابًا، من بينها 79 عملية إطاحة بحكومات على نحو غير دستوري كما فقد 25 من رؤساء الدول والحكومات الأفريقية حياتهم بسبب النزاعات السياسية خلال حقبة الستينيات، وكانت السودان وتوجو وغانا من أولى الدول التي شهدت الانقلابات العسكرية بعد الاستعمار وحظيت نيجيريا وحدها بعدد 6 انقلابات عسكرية منذ استقلالها.[19]

ومع فشل الأنظمة الحاكمة في تلبية طموحات الشعوب الأفريقية وتحقيق التنمية الاقتصادية المنشودة، تزايدت الضغوط الداخلية الناجمة عن الاحتجاجات الشعبية ونخب المعارضة بالتزامن مع  انتهاء الحرب الباردة وتزايد الضغوط الدولية أو ما تعرف ببرامج التكيف الهيكلي أو المشروطية السياسية التي فرضتها الدول الغربية على الدول الأفريقية بدأت تتبلور ملامح المرحلة الثالثة في أفريقيا أو ما يطلق عليها التحرر الثاني؛ حيث تخلت أغلب الأنظمة عن نظام الحزب الواحد وتراجعت أنظمة الحكم العسكري؛ وحدثت موجة من التحول نحو الديمقراطية سادت معظم أرجاء القارة الأفريقية .[20]

وفي ذات السياق، يشهد الواقع الدولي الحالي صراعات متعددة من أجل صياغة مستقبل النظام الدولي؛ حيث تسعى الولايات المتحدة الأمريكية للحفاظ على هيمنتها التي تفرضها على المجتمع الدولي وقوتها في حين أن هناك قوى موازية أخرى تسعى لإعادة تشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، وقد أسهم تنامي الدور الروسي في ذلك؛ حيث بدأ في التكشف بعد الحرب الروسية الأوكرانية،  وكذلك الصعود الاقتصادي السلس والمتنامي للصين ومحاولتها التغلغل في مفاصل المؤسسات والهيئات الدولية ومحاولة كل منهما بناء كيانات وتحالفات موازية للتحالفات الأمريكية الغربية بالتزامن مع الأزمات المتلاحقة التي تلاحق الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الاقتصادي والسياسي، خاصة بعد فقدان الثقة بينها وبين حلفائها نتيجة لتخليها عنهم في العديد من المواقف والأزمات التي يواجهها هؤلاء الحلفاء الاستراتيجيون.[21]

ومع تخفف الدول الأفريقية من الشروط الغربية بدأت ظاهرة الانقلابات العسكرية في أفريقيا في التزايد بشكل مضطرد خلال العقد الأخير فمنذ عام 2012 وحتى الآن شهدت القارة الأفريقية ما يقرب من 45 انقلابًا عسكريًا أو محاولة انقلابية على السلطة، وتركزت أغلب تلك المحاولات الانقلابية الناجحة والفاشلة في منطقة غرب أفريقيا والتي يمكن تصنيفها على أنها حزام الانقلابات؛ حيث استحوذت على أكبر عدد من الانقلابات في القارة بنسبة تقارب 50 %، ما يعني تزايد الأنظمة العسكرية الحاكمة في القارة الأفريقية والتي لا تسمح بوجود أي أحزاب سياسية تشاركها الحكم حتى تتمكن من السيطرة التامة على الدولة. [22]

فضلًا عما تشهده باقي دول القارة من صراع على السلطة وتقييد دور المعارضة وشيطنتها في أغلب الأوقات من قبل السلطة الحاكمة، ففي أفريقيا الوسطى تجدد الصراع بين الرئيس تواديرا واتباع الرئيس السابق فرانسوا بوزيزي؛ حيث استغل الرئيس تواديرا الهجوم على مواقع حدودية مع الكاميرون ومواقع للجيش من قبل القوات الموالية لبوزيزي من أجل سحق قوى المعارضة وقام بتطبيق إجراءات استثنائية ضد المدنيين.[23]

فيما تشهد السودان منذ الإطاحة بنظام البشير في عام 2019 بعد انتفاضة شعبية، وما تلاها من أحداث اشتباكات مسلحة عنيفة وصل بين قيادة الجيش السوداني وقوات الدعم السريع راح ضحيتها الآلاف من المصابين والقتلى في صفوف المدنيين والعسكريين، وتعود جذور الصراع منذ تشكيل مجلس السيادة الذي تولى المرحلة الانتقالية بعد الإطاحة بنظام البشير؛ حيث تولى البرهان رئاسة مجلس السيادة فيما تولى حميدتي منصب نائب رئيس المجلس وأخذت الخلافات تظهر للعلن، خاصة بعد قرار الجيش بحل مجلس السيادة الذي يتكون من مدنيين وعسكريين، وإقالة الحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك واستلام السلطة مباشرة في 2021. [24]

 3 . تراجع دور منظمات المجتمع المدني

ترتكز التجربة الأفريقية للمجتمع المدني إلى حد كبير على نضال الشعب ضد الأنظمة والحكومات الشمولية التي انتهكت حقوق شعوبها، وقد حدد دايموند بعض وظائف المجتمع المدني في إضفاء الطابع الديمقراطي على أفريقيا من خلال تأدية العديد من الوظائف الحاسمة للتنمية الديمقراطية، وترسيخ الحد من السلطة المطلقة للحكام وإساءة استخدامهم لتلك السلطة، ورصد انتهاكات حقوق الإنسان وتعزيز سيادة القانون، فضلًا عن مراقبة العملية الانتخابية وتعزيز الشفافية والمصداقية حتى تعبر عن آراء الشعب، وتثقيف المواطنين بشأن حقوقهم ومسؤولياتهم ودمج الفئات المهمشة في العملية السياسية.

لذا فقد عمل الاستعمار على تدمير كافة الأشكال التقليدية الموازية للمجتمع المدني بمفهومه الحديث، والتي وُجدت في أفريقيا قبل الحقبة الاستعمارية؛ حيث كانت تضمن نوعًا من أنواع الديمقراطية في صنع القرار والحكم، منها المشاورات على نطاق واسع قبل اتخاذ القرارات بين الجماعات الموجودة،  وذلك خشية قيامهم بالتحريض لمقاومة القوى الاستعمارية .[25]

وعقب انتهاء الحرب الباردة حدث تحول كبير على الساحة السياسية الأفريقية، وخاصة بعد زيادة المطالب بضرورة التحول إلى نظام التعدد الحزبي بدلًا من نظام الحزب الواحد بعد تبدد المبررات الذي روج لها القادة الأفارقة حول ضرورة الالتفات حول التنمية، وأن التعدد الحزبي من شأنه أن يساعد على تفكك الدولة وتحولها إلى الصراع حول السلطة بدلًا من التركيز على التنمية الاقتصادية، وهي المبررات التي لم يعد هناك جدوى من ترويجها بعد تردي الأوضاع الاقتصادية بشكل كبير واتضح أن الهدف منها هو التشبث بالسلطة والبقاء في الحكم .

 لذا فقد أدى ذلك الحراك الذي تزامن مع وجود تحالفات واسعة بين المجتمع المدني والجهات الدولية المانحة من أجل المطالبة بتعزيز الديمقراطية في العديد من الدول الأفريقية، ونتيجة لتكاتف الطلاب والكنائس والنقابات العمالية والجماعات النسائية ومنظمات حقوق الإنسان فضلًا عن المفكرين والصحفيين إلى إرغام الحكام المتشبثين بالسلطة لتقديم تنازلات واسعة فيما يتعلق بملف الحريات ونظام التعدد الحزبي وهو حراك لم تشهده أفريقيا منذ حركات الكفاح ضد الاستعمار في حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. [26]

وتواجه منظمات المجتمع المدني العديد من التحديات تتمثل في ضعف التمويل والموارد المالية اللازمة للقيام بدورها الفعال في المجتمعات الأفريقية، فضلًا عن حملات التشويه الممنهجة من قبل الأنظمة الحاكمة في أفريقيا حال تلقيها تمويلًا أجنبيًا مما يفقدها استقلاليتها تجاه الدولة من جهة وتجاه سياسات المنظمات المناحة من جهة أخرى .[27]

وقد شهد المجتمع المدني ولا سيما قطاع المنظمات غير الحكومية تحولًا في فترة ما بعد الاستقلال، وخاصة فيما يتعلق بدعم النشاط الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بجانب الدولة، وهو ما ساعدت الحكومة على تنميته؛ حيث كانت ترى مدى أهمية نشاط منظمات المجتمع المدني من أجل تلبية المطالب المجتمعية خاصة مع ضعف الأوضاع الاقتصادية وموارد الدولة لذا سعت إلى توثيق التعاون مع المجتمع المدني .

ففي الكاميرون، وعلى الرغم من القمع السياسي الموجود، تعمل منظمات المجتمع  المدني بدون دوافع سياسية؛ حيث كان لبعثات الروم الكاثوليك دور هام في دعم الدولة منذ الاستقلال، وبذلت تلك البعثات جهدًا كبيرًا فيما يتعلق بقطاعي التعليم والصحة؛ حيث قامت بإنشاء العديد من المدارس الابتدائية والثانوية في جميع البلاد، وأنشأت العديد من المراكز الطبية لتقديم الرعاية والخدمات الصحية للمواطنين.[28]

إلا أنه لم يكن من المسموح لتلك المنظمات بالعمل في المجال السياسي؛ حيث تم التضييق على عملها واستغلت الحكومة الاشتباكات العنيفة التي حدثت بين قوات الجيش الكاميروني والجماعة الانفصالية فتم إعادة الوضع لما كان عليه من حيث تضييق العمل على منظمات المجتمع المدني مرة أخرى من الناحية السياسية وسمحت فقط للجمعيات العاملة في المساعدات الاجتماعية والإنسانية بالعمل تحت إشراف الحكومة وأصدرت الحكومة العديد من القوانين التي تسمح لها باحتجاز أي شخص دون تهمة واضحة من قبل السلطة التنفيذية بدعوى مكافحة اللصوصية وقامت السلطات باحتجاز 65 شخصًا من العاملين بمنظمات المجتمع المدني لفترات طويلة دون محاكمة.[29]

  4 . التعدي على الدستور والحياة القانونية

تطور مفهوم الدولة من الدولة الاستبدادية التي يختلط فيها القانون بإرادة الحاكم إلى دولة القانون التي يسودها الشرعية وسيادة القانون والتي تقوم على مجموعة من المبادئ منها الفصل بين السلطات والمساواة أمامه وسمو الدستور وخضوع كل من في الدولة لسيادته.

 وتعد سيادة القانون الأساس لأي نظام ديمقراطي؛ حيث تمثِّل السياق الملائم للحياة الديمقراطية السليمة، وللحوار والسلوك السياسي وفق قواعد محددة تفرض نبذ العنف، والحياة المدنية القائمة على علاقات الاحترام المتبادل وقبول الآخر فضلًا عن المساواة وتكافؤ الفرص.

 ونظرًا لما توفره سيادة القانون من معايير للعدالة والإنصاف والمساواة، وحماية لحقوق الأفراد والجماعات، وتحملهم لواجباتهم ومسؤولياتهم جنبًا إلى جنب مع تمتعهم بالحقوق والحريات الأساسية، فقد أخذت تهتم بها مختلف تقارير المنظمات الدولية وأنشطتها، بما في ذلك تقارير التنمية البشرية والإنسانية التي تصدر عن الأمم المتحدة، والتي أخذت تركز مؤخرًا على قضايا الأمن الإنساني، وعلى توافر المؤشرات الأساسية والمعايير التي تفرضها سيادة القانون في مختلف دول العالم؛ لذا فتعد سيادة القانون ذات أهمية خاصة بالنظر باعتبارها الأساس لمفهوم المواطنة، خصوصًا في المجتمعات ذات التكوين المتنوع عرقيًا ومذهبيًا وأيضًا سياسيًا وأيديولوجيًا، كما أنها تمنح الشرعية لأي نظام سياسي يتبنى سيادة القانون، ويُعنى بتطبيق وترجمة ما تفرضه من إجراءات وسلوكيات، وكذلك فتعد الأساس لتحقيق دولة العدل؛ حيث يأمن كل فرد، وكل جماعة، في ضمان حقوقه وكرامته، على قدم المساواة مع الآخرين، وأخيرًا توفر الاستقرار في الدولة والمجتمع، بديلًا عن العنف والتعصب، كما تحقق تكافؤ الفرص والعدالة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. [30]

وعلى النقيض من ذلك تشهد القارة الأفريقية تراجعًا كبيرًا على مسار احترام الدستور وسيادة حكم القانون واحترام حقوق الإنسان في التعبير عن رأيه ومعارضة النظام الحاكم، ففي إريتريا عقب الاستفتاء على استقلال البلاد صدر المرسوم 37 /1993 والذي تشكلت على أساسه حكومة إريتريا المستقلة برئاسة أسياس أفورقي رئيس الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا، والذي أصبح رئيس الحزب الحاكم، وقد منح المرسوم الحكومة صلاحيات تشريعية جعلت منها المشرع والمنفذ في آن واحد لحين تشكيل لجنة لصياغة الدستور والمجلس الوطني (البرلمان) .[31]

ونتيجة لانتقال البلاد من مرحلة التحرر الوطني إلى مرحلة بناء الدولة فقد تم تغيير اسم الجبهة الحاكمة من الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا إلى حزب الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة، وذلك خلال المؤتمر التنظيمي الثالث  الذي عقد عام 1994، إلا أنه لم يل ذلك السماح بإنشاء أي أحزاب أخرى بشكل شرعي، أو حتى السماح بدخول الأحزاب الإريترية الناشطة خارج إريتريا إلى الداخل وممارسة نشاطاتها، على الرغم من السماح للقيادات بالدخول بشكل فردي دون الهياكل التنظيمية ، وعلى الرغم من كون الدستور الإريتري ينص على التعددية الحزبية إلا أنه قد تم تعطيل العمل بالدستور الذي تم إقراره عام 1997 وبعدها بأقل من عام نتيجة الحرب التي دارت بينها وبين إثيوبيا خلال الفترة من 1998 وحتى 2000، وتم إلغاء الأنشطة الحزبية، وإلغاء تكوين الأحزاب، وبذلك تكون إريتريا هي دولة الحزب الواحد، وذلك بدعوى الحفاظ على الوحدة الوطنية الإريترية في مواجهة القوى الاستعمارية الخارجية فقد تم تجميد عمل المجلس النيابي الذي يتشكل أغلب أعضائه من الحزب الحاكم نتيجة لدخول إريتريا الحرب مع إثيوبيا، وعلى الرغم من انتهاء الحرب بالتحكيم الدولي الذي قبل به الطرفان عام 2002 إلا أن التجميد لا يزال ساري المفعول.[32]

وعلى صعيد آخر فتشهد الحياة السياسية في إثيوبيا اضطرابات إثنية في عدد من الأقاليم نتيجة لممارسات نظام آبي أحمد من أجل إحكام سيطرته على البلاد وإسكات أي صوت معارض حتى وإن كان من داخل جماعته الإثنية (جماعة الأورمو) كما حدث في اغتيال المطرب والمعارضة هاشالو هونديسا، والذي برز دورة كمعارض سياسي قوي استخدم الغناء لإبراز حقوق جماعة الأورومو باعتبارها أكبر المجموعات الإثنية في إثيوبيا.

وقد جاءت عملية الاغتيال بعد مقابلة أجراها مع شبكة أوروميا الإعلامية والذي أدان فيها الأنظمة السابقة والقيادة الحالية لرئيس الوزراء آبي أحمد بسبب اعتقاله للصحفيين وحجبه للإنترنت وقمع المتظاهرين، وكذلك تقاعس الحكومة عن تقديم ضباط الشرطة المتهمين في قتل عشرات في الاحتجاجات المناهضة للحكومة إلى العدالة، مما دعا العديد  من منظمات حقوق الإنسان لاتهام قوات الأمن بتنفيذ عملية الاغتيال، ليزيد الضغوط على  حكومة آبي أحمد والتي تواجه احتجاجات في عدة أقاليم ومحاولات للانفصال وخطر تفكك الدولة.[33]

وختامًا

تقوم الديمقراطية الغربية على قواعد وسياسيات ملزمة يضعها ممثلون عن الشعب لتكون ملزمة لكافة عناصر النظام السياسي ومن يخالف تلك القواعد يكون عرضة للمساءلة، علاوة على ذلك يكون للأفراد داخل الديمقراطية الغربية الحق المطلق في التعبير عن أنفسهم وأفكارهم وآرائهم دون الخوف من التعرض للعقاب أو مصادرة حريتهم، بما في ذلك انتقاد الحكومة والنظام الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك حرية تكوين الأحزاب والمنظمات وجماعات المصالح من أجل الضغط  لتحقيق مصالح جميع أفراد الشعب .

ومن ناحية أخرى، تواجه القارة الأفريقية مشكلات كثيرة في تطبيق الديمقراطية الغربية؛ حيث تعاني أفريقيا من ضعف الأجهزة السياسية والاقتصادية الموجودة في الدولة ولذلك – ولكي تقوم الديمقراطية الأفريقية – لا بد أن تكون مختلفة جذريًا عن الديمقراطية الغربية؛ حيث تستمد الديمقراطية الأفريقية زخمها من الظروف الاقتصادية السائدة في الداخل، وكذلك للعديد من الأسباب الأخرى منها قيام الديمقراطية الليبرالية على حكم المواطن في اتخاذ القرارات الرئيسية ولا سيما في مجال الإصلاح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، بينما تكون في أفريقيا بمعزل عن المشاركة الشعبية، وكذا حكم الطبقة المهيمنة، وهي الطبقة الاقتصادية التي تسيطر على أجهزة الدولة، ويعملون على حماية مصالحهم وتقليل المخاطر التي تواجههم بغض النظر عن مصالح الشعب، وهو ما يصنع طبقة من الحكام المستبدين.

 وفي ذات السياق، لا تسمح الديمقراطية الغربية بتبني نماذج اقتصادية غير الرأسمالية وهو ما يجد صعوبة بالغة للتطبيق في قارة أفريقيا؛ حيث لا تزال تعتمد اقتصاديات أغلب دولها للتبعية في تصدير المواد الخام دون وجود قاعدة اقتصادية صناعية قوية، ونتيجة لحالة الضعف الاقتصادي والفقر المتردي للدول الأفريقية تآكلت الطبقة الوسطى التي تقود عملية التحول الديمقراطي في أفريقيا باعتبارها الأكثر ثقافة والأكثر قدرة على الاستهلاك لتحريك الاقتصاد الوطني.

 وعلى صعيد آخر فقد تحولت أغلب النظم السياسية في أفريقيا لنظام التعدد الحزبي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة نتيجة للضغوط الشديدة التي واجهتها من القوى الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ومؤسساتهم الاقتصادية (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي) دون وجود أساس قوي لعملية البناء الديمقراطي سالفة الذكر

وبتطبيق الشروط اللازمة لقيام الديمقراطية الغربية على واقع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية فى أفريقيا، يصبح من الصعوبة بمكان تطبيقها على أرض الواقع حيث تقوم الأحزاب السياسية على أساس أثنى ترتفع فيه الولاءات دون الوطنية على الولاء للوطن، فضلًا عما تعانيه تلك الأحزاب من ضعف التمويل وضعف البناء المؤسسي داخلها والتنافس والتشرذم الداخلي بحيث أصبحت من الضعف حتى إنها لا تستطيع مواجهة الأنظمة الحاكمة.

وأخيرًا تعمل أغلب الأنظمة الحاكمة في أفريقيا على ترسيخ الوضع الراهن إما بالقوة أو بالتلاعب بالديمقراطية من أجل إضفاء الشرعية اللازمة لاستمرارها في السلطة لأطول فترة ممكنة، وكذلك تسعى تلك الأنظمة إلى استغلال كل فرصة مواتية من أجل تأجيل العملية الانتخابية أو إلغائها كما حدث في السنوات الأخيرة؛ حيث شهد عام 2022، وبعد انحسار أزمة فيروس كورونا، تأجيل الانتخابات في العديد من الدول الأفريقية، والتي كان من المقرر لها أن تعقد خلال تلك الفترة، وقمع كل محاولات المطالبة بإقامتها بالعنف المعهود، أو استغلال نشاط الجماعات الإرهابية من أجل إلغاء الانتخابات بحجة مواجهة الإرهاب.


[1] The muddle of pyramid: Dynamics of the middle class in Africa, , Market Brief , AFDB chief Economist complex,  20 April 2011 at : www.afdb.org

[2] Henning Melber, ‘Somewhere above poor but below rich’: explorations into the species of the African middle class(es), in Henning Melber (ed.) The rise of Africa’s middle class Myths, realities and critical engagements , (London, zed Books , 2016) P.P 1- 3

[3] د. عبد الله الردادي، جريدة الشرق الأوسط على الرابط:

https://2u.pw/YR409qn

[4] د. إصلاح عبد الناصر عبد الرحمن، الطبقة الوسطى والمشاركة السياسية، في مجلة كلية الآداب (بني سويف، جامعة بني سويف، العدد 66، يناير – مارس 2023) ص 196 – 198 .

[5] صلاح الدين ياسين، نظام التعدد الحزبي، تعريفه وصوره ومزاياه وعيوبه ونماذجه .. على الرابط :

https://2u.pw/mbfmxC3

[6] نظام التعدد الحزبي على الرابط :

https://2u.pw/GZbIbgR

[7] الحرية الاقتصادية، الموسوعة السياسية على الرابط :

https://2u.pw/gm0KdCH

[8] Robert a. Lawson , Economic Freedom at: Economic Freedom – Econlib

[9] Ezra Solomon. Essential Principles at :
Economic Freedom: Essential Principles | Democracy Web

[10] د. ايمن يوسف ، د. عمر رحال، الفصل بين السلطات وسيادة القانون في النظام الديمقراطي، ( رام الله، مركز إعلام حقوق الإنسان والديقمراطية “شمس” ، 2010) ص 26.

[11] مجدوب عبد الحليم، مبدأ الفصل بين السلطات ودورة في حماية حقوق وحريات الأفراد، في مجلة دفاتر الحقوق والعلوم السياسية، (معهد الحقوق والعلوم السياسية، المركو الجامعي مغنية، المجلد 2، العدد1 ، 2022) ص 61 – 63.

[12]  Ian Vasquez, the central  role of Economic freedom in Democracy , in Issues of Democracy, (Washington D.c, December 2005) P. 8

[13] https://reliefweb.int/report/world/violence-african-elections

[14] آلاف البرونديين يتظاهرون ضد تقرير أممي ينتقد تعديلًا مرتقبًا للدستور في بوروندي على الرابط :

https://2u.pw/oiVu8kk

[15] الكونغو: قتلى في مظاهرات مناهضة للاستفتاء على  تعديل الدستور في فرانس 24 على الرابط :

https://2u.pw/AEWvoVW

[16] Michael Wahman, Edward Goldring, Pre-election violence and territorial control: Political dominance and subnational election violence in polarized African electoral systems, in Journal of Peace research ( New York, SAGE, Vol.57(1) , 2020)P.P. 94- 95

[17] د. حمدى عبد الرحمن حسن ، الاتجاهات الحديثة في دراسة النظم السياسية.. النظم الأفريقية نموذجًا (عمان، المركز العلمي للدرسات السياسية، الطبعة الأولى 2008 ) ص 7.

[18] د. حورية توفيق مجاهد، نظام الحزب الواحد في أفريقيا “نحو نظرة عامة”، في مجلة مصر المعاصرة        (القاهرة، الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع، مجلد 67، العدد 365 ، 1976) ص 156-157.

[19] محمد المختار، الأحزاب السياسية في أفريقيا: النشأة، التكوين، الواقع والمستقبل، في موقع قراءات أفريقية 9 مايو 2017 على الرابط :

https://2u.pw/dlWUDwR

[20] د. حمدي عبد الرحمن حسن، مرجع سبق ذكره، ص  8

[21] د. محمد فؤاد رشوان، أفريقيا والنظام الدولي بين الأحادية القطبية والقوى الدولية المتنافسة، المنضور بمركز فاروس للاستشارت والدراسات الاستراتيجية بتاريخ 22/ 6 / 2023 على الرابط :

[22] خليل العناني، عقد الانقلابات العسكرية في أفريقيا، موقع الجزيرة نت منشور بتاريخ 21/8/ 2023 على الرابط:

https://2u.pw/m2BGuQl

[23] صلاح خليل، تداعيات تجدد الصراع في أفريقيا الوسطى، في 28/ 3/ 2023 على الرابط :

[24] المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسيات، تفجر الصراع بين الجيش السوداني والدعم السريع .. الأسباب والتداعيات المحتملة على الرابط :

https://2u.pw/ygZJLUo

[25] John mw. Makumbe , Is There civil society in Africa? , in international Affairs (London, the Royal Institute of International Affairs in London, Vol. 74, Issue 2, 1998), P.P.,306- 307

[26] Larry Diamond,‘Prospects for democratic development in Africa’, paper presented to the University of Zimbabwe, Department of Political and Administrative Studies, Democratic Governance Project (Harare, March 1997),p.32

[27] https://2u.pw/BnHtyei

[28] Ntangsi Max Memfih, A Balance Sheet of Economic Development Experience since Independence, in Emmanuel Yenshu Vubo (editor) , Civil Society and the Search for Development Alternatives in Cameroon, (Dakar, Council for the Development of Social Science Research in Africa, 2008) P.P.37,38

[29] Oben timothy mbuagbo  and celestina neh fru, Civil society and democratization: the Cameroonian experience , in  journal of social development in Africa (Michigan, Michigan State University Library, VOL 18 NO 2 JULY 2003) P.P.,140-141

[30] معهد البحرين للتنمية السياسية ، سيادة القانون منشور بتاريخ 20 يونوي 2010 على الرابط:

https://www.bipd.org/publications/Articles/169153.aspx

[31] Abdulkader Saleh Mohammad and Kjetil Tronvoll , Eritrean opposition parties and civic Organisations (Oslo, norwegian peacebuilding resource centre, Expert Analysis , 2015) P.P., 1-2

[32] عبد القادر محمد علي: إريتريا الدولة المجمدة، في الخليج أون لاين:

http://alkhaleejonline.net/articles/1416747679402227100/

[33] Hachalu Hundessa, Ethiopian Singer and Activist, is Shot Dead, at :

https://www.nytimes.com/2020/06/30/world/africa/ethiopia-hachalu-hundessa-dead.html