حسام عيد – محلل اقتصادي
نادرًا ما نراهم، لكننا نحتاج إليهم للتواصل مع الآخرين، أو الانتقال من مكان إلى آخر، أو الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الكهرباء، وفي الواقع تشير التقديرات إلى أن كل واحد منا يستخدم أو يستهلك حوالي 40 ألف رطل من ما ينتجونه كل عام.
إنهم عمال المعادن والفلزات الذين يشكلون نسيج الأجزاء الأكثر أهمية في العصر الحديث، من أجهزة الكمبيوتر والهواتف الذكية إلى أجهزة التلفزيون والسيارات والبنى التحتية العابرة للحدود والقارات وناطحات السحاب.
كما أنهم عنصر حيوي لتكنولوجيات الطاقة المتجددة اللازمة للانتقال إلى مستقبل منخفض الكربون. على سبيل المثال، يوجد في توربين واحد بقوة 3 ميجاوات وحده 4.7 طن من النحاس و3 أطنان من الألومنيوم و335 طنًّا من الصلب و1200 طن من الخرسانة، أي ما يعادل وزن 300 من الأفيال مكتملة النمو “يافعة”.
وفي أفريقيا، يمكن أن تكون خرائط طرق التعدين المستدامة، والتي تعد فريدة من نوعها في العالم، مركزًا حيويًّا “لاستخراج” أفضل الفرص للتنمية، عبر بلد واحد ومنجم واحد في وقت واحد، وفقًا لـ”ريكاردو بوليتي”، المدير العالمي للطاقة والصناعات الاستخراجية والمدير الإقليمي للبنية التحتية في أفريقيا بالبنك الدولي.
فالإمكانات متوافرة والبيئة مهيأة لخلق قطاع تعدين مزدهر بكافة أنحاء أفريقيا، ويتهافت عليه مستثمرو العالم، تكون ركيزته العمال؛ فهم وقود النمو والريادة التنافسية، وأيضًا هم طريق الحكومات نحو التعدين الذكي صديق البيئة والمراعي للمناخ.
نمو الطلب العالمي
ويزداد الطلب على استخراج المعادن المهمة ومعالجتها بوتيرة هائلة؛ ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الزيادة في عدد سكان العالم الذي من المتوقع أن يصل إلى 9 مليارات بحلول عام 2030 – بما في ذلك 3 مليارات مستهلك جديد من الطبقة المتوسطة.
ووفقًا لتوقعات البنك الدولي، سيحتاج العالم في غضون 25 عامًا إلى 550 مليون طن من النحاس، وهذا يعني أن آخر 5000 سنة من الإنتاج العالمي ستغطي بالكاد الـ25 سنة القادمة من الطلب.
كما تعود الزيادة السريعة في الطلب على المعادن، أيضًا، إلى تغير المناخ، الذي يستدعي تحولًا وشيكًا إلى طاقة نظيفة.
ومن الجدير بالذكر أن سوق البطاريات العالمي، الذي يسمح بتخزين طاقة الرياح والطاقة الشمسية ويمكنه تزويد الناس بالطاقة النظيفة وبأسعار معقولة وعلى مدار الساعة، من المتوقع أن ينمو من حوالي 65 مليار دولار إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2025.
أفريقيا مورد حيوي متجدد
القارة الأفريقية، وبمواردها الهائلة من المعادن الحيوية، يمكنها أن تتأثر وتتفاعل بعمق مع هذا الطلب غير المسبوق.
ولضمان أن تكون التأثيرات مفيدة وتتحول إلى فرص حقيقية للنمو، يتعين على الحكومات والقطاع الخاص وغيرهم من اللاعبين الرئيسيين العمل سويًا لتبني ممارسات التعدين المستدامة – بما في ذلك إعادة تدوير وإعادة استخدام المعادن والفلزات طوال العملية.
ومن وجهة نظر بيئية، يجب التركيز على استخدام الطاقة النظيفة في عمليات التعدين، وهو أمر بالغ الأهمية لنقل الطاقة، مع تقليل استخدام المياه والابتكار في إدارة النفايات وتقليل فقد الغابات إلى أدنى حد.
أما على المستوى الاجتماعي، من المهم ضمان استشارة المجتمعات المحلية والحفاظ على حمايتها والاستفادة من عمليات التعدين.
وقد يكون استمرار العمل كالمعتاد ضارًّا بالاقتصاديات المحلية التي تزود هذه المعادن، مما يؤدي إلى آثار سلبية شديدة على الأشخاص والبيئة.
بيئة تعدين مستدامة
يشبه بناء قطاع تعدين قوي ومحكوم بشكل جيد بناء منزل، لذلك يجب أن يتم البدء بأساس قوي، في شكل إطار قانوني وتنظيمي وتعاقدي.
فيما يتكون هيكل المنزل من رموز التعدين، القوانين، القواعد، مع هيئة حكومية جيدة لإدارة الموارد ولتقوية وتشجيع عمال التعدين.
بالإضافة، إلى عمل سقف قوي يحمي البلاد من العناصر الخارجية والتهديدات، يحمي الأشخاص الذين قد يتأثرون سلبًا بأنشطة التعدين، مثل السكان الأصليين والنساء والأطفال؛ ويحمي البيئة، لضمان إجراء التعدين على نحو مستدام قدر الإمكان.
التعدين الذكي للمناخ
ويساعد البنك الدولي، صاحب تاريخ العمل الطويل مع كل دولة تعدين أفريقية، الحكومات في بناء هذا “البيت” الصلب لقطاع التعدين، من أجل مستقبل مزدهر لهذا القطاع بالمستقبل.
عبر تقدم التمويل والمساعدة في خلق بيئة حوكمة جيدة من خلال تقوية المؤسسات وتعزيز الشفافية وتنفيذ قوانين قوية تمهد الطريق للتعدين “الذكي للمناخ” وسلاسل التوريد “الخضراء”.
على سبيل المثال، في غينيا، دعم البنك الدولي، الحكومة بإصلاحات في قطاع التعدين – خاصة حول كيفية التعامل مع القطاع الخاص وتعزيز الفوائد للمجتمعات المحلية – التي ساهمت في نهاية المطاف في جذب 4 مليارات دولار من الاستثمار في التعدين وجعل البلاد ثالث أكبر دولة في العالم منتج للبوكسيت.
وهناك مشاريع مماثلة للبنك الدولي في جميع أنحاء أفريقيا، من مدغشقر إلى بوركينا فاسو، مالي، نيجيريا، الكاميرون وتوجو، حيث يساعد تلك البلدان على جذب الاستثمارات وإدارتها بطريقة مسؤولة مع تحقيق فوائد اجتماعية دائمة.
“سيماندو” يتحرك إلى الأمام
واليوم في غينيا، يجري أكبر تطور حديث في قطاع التعدين الأفريقي، في نصف مستودع سيماندو Simandou للحديد العملاق، وهو أكبر مورد غير مستغل، للحديد الخام في العالم مع احتياطيات تقدر بأكثر من ملياري طن.
وللمرة الأولى على مدار سنوات، ربما يتم تطوير مشروعات مثل “سيماندو” التي تعد من أغنى المناطق بخام الحديد في غينيا.
وبالطبع، سيكون لذلك تداعيات إيجابية على كل من صناعة خام الحديد العالمية وأيضًا على غينيا التي تواجه عدم يقين سياسي في ظل سعي الرئيس “ألفا كوندي” للفوز بولاية ثالثة.
في نفس الوقت، هناك قلق من تباطؤ الطلب على صناعة الصلب، لكنّ خام الحديد ذا الجودة العالية في غينيا سوف يجذب مختلف جهات التعدين لضخ استثمارات والإنتاج بشكل وفير.
وبدأت المناطق الغينية في جذب مستثمرين من أسماء شهيرة عالميًّا في صناعة التعدين مثل الملياردير الأمريكي “روبرت فرايدلاند” والجنوب الأفريقي “ميك ديفيز”.
بينما لا يقتصر الأمر فقط على خام الحديد، بل هناك العديد من أنشطة التعدين الواعدة في دول أفريقيا كالنحاس والليثيوم والبلاديوم والتي تستهلك بكثافة من قبل صناعة السيارات الكهربائية.
كشفت بيانات عن ارتفاع حجم الإيرادات التي حققتها روسيا من التجارة مع أفريقيا إلى الضعف متجاوزة عشرين مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية، لكنها تظل نسبة ضعيفة مقارنة بحجم التجارة مع الاتحاد الأوروبي المقدرة بـ300 مليار دولار و60 مليار دولار مع الولايات المتحدة عام 2018.
وختامًا يمكن القول: إن الاستغلال العادل والأفضل للموارد المعدنية هو ركيزة رئيسية لتعزيز نمو وتنمية اجتماعية واقتصادية مستدامة واسعة النطاق.
وعبر رفع الاستثمارات في رأس المال البشري، وزيادة كثافة المهارات لعمال التعدين وتمكينهم بصورة أكبر فعالية، عبر ضمانات وفوائد اجتماعية دائمة، ستنتعش آمال قطاع التعدين، ومن ثم سيتحول إلى عامل تمكين تاريخي للتقدم في أفريقيا بالمستقبل القريب.