كتب – أحمد عادل
باحث متخصص في شئون الدفاع والأمن
أفريقيا قارة محورية، تمتلك نظريًّا الأسس التي تستطيع من خلالها تحقيق الرفاهية والأمان لشعوبها، وذلك بصلابة ما يمكن أن نطلق عليه “أركان الارتكاز للقارة الأفريقية” المتمثلة في أربع دول رئيسية وهم: مصر التي تمثل الارتكاز الشمالي للقارة والتي تمتد في بعض الأحيان بقوتها الكامنة لعمق القارة، وجنوب أفريقيا محور ارتكاز الكتلة الجنوبية للقارة، ونيجيريا الارتكاز الغربي، وإثيوبيا ارتكاز القرن الإفريقي، . تلك القوى الأربع تمثل بثِقلها السكاني بالأساس مدفوعة بقدراتها الاقتصادية وجذورها الحضارية أركان الاتزان الأربع لحدود القارة.
وهنا سنجد أن انعكاسات سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في دول القارة، قد أثر بشكل مباشر على بناء جيوش وطنية قادرة على حماية أمن تلك الدول ومقدراتها من أي تهديدات، تلك الجيوش وعلى الرغم من توافر المقومات لدى بعض بلدانها سواء الإمكانيات الاقتصادية والبشرية التي تمكنها من أن تصبح قوة مؤثرة في محيطها مثل نيجيريا وإثيوبيا، لم تستطع أن تصل إلى تلك المؤسسية التراكمية التي تصل في النهاية لهيكل قوة متكامل يؤدي دوره بكفاءة في صون مقدراتها، ومساعدة جوارها الإقليمي في الأزمات والصراعات المتعددة والممتدة، وقد نرى بأن الاستثناء من ذلك يتمثل في كل من مصر والجزائر اللتان استطاعتا لعقود أن ترسخا لقوات مسلحة احترافية لديها كافة عناصر القوة القتالية التي تمكنها من تنفيذ مهامها بشكل متكامل ومنظم بشكل منفرد أو بالتعاون مع جيوش مجاورة أو صديقة.
لذا فإن الناتج الطبيعي هو بيئة خصبة للغاية لتوطن التنظيمات الإرهابية بشكل واسع في مختلف القارة الأفريقية وتحديدا في المحيط الاستراتيجي لدول الارتكاز إن لم يكن بداخلها، مصحوبا بتوغل تنظيم داعش في القارة وصراعه مع أفرع تنظيم القاعدة والتنظيمات المتشددة الأخرى سعيا منه للانفراد بالنفوذ الأوحد في أفريقيا، وهذا ما أدى لأن أصبح النشاط الإرهابي معقدا للغاية من حيث نمطه وانتشاره وسيولته بين بعض حدود دول القارة ضعيفة القدرات الأمنية والعسكرية، ما أدى لعدم قدرة تلك الدول ومن خلفها الحلفاء الدوليين العاملين منذ سنوات على محاربة الإرهاب بتلك المناطق، والسيطرة وحصر تلك النشاطات الإرهابية، وهو ما ترتب عليه استشراء تلك الحركات وأنشطتها في دول كانت قد انتهت من وجود تلك التنظيمات.. ويمثل الإرهاب خطرا على ارتكازات القارة كلها كالتالي:
- ارتكاز شمال أفريقيا:
شهدت منطقة ارتكاز الشمال تهديدات غير مسبوقة ولم تشهدها حتى الآن باقي الارتكازات من حيث عدد الهجمات الإرهابية التي استهدفت مصر عبر الاتجاهات الاستراتيجية المختلفة سواء في شمال سيناء أو الحدود الليبية المصرية أو الحدود السودانية المصرية، إذ إن ذروة هذه التهديدات شملت عمليات استهداف طائرات ومركبات ومؤسسات لكن التعامل الحاسم في التصدي لهذه التهديدات دحر هذه التنظيمات بنسبة كبيرة.
- ارتكاز القرن الأفريقي:
شهدت هذه المنطقة الهامة خلال العقدين الماضيين تحركًا متفاوتًا من قبل تنظيم القاعدة خاصة في شرق إفريقيا، سواء من حيث محاولة الارتكاز أو النشاط بأعمال تستهدف مصالح غربية بشكل رئيسي، إلى جانب جماعات متشددة محلية ارتبطت بعد ذلك بتنظيمات إرهابية دولية مثل حركة الشباب المجاهدين الصومالية التي بايعت تنظيم القاعدة، فضلا عن سوء الإدارة في دولة هامة مثل إثيوبيا واشتعال الصراع العرقي هناك ما أدى إلى عدم الاستقرار.
- ارتكاز غرب أفريقيا:
لا تزال دول الساحل والصحراء تعاني من ويلات الإرهاب -على اختلاف تنظيماته- والتي برز فيها مؤخرا تنظيم داعش الذي اشتد عوده هناك بعد مبايعة حركة بوكو حرام الإرهابية له، والتي استنزفت نيجيريا ودول الجوار بهجمات كارثية، وهذا بدوره أثر على قدرات تلك الدول الهشة ودفعها للاستعانة بحلفاء مثل دول الساحل والصحراء والتدخل الفرنسي في محاولة لكبح جماح الجماعات الإرهابية في تلك الدول خاصة بعد الخسائر الفادحة في جيوش تلك الدول بعد الهجمات الدامية في دلتا النيجر وبوركينا فاسو ومالي.
- ارتكاز الجنوب:
منذ العام 2017 تشهد مقاطعة كابو ديلغادو شمال موزمبيق الواقعة شمال دولة جنوب إفريقيا، تمردا إرهابيا تسبب في نزوح وتشريد مئات الآلاف من السكان المحليين، وتعد هذه المنطقة غنية بالغاز الطبيعي، ومع تتابع الهجمات وصل عدد النازحين ما يقارب 830 ألفا، ما استدعى تدخل دول مثل الولايات المتحدة وأوروبا لمحاولة تدريب جيش موزمبيق على مواجهة هذا الخطر غير المسبوق.
- ميزان القوى الجوية في مكافحة الإرهاب في القارة
سنتناول بشكل خاص ميزان القوى لأحد الأفرع الرئيسية لجيوش القارة الإفريقية وهو سلاح الجو، والذي يعتبر قوة ضاربة وسريعة الاستجابة، سنركز فيه بالأساس على عنصرين فقط من عناصر القوة القتالية التي تؤثر على مسرح العمليات، وهما:
- عنصر الطائرات المقاتلة التي تمثل القوة الضاربة لأي سلاح جو، لما لها من سرعة استجابة وقوة تدميرية.
- عنصر طائرات التدريب المتقدم التي تتميز بنفس عناصر القوة للطائرات المقاتلة إلا أنها تعتبر فئة أقل في السرعة والقوة التدميرية لما لمهامها من حدود في هذا الإطار.
وطبقا للتقرير السنوي لـ”Military Balance 2020″ الذي يستعرض العتاد العسكري لجيوش العالم. والذي يعد أيضا أحد أهم مصادر المعلومات في هذا المجال فإن القدرات الجوية الإفريقية كالتالي:
من هذا البيان يتضح لنا الإمكانيات العددية الضعيفة لأسلحة جو القارة الإفريقية باستثناء مصر والجزائر، ورغم كونه معيارا غير دقيق لتقييم القدرات إذ أن معدلات الاحتساب المذكورة تعتمد على رصد المشتريات فقط، دون احتساب نسب الخسائر أو نسب الصلاحية الفنية للطائرات، والتي تتوقف على انتظام معدلات إمدادات قطع الغيار وكفاءة الأطقم الفنية للحفاظ على معايير الصيانة الدورية لكافة الطرازات، والتي تقلص أعداد المقاتلات بنسب تتراوح ما بين 10:40% على الأقل حسب أنواع الطرازات وعمرها العملياتي.
والتي تنعكس بشكل مباشر على ساعات الطيران التدريبية المؤثرة في كفاءة سلاح الجو، ومن زاوية أخرى؛ تبرهن هذه الأعداد على قلة عدد الأسراب القتالية بتلك الدول، تلك الأسراب التي يتكون كل منها (كمتوسط) من 20طائرة قتال من نفس الطراز، مما سيسفر في النهاية من إجمالي عدد دول القارة ال54 بأن هناك فقط 8 دول لديها عدد طائرات مقاتلة تتجاوز في إجماليها الـ20 طائرة (السودان – جنوب أفريقيا – كينيا – إثيوبيا – أنجولا – المغرب – مصر – الجزائر)، متضمنة في أغلب الأحيان لأكثر من طراز، مما يحد مرة أخرى من قدرات العدد المرصود بالتقرير.
وتنطبق هذه المبادئ بشكل كبير على طائرات التدريب المتقدم، لذا سنجد بأن الدول المتوافر لديها تلك الأسراب اللازمة لا تتجاوز 5 دول فقط ( زامبيا – جنوب أفريقيا – نيجيريا – مصر – الجزائر) والتي قد تضاف عليها تجهيزات لتلك الطائرات بالمعدات المساعدة لتنفيذ ضربات جوية دقيقة، مثل حواضن التهديف، واستخدام القنابل الموجهة الحديثة، كل ذلك دون الوضع في الحسبان حجم القواعد الجوية وانتشارها والتي تساهم في زيادة مديات عمل الطائرات وفاعليتها، إلى جانب توافر إمكانيات التزود بالوقود في الجو سواء من طائرات تزود بالوقود متخصصة، أو إمكانيات متوفرة في الطائرات المقاتلة لإمداد بعضها البعض بالوقود في المهام بعيدة المدى، وهى إمكانيات ليست متوفرة إلا في سلاحي جو فقط هما المصري والجزائري .
وبناء على ما رُصد؛ فإن ميزان القوى الجوية في القارة الأفريقية لا توجد به أسلحة جو تستطيع تلبية متطلبات مهام مكافحة النشاطات الإرهابية بشكل عام، ويستثنى من ذلك سلاح الجو المصري الذي تعامل بكفاءة ومهنية عالية مع التهديدات التي شهدتها مصر في أشد حالاتها خطورة في ثلاث اتجاهات استراتيجية (شمال سيناء – الحدود الليبية – الحدود السودانية)، ثم سلاح الجو الجزائري الذي لم يشهد حتى الآن حجم تحديات يستدعي مشاركة واسعة.
لذا فإن أغلب دول الارتكاز تشهد ضعفًا شديدًا في قدراتها الجوية، إذ لم يكن لسلاح الجو الإثيوبي دورًا يذكر في الأعمال العسكرية التي شهدها الداخل الإثيوبي، كما هو الحال لسلاح الجو النيجيري الذي بالرغم من انتشار التنظيمات الإرهابية على أراضيه وفي دول جواره، لم يؤدي دورًا يرقى لحجم الدولة ومواردها، وأخيرًا فإن جنوب أفريقيا التي تمتلك سلاح جو صغير للغاية رغم حداثة مقاتلاته ليست مؤهلة بعد للتهديدات المتاخمة لحدودها في موزمبيق.
ومع ذلك فإن إمكانيات أسلحة الجو الأفريقية تستطيع أن تنشئ منظومة عمل متكاملة، مصر والجزائر هما الأكثر استعدادًا، ولكن يجب إيجاد نقاط ربط جغرافي أخرى تستطيع تفعيل القدرات القتالية للقوى الجوية الإفريقية المؤهلة وذلك لمجابهة الأنشطة الإرهابية المنتشرة جغرافيًا في الارتكاز الغربي “الساحل والصحراء” والارتكاز الشرقي “القرن الإفريقي” والارتكاز الجنوبي “جنوب أفريقيا”.
وتوظيفًا للموارد الجوية القتالية المتاحة، فمن الممكن أن تكون أسلحة الجو السودانية والكينية والأنجولية والنيجيرية والزامبية، نقاط ربط وتعاون تساهم في إيصال قدرات أسلحة الجو القوية أفريقيًا (مصر- الجزائر)، وذلك من خلال البنية التحتية من مطارات وقواعد جوية تساهم في إطالة مدى عمل المقاتلات بشكل رئيسي، لتنفيذ مجهود جوي يستطيع تحجيم تحركات التنظيمات الإرهابية، أو على أقل تقدير تؤثر بشكل كبير على البنية التحتية لتلك التنظيمات، ما يساهم مباشرة في إضعاف تحركاتها وأعمالها الكبيرة التي تشهدها بقاع عديدة من القارة الأفريقية، وذلك بالتنسيق المشترك بين أسلحة جو المذكورة لتشكيل بنية تحتية جوية غير نمطية، يمكن من خلالها تنفيذ مهام جوية بالتعاون مع الأجهزة الأمنية لتلك الدول، والتنسيق المتبادل اللازم مع القوى الدولية التي لديها تواجد مؤثر في القارة الأفريقية مثل الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والصين وروسيا وألمانيا وإيطاليا.
إلى جانب ذلك؛ فإن التوسع في توظيف الطائرات بدون طيار المسلحة يمكن أن يساهم بشكل إضافي في الحد من النشاطات الإرهابية، إذ أن هناك أربع دول فقط تمتلك تلك النوعية من الطائرات (مصر – الجزائر – السودان – نيجيريا) وجميعها صينية المنشأ، تتراوح طرازاتها ما بين CH-3 / CH-4/WING LONG-2، وجميعها تسلح بصواريخ جو-أرض وتستطيع البقاء في الجو لمدد تصل إلى 20 ساعة لأفضل نسخهم الموجودة بسلاح الجو المصري WING LONG-2، التي أثبتت كفائتها في مهام مكافحة الإرهاب خاصة في مسرح العمليات الخاص بالجيش المصري. وعلى الرغم من مميزاتها إلا أنها لديها عيب قاتل يمنعها من العمل من خارج مطارات/ أراضي هبوط الخاصة بها، ذلك لارتباطها بمحطات السيطرة اللازمة لتشغيلها، لذا فإن الاستفادة الفعالة في المستقبل من هذه النوعية من الطائرات تستلزم توافر ثلاث عوامل رئيسية:
- زيادة أعداد تلك الطائرات بشكل مضاعف على الأقل لضمان استمرارية العمل والتغطية الجغرافية.
- وجوب نشر محطات لتلك الطائرات على الأقل بمطارات دولتين من كل ارتكاز إقليمي تم ذكره سابقًا.
- بناء مركز قيادة وسيطرة لكل ارتكاز إقليمي مربوط بكافة أجهزة الأمن وقيادات القوات البرية العاملة في مهام مكافحة الإرهاب لضمان التوظيف الأمثل لقدرات تلك الطائرات، وأيضًا لتقليل حجم الخسائر المدنية.
ختاما.. يوضح العرض السابق أهمية سلاح الجو في حفظ أمن القارة الأفريقية، إلا أنه لا يزال أمام دول القارة الكثير لتقوية سلاحها الجوي واستخدامه كسلاح في ردع ومواجهة تحركات الجماعات الإرهابية التي تسعى إلى زعزعة أمن أفريقيا.