كتبت – أماني ربيع
النضال من أجل المبادئ والأفكار لا يكون فقط بالهتاف عبر مكبرات الصوت في المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية، أو بالخطابات الرنانة بالمؤتمرات الدولية، يمكن للأدب والفن أيضًا أن يكونا لسانًا لفكرة نبيلة أو صرخة احتجاج في وجه الظلم، ولهذا النوع ينتمي إبداع الفنان الأمريكي من أصل أفريقي كيهايند وايلي، الذي لم يقم بتدجين ريشته، بل جعلها مرآة لجرأته في اتخاذ موقف شجاع يغير من خلاله الطريقة التي يُنظر بها إلى الأمريكيين من أصل أفريقي، فيبدون بلوحاته بشكل جديد مختلف عما اعتاده العالم.
حارب وايلي، المقيم بنيويورك، من خلال بورتريهاته ذات الألوان المشرقة المفعمة بالحيوية أيقونات رسامي أوروبا الكلاسيكية التي تبقى هي فيها النبلاء والأرستقراطيون خلالها بثرواتهم وجواهرهم ومظهرهم البراق بينما يقفون على تلال من دماء الأفارقة الذين استرقوهم واستعمروا بلادهم ونهبوا خيراتها.
أخذ الفنان وجوهًا لشباب وفتيات واجهوا العنصرية بشكل يومي بجلدهم الأسمر اللامع في شارع هارلم وفي أنحاء نيويورك ونيوأورلينز، وعبر مختلف ولايات أمريكا، وجوها عادية لأشخاص عاديين جدا قد تصادفهم كل يوم دون أن تنتبه إليهم ووضعهم مكان النبلاء البيض في المكان الذي يرى أنهم يستحقون.
رسم لهم لوحات ضخمة في أوضاع بطولية مستوحاة من بورتريهات عظماء الماضي، كانعكاس ساحر على علاقة العرق بالقوة في مجتمعات اليوم، وبدأ يمزج لقطات هؤلاء الشباب وأعاد مزجها في لوحات تاريخية شهيرة تشبه أنماط الفن الكلاسيكي مثل الروكوكو الذي اشتهر في فرنسا، منح الفتيات التي ينبعث الأسى من عيونهن فساتينا جميلة وإطلالات أشبه بالأميرات، وظهر الشباب كالملوك حتى لو كانوا يرتدون الأحذية الرياضية، وأغطية رأس وقبعات بيسبول، وإكسسوارات مرتبطة بثقافة الهيب هوب.
تذهل لوحاته العين بتفاصيلها المعقدة المشبعة بالألوان، والتي تلفت الانتباه إلى غياب الأمريكيين الأفارقة عن التاريخ الثقافي في أوروبا وأمريكا رغم أنهم كانوا يعيشون ضمن هذه المجتمعات.
وعبر مزيجه المدهش أصبح واحدًا من أهم الفنانين في الوقت الحالي، وأعماله ضيفة دائمة في المتاحف الكبرى.
كيهايند وايلي ليس فنان شارع، فقد درس بجامعة ” Yale – يال” العريقة، ورغم ذلك لم يستخدم إبداعه للاندماج في مجتمع الفن السائد، لم يحاول أن يكون مقلدًا أو أن ينتج أعمالًا ثانوية، بل سعى لابتكار أعمال كبرى، عندما تراها تعرف أنه صاحبها، وبالفعل نجح في ابتكار علامة تجارية بصرية فائقة النجاح، رغم حداثتها، إلى الحد الذي دفع الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما لاختياره من أجل أن يرسم له بورتريهًا من توقيعه لتصبح أول مرة في التاريخ يرسم فيها فنان أسمر رئيسًا أمريكيًّا، واختارت زوجته ميشيل أيضًا فنانة بالتيمور إيمي شيرالد، المشهورة أيضًا بتصويرها للأمريكيين الأفارقة لرسم لوحة لها.
منذ عام 2001 ، قام بإدخال الأفراد السود في التاريخ الأبيض، ووضعهم في أوضاع مستمدة من عصر النهضة واللوحات الرئيسية القديمة للقديسين والملوك والأباطرة والقادة العسكريين، وعادة ما يكون لهذه الأعمال عناوين متطابقة أو مشابهة لمصادرها، من بينها “نابليون يقود الجيش فوق جبال الألب” و”العقيد بلاتوف على شاحنة”، ما يخلق إحساسًا رائعًا بأن نسخة الفنان العصرية عن هذه اللوحات طبيعية تمامًا، واستفزازية كذلك، بحيث يمكن أن تحبها أو تكرهها لكن بالتأكيد لن يمكنك تجاهلها، بغض النظر عن عرقك أو عقيدتك أو لونك.
تحول هذا الأمر إلى مشروع أطلق عليه وايلي Wiley’s World Stage بدأه عام 2006، كانت البداية في هارلم، حيث أنتج عشرات من الصور المشرقة المليئة برجال ونساء سود واثقين وأحيانًا متحمسين، ثم بدأ بعد ذلك في توسيع نطاق عمله لأماكن أخرى بأفريقيا والبرازيل وجامايكا وهايتي.
وبحسب نيويورك تايمز حاول وايلي أن يخلق حالة من المشاركة مع أبطال لوحاته، فمشروعه بدأ خلال تجوله بالشارع حيث كان يبادر بدعوة أي غريب يصادفه للجلوس أمامه والتقاط بعض الصور له، ويطلب من الموديل اختيار لوحة من كتاب ليعيد تمثيله من خلالها، وبهذا يمنح أبطاله قدرًا من التحكم بالطريقة التي يتم تصويرهم ورسمهم بها.
مثلًا في لوحة في “الفروسية للملك فيليب الثاني”، استنادًا إلى لوحة بيتر بول روبنز، التي رسمها عام 2009، نجد في نسخة وايلي الذى يغمر وجه نجم البوب مايكل جاكسون الذي اختاره بطلًا للوحة، والذي توفي في ذلك العام، بينما جسده مغطى بالدروع الملكية الفخمة.
أغلب أعماله تأتي ضخمة مثل اللوحات الإعلانية، ألوانها زاهية وفاقعة تشبه الطابع الأفريقي المزخرف المليء بالحيوية، الوجوه تذكرنا بالكمال الهادئ لأعمال عصر النهضة، مع إحساس معاصر.
يُدرج النقاد وايلي ضمن فناني البوب أرت، أو فن البوب الشهير، ويعتبرونه مزيجًا من آندي وارهول، أحد رواد هذا الفن، ونورمان روكويل وجيف كونز.
مثل وارهول، يقدم وايلي لوحات مدهشة لمعاصريه، ومثل روكويل يرفع مستوى الأمريكيين العاديين عبر تصوير أكثر إثارة للاهتمام كصور أكثر من كونه عمل فني، ومثل كونز في أنه يقدم فنًّا عامًّا، يصل إلى الكثيرين ويثير التساؤلات حول دور الفنان بالمجتمع.
ولد وايلي في لوس أنجلس عام 1977، ونشأ وهو يرى إلى اللوحات والنحت القديمة في مكتبة هنتنجتون في سان مارينو بكاليفورنيا، درس بمعهد سان فرانسيسكو للفنون عام 1999 ونال ماجستير في إدارة الأعمال من جامعة يال عام 2001 ، بعد ذلك أنشأ الاستوديو الخاص به في هارلم، وفي أحد الأيام، بينما يسير في الشارع التقط قطعة ورق عليها صورة لشاب أسود، يبدو أنها كانت لقطة سرية أخذتها الشرطة لمشتبه به، وبالنظر إلى الصورة واللوحة التي أخذت عنها عام 2006، يمكننا أن نرى لماذا أصبحت براءة ونبل هذا الوجه الشاب محفزا لعمله اللاحق.
كتب سيمون كيلي المنسق لمعرض لوحات وايلي بمتحف سانت لويس للفنون عام 2018 عنه قائلا: ” “تشجعنا لوحات وايلي الطموحة من الناحية المفاهيمية على التشكيك في نظريات الهيمنة والاستغلال بخطابات الإمبراطورية والأمة والدولة والمدينة، وإعادة ترسيخ الشعور بالسلطة في أيدي أولئك المهمشين تاريخياً، الذين يمنحوننا الأمل في التغيير، وكما يقول المصطلح الذي استخدمه منظّر ما بعد الاستعمار الشهير، جاياتري سبيفاك، يعيدون القوة إلى “التابع”، وبالتركيز على السكان الأمريكيين من أصل أفريقي، يقدم وايلي رسالة مفادها أن الفن يمكن أن يلعب دورًا مهمًا في تعويض المظالم التاريخية والتشجيع المزيد من الشمولية في المستقبل”.