بقلم د. نرمين توفيق
المنسق العام لمركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية
كتبت د. نرمين توفيق الباحثة في شئون الحركات المتطرفة مقالا بصحيفة« النهار» اللبنانية سلط الضوء على تداعيات الأزمة السياسية في مالي جاء فيه :
شهدت مالي يوم الثامن عشر من أغسطس انقلابا ناعما على الرئيس أبوبكر كيتا، قام به مجموعة من الجيش في شكل تمرد عسكري انتهى باحتجاز الرئيس وابنه ورئيس وزرائه وعدد من أعضاء حكومته في معسكر كاتي الذي يبعد 15 كم عن العاصمة باماكو، وأعقب ذلك ظهور الرئيس كيتا على شاشات التلفاز في خطاب قصير وقدم استقالته، موضحا أنه لم يرغب أن تسفك الدماء من أجل بقائه في السلطة.
وأعلن قادة التمرد عن تشكيل «اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب المالي»، وأوضحوا أنهم يعتزمون إنشاء حكومة مدنية انتقالية وإجراء انتخابات جديدة، وقدموا الدعوة إلى منظمات المجتمع المدني والحركات السياسية الاجتماعية للانضمام إليهم من أجل تهيئة أفضل الظروف لانتقال سياسي مدني ديمقراطي يقود إلى إجراء انتخابات عامة عبر خارطة طريق تضع الأسس لمالي جديدة.
وكانت مالي قد مرت في الأشهر الأخيرة بحالة من عدم الاستقرار، على إثر الحراك الشعبي الذي حدث بها وقاده الشيخ محمود ديكو، حيث خرج المواطنون في مظاهرات يطالبون برحيل الرئيس كيتا وحكومته بسبب انتشار الفساد في البلاد والخلافات حول الانتخابات التشريعية، وسوء إدارة الاقتصاد خصوصا مع أزمة كورونا التي اتهمت فيها المعارضة عناصر من المسئولين الحكوميين باستيلائهم على المساعدات الخاصة بكورونا، والتي كان من المفترض أن يتم صرفها على القطاع الصحي وتخفيف آثار كورونا الاقتصادية عن كاهل المواطنين .
وقد أدان الاتحاد الأفريقي الانقلاب في مالي، ودعا إلى اطلاق سراح المتحجزين، وعلق عضوية مالي به وفقا للقواعد المتبعة في الاتحاد الأفريقي مع أي انتقال غير دستوري للسلطة، كما اعترضت الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) على الانقلاب، وقررت دول المجموعة غلق حدودها مع مالي، وتعليق كافة عمليات دخول الأموال إلى هناك حتى تعود الأمور إلى نصابها، وخوفا من عدوى انتقال الانقلابات العسكرية إلى دول غرب أفريقيا التي عانت من تجارب مماثلة، وعلى المستوى الدولي فقد أدانت الأمم المتحدة الانقلاب ودعت إلى الافراج الفوري عن المحتجزين كي لا تنجر البلاد إلى الفوضى.
شمال مالي وإشكالية انتشار الحركات المتطرفة
على الرغم من ان انقلاب مالي يعتبر حتى الآن انقلابا سلميا، حيث لم ينجم عنه ضحايا، فإن المشهد في مالي لا يزال ضبابيا، خوفا من تكرار سيناريو انقلاب 2012 في مالي، فليس هذا هو الانقلاب الأول الذي تمر به البلاد، فقد تعرض الرئيس أمادو توماني توري إلى انقلاب عسكري أطاح به، وكان هذا الانقلاب سببا في تغول الجماعات الإرهابية وسيطرتها على شمال مالي، والاتجاه في نفس العام للسيطرة على العاصمة باماكو.
وقد عانت مالي من الاضطرابات في منطقة الشمال، التي يسكنها الطوراق، فكثيرا ما اتهموا الحكومة بإهمال تنمية شمال مالي لمصلحة الجنوب، وسعوا إلى الانفصال عن الدولة، ويمثل ذلك حركة تحرير الأزواد، غير أن الأمر تطور من حركات انفصالية إلى حركات إرهابية، فقد استغلت الجماعات المتطرفة الطبيعة الجغرافية لمنطقة شمال مالي بما تحتويه من صحراء وجبال للانتشار بها، وهذا ما جعلها منطقة مثالية لانتشار فرع القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وخصوصا لقرب مالي من الجزائر وموريتانيا التي يتنشر بها تنظيم القاعدة وقادته وعلى رأسهم الإرهابي الشهير مختار بلمختار.
وبعد 2011 وانقلاب 2012 أخذ انتشار الحركات المتطرفة في مالي طابعا أخرا، فلم يعد يقتصر على التنظيمات الخارجية كالقاعدة، وإنما ظهر في شمال مالي تنظيمات متطرفة محلية تكونت من أشخاص يحملون الجنسية المالية، و في مقدمتهم تنظيم “أنصار الدين” الذي أسسه إياد أغ غالي وهو ينتمي إلى الطوراق، وأعلن نيته في عدم الانفصال عن مالي وإنما السعي إلى فرض الشريعة الإسلامية بها من شمالها لجنوبها والسيطرة على العاصمة باماكو، وقامت هذه الحركة في 2012 بهدم الأضرحة في مدينة تمبكتو الأثرية التي أدرجتها اليونسكو على لائحة التراث العالمي.
ومن الحركات الإرهابية التي تتواجد في شمال مالي “حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا”، وأعلنت عن نشأتها في 2013 ورفعت السلاح ضد الدولة وضد القوات الفرنسية الموجودة على أراضي مالي ضمن عملية سرفال وعملية برخان، لكنها انضمت بعد ذلك إلى حركة “الموقعون بالدم” وأطلقت على نفسيهما اسم “كتيبة المرابطون” تحت قيادة الإرهابي مختار بلمختار، ونجحت في شن هجمات قوية ضد الدولة واستهداف مدنيين أجانب وقوات من الجيش المالي والقوات الفرنسية في مالي.
وامتدت العمليات الإرهابية لكتيبة المرابطون إلى دول أخرى من غرب أفريقيا مثل بوركينا فاسو وكوت ديفوار، ولعل ابرز الهجمات التي نفذتها هذه الحركة في مالي كان الهجوم على فندق راديسون بوسط العاصمة باماكو عام 2015 واحتجزت رهائن غربيين، وأدت العملية إلى مقتل 18 شخصا من الأجانب.
كما تعتبر “جبهة تحرير ماسينا” من الحركات المتطرفة بمالي، ونشأت في مطلع 2015 ومعظم أعضائها من عناصر جماعة الفولاني وتربطها علاقات قوية بحركة أنصار الدين، واستهدفت بعملياتها أيضا قوات الجيش المالي والقوات الفرنسية هناك.
وقد استطاع إياد أغ غالي في 2017 دمج الحركات المتطرفة في تنظيم واحد تحت زعامته بمسمى تنظيم “نصرة الإسلام والمسلمين”، وتكون من حركة أنصار الدين وكتيبة المرابطون وجبهة تحرير ماسينا، وهذا بالطبع يزيد من الأمر خطورة، بالإضافة إلى العلاقات التي تربط بين هذه الحركات وبين جماعة بوكو حرام الإرهابية والتي تمثل خطرا على أمن نيجيريا ودول غرب أفريقيا بشكل عام، ومع قرب مالي من لييبا التي تنشط بها الحركات المتطرفة التابعة لداعش والقاعدة يصبح المشهد معقدا وبالغ الخطورة من جميع الاتجاهات.
ولا شك أن هذه الجماعات ستحاول استغلال التطورات السياسية الأخيرة التي تحدث في مالي بعد الانقلاب على أبو بكر كيتا، لبسط نفوذها من جديد على الأرض في مالي، ومن المعروف أن الاضطرابات السياسية وغياب السلطة تعد فرصة سانحة لنشأة وانتشار الجماعات الإرهابية، وعلى قوات التمرد العسكري أن تعي خطورة الأمر، وتسارع في أقرب وقت بالإعلان عن خارطة الطريق وتوقيت تسليم السلطة إلى المدنيين لتفوت على الحركات الإرهابية الفرصة في السيطرة على مالي أو إعلان انفصال الشمال، أو القيام بعمليات إرهابية خطيرة.
ما العمل؟
التطورات الأخيرة في مالي تجعل من الضرورة بمكان أن يقوم الاتحاد الأفريقي ومنظمة إيكواس بمسئولياتهما تجاه مالي، فكلما كان حل الأزمة أفريقيا – أفريقيا كان أفضل وأسلم وأسرع، وعلى الأمم المتحدة أن تدعم الحل السياسي السلمي في مالي، مع الأخذ في الاعتبار أن الانقلاب الحالي شهد احتجاجات شعبية واسعة ضد الرئيس كيتا قبله، ومن ثم كان هناك رغبة شعبية في تنحي الرئيس كيتا، ومن هنا يكون الحل في تبني خارطة طريق واضحة لتسليم السلطة وعمل انتخابات في توقيتات محددة، وإلا فإن الأوضاع في مالي ستسوء بشكل لا يحمد عقباه، ولن تقتصر تأثيرته السيئة على مالي فقط وإنما ستمتد إلى منطقة غرب وشمال أفريقيا.