كتبت – د. أماني الطويل
مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
على الرغم من أن عمر الثورة السودانية قد قارب على العامين إلا أن فرص الاستقرار السياسي السوداني المؤثر على الأمن الإقليمي على المستويين العربي والأفريقي تبدو بعيدة نسبيا، حيث تتوالى الأزمات السياسية الداخلية تحت مظلة جدل داخلي من الأطراف المسئولة عن هذه الحالة، ومدى ارتباطها بهندسة معادلات سياسية مستقبلية، يكون المكون العسكري قائدا فيها بتحالف ربما مع فلول نظام البشير.
في هذا السياق يكون عدم اليقين بالنسبة لمستقبل السودان السياسي ومدى قدرته على الاستجابة لمطالب التحول الديمقراطي هو أحد الأسباب الدافعة لتحركات جماهيرية في الشارع تتفاوت قدرتها على التأثير بين فترة وأخرى، مثل حوادث شرق السودان التي راح ضحيتها العشرات على مدار الشهور الماضية، وكذلك المواكب الهادفة إلى تقليص نفوذ المكون العسكري في المعادلة الحاكمة، وهي المواكب التي تسير تحت عناوين الحفاظ على الثورة، ولكنها أيضا تكون فرصة لمخططات من عناصر النظام القديم لإجهاض الفترة الانتقالية.
ولا تتأثر فرص الاستقرار السياسي في السودان بنتيجة التفاعلات الداخلية فقط، ولكن يبدو الفاعل الخارجي مؤثرا، خصوصا في مسألة رفع اسم السودان من لائحة الدول الرعاية للإرهاب، من هنا تم طرح تطبيع سياسي بين السودان وإسرائيل بتقدير أنه قد يكون بوابة لإنهاء هذه الأزمة.
تحت مظلة هذه التفاعلات المعقدة تهتم هذه الأطروحة بعوامل السيولة السياسية في السودان، وتأثيرها على تماسك مؤسسة الدولة من ناحية، وتداعياتها على المحيط الإقليمي وشروط الأمن الإقليمي من ناحية أخرى.
أولا: عوامل السيولة السياسية
أ- علاقات السودان بالمحيط الإقليمي:
شهدت فترة حكم الإخوان المسلمين في السودان منذ عام ١٩٨٩ مشكلة التموضع الإقليمي للدولة من حيث استجابتها لمتطلبات نظام حكم البشير وتأمينه في ضوء ممارستها للإرهاب لتكون قطر القاعدة لمشروع إسلامي أممي، وذلك على حساب استجابتها للمعطيات الجيوسياسية لدولة السودان، والتي تتطلب علاقات متوازنة مع دول الجوار العربي والأفريقي، خصوصا مع المعطيات المتنوعة للهوية السودانية واقعيا بين ما هو عربي وما هو أفريقي.
من هذه الزاوية ساهم السودان تحت حكم الرئيس المخلوع عمر البشير في استدعاء إيران إلى البحر الأحمر منذ منتصف التسعينيات وحتى عام ٢٠١٤، وذلك إلى حد السماح بفتح الحسينيات والمراكز الثقافية، ونشر المذهب الشيعي، حيث استغلت إيران هذه الفترة في عمليات تمدد إقليمي كبير ببعض دول البحر الأحمر خصوصا في اليمن، إضافة للسودان، كما استدعى البشير أيضا تركيا في نهاية فترة حكمه بتأجير جزيرة سواكن لها وهو ما آثار حفيظة كل من مصر والسعودية، في هذا السياق لعب الانقسام الخليجي دورا في أن يلجأ البشير لابتزاز المكونات الخليجية ضد بعضها البعض، وهو أمر ألقى بظلال من الشك على العلاقات السودانية الخليجية.
وقد مارس نظام البشير أيضا أنواعا من الابتزاز السياسي مع مصر في قضايا سد النهضة وإبرام تحالف استراتيجي مع إثيوبيا له أبعادا عسكرية عام ٢٠١٧، وذلك على الرغم من أن المصالح المصرية والسودانية في نهر النيل تبدو متقاربة نظرا لكونهما دولتي مصب، وهو ما اتضح خلال الشهور الست الماضية، وأنتج تحولا في الموقف السوداني إزاء إثيوبيا، وذلك إلى حد التضامن مع الموقف المصري في مجلس الأمن وفي جلسات المباحثات بشأن السد في الفترة من فبراير إلى يوليو ٢٠٢٠.
ويمكن القول إنه مع فقدان السودان لمصداقيته السياسية في زمن البشير وتشوه صورته في محيطه الإقليمي، كان من الطبيعي أن تأخذ النخب السياسية الحاكمة لنظام ما بعد البشير موقفا تحاول فيه أن تكون مبدئية، بمعنى تصدير خطاب سياسي فحواه الانتباه للمصالح السودانية الخالصة، دون الالتفات إلى الاستقطابات الإقليمية ولكن هذا لا ينفي التعقيدات السياسية المحيطة بالعملية الانتقالية السياسية في السودان، وتحديدًا العلاقة بين الجيش وتحالف قوى الحرية والتغيير في الحكومة الانتقالية.
وقد مارس السودان فترة من التأرجح في علاقاته الإقليمية نتيجة ضغوط تحالف الحرية والتغيير القائد للثورة، بتقدير موقف أن عواصم الخليج والقاهرة تسعى إلى نصرة المكون العسكري على المدني في المعادلة السياسية وضمان تكوين نظام سلطوي في السودان، وعلى ذلك دفع هؤلاء للتحالف مع إثيوبيا انتصارا للمكون الأفريقي في الهوية السودانية على حساب المكون العربي، ولكن عددا من المتغيرات لعبت دورا في تراجع التعاطف السياسي السوداني مع إثيوبيا على المستويين الرسمي والشعبي، وتتبلور هذه المتغيرات في ممارسة إثيوبيا صلفا عسكريا ضد السودان وتوغلا في الأراضي السودانية أنتج تراشقا مسلحا واستشهاد عناصر عسكرية سودانية[1]، وذلك في المناطق الحدودية بين البلدين خلال مارس وإبريل ٢٠٢٠، أما المتغير الثاني فهو ممارسة إثيوبيا تعنتا في مباحثات سد النهضة، كما قامت بعملية الملء الأول لسد النهضة بلا اتفاق مع دولتي المصب، وهو أمر كان له أثر سلبي مباشر على السودان، حيث توقفت بعض محطات تنقية مياه الشرب.
أما المتغير الثالث فهو طبيعة الإسناد الاقتصادي والسياسي الذي مارسته كل من أبوظبي والقاهرة والرياض خصوصا في أزمات كورونا والفيضان غير المسبوق على مدى قرن كامل، وكذلك نقص الخبز والوقود، حيث تطور الدور الخليجي خصوصا مع مساهمة أبوظبي في بلورة كثير من التوافقات السياسية خصوصا بعد حادث فض الاعتصام الدموي من أمام القيادة العامة للجيش السوداني، فضلا عن التفاعل في ملف السلام السوداني، حيث من المتوقع أن يكون هناك دور تمويلي خليجي لإنجاح اتفاق جوبا وتنفيذه على الأرض خصوصا في إقليم دارفور.
ب – التحدي الاقتصادي:
تشكل الصعوبات الاقتصادية أحد أهم التحديات التي يواجهها السودان حاليا، وتؤثر بشكل فعال على حالتي الاستقرار السياسي على المستويين الداخلي والإقليمي، حيث ساهم انفصال جنوب السودان في حرمان السودان من عوائده النفطية، وهو ما كان له أثر مباشر على نقص احتياطيات النقد الأجنبي، وخلق سوق مواز للعملات الأجنبية، كما يشكل ضعف البنية التحتية السودانية أحد الأسباب المباشرة لزيادة تكاليف الإنتاج الزراعي، وهو ما يحرم البلاد من عوائد مجزية لهذا القطاع الهام رغم توافر المياه والأراضي الصالحة للزراعة.
وقد تفاقمت هذه الأوضاع خلال العقد الأخير بما كان أحد الأسباب الرئيسية للثورة السودانية عام ٢٠١٩، حيث ورثت الحكومة الانتقالية الحالية هذا الموقف الحرج، والذي ينعكس في قدرة الحكومة على امتلاك أسباب الاستقرار السياسي.
وعلى الرغم من الدعم الدولي والإقليمي الذي تجده الحكومة السودانية الانتقالية على المستوى السياسي، إلا أنه لم يترجم اقتصاديا حتى اللحظة الراهنة لسببين مركزين الأول الفترة الطويلة التي استغرقها اتخاذ قرار أمريكي برفع اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، وهو ما يؤثر مباشرة على قدرة السودان على الحصول على قروض دولية، والتي حدد حجمها عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السوداني في سبتمبر ٢٠١٩ بأنها ١٠ مليارات دولار، والسبب الثاني هو الدعم التمويلي الضعيف لمؤتمر أصدقاء السودان والذي لم يتجاوز ملياري دولار فقط بعد عقد مؤتمرين في خريف ٢٠١٩ وربيع ٢٠٢٠.
الأزمة الاقتصادية أسفرت عن ارتفاع مستويات التضخم لــ66% خلال خريف ٢٠٢٠، ووصول معدلات البطالة إلى ٢٤٪، وارتفاع سعر الدولار الواحد ليتجاوز حاجز المائتي جنيه سوداني[2].
وبطبيعة الحال فإن لهذه الأزمة تداعيات خطيرة على قدرة الحكومة الانتقالية في الاستمرار وتحقيق الاستقرار الداخلي تحت مظلة تواجد حجم تسلح كبير ونزاعات داخلية مسلحة، وهي حالة مهددة للأمن الإقليمي، في منطقة مضطربة بالفعل وتسودها الصراعات المسلحة خصوصا في ليبيا ودول الساحل والصحراء.
ويبدو أن هذه الأزمة الاقتصادية قد لعبت دورا قائدا في حسم التموضع الإقليمي للسودان في هذه المرحلة، والذي تبدو ملامحه في تماهٍ مع المحور الخليجي
ج: اتجاهات عملية السلام في السودان
حافظ مطلب السلام في السودان على أولوية مطلقة طوال تاريخه الحديث، خصوصًا في أعقاب أي تغيير سياسي سوداني، بعد ثورتي 1964 و1985، وها هو يحافظ على المكانة نفسها المتقدمة في أعقاب ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018. وقد تكوَّنت بعد كل ثورة إما موائد مستديرة للحوار الوطني، وإما مؤتمرات جامعة. أمَّا هذه المرة فقد تكوَّنت طبقًا للوثيقة الدستورية “مفوضية السلام“، ونجحت الحكومة الانتقالية بالفعل في توقيع اتفاق سلام مع بعض الحركات المسلحة، بينما ما زال فصيلان رئيسيان لم يوقعا بعد أحدهما يمكن أن يكون على الطريق، وهي الحركة الشعبية لتحرير السودان جناح عبدالعزيز الحلو والذي يسيطر على مناطق جبال النوبة، بينما الفصيل الثاني هو الحركة الشعبية لتحرير دافور بقيادة عبدالواحد نور، وهو الفصيل الذي ما زال يمارس اشتباكات مسلحة مع الجيش السوداني في مناطق جبل مرة بدارفور، كان آخرها الأسبوع الأخير من سبتمبر ٢٠٢٠ ويبدو حتى الآن رقما صعبا في تحقيق السلام السوداني.
ويبدو من الأهمية بمكان التعرف على ملامح اتفاق جوبا الموقع في ٣ أكتوبر ٢٠٢٠ خصوصا أنه جمع بين عدد من المسارات في مختلف أنحاء السودان نظرًا لانفجار المطالب الجهوية بعد ثورة ديسمبر٢٠١٩ ووجود توجه لاحتواء هذه المطالب على الرغم من انتهازية بعض أطرافها على المستوى السياسي. في هذا السياق يبرز مسار دارفور بين تنظيمات وقوى يطلق عليها الجبهة الثورية، بينما المسارات الأخرى هي شرق السودان وشماله، وولاية النيل الأزرق.
في ما يتعلق بالمحتوى، نستطيع القول: إن هذا الاتفاق متأثر إلى حد كبير بالهندسة الأمريكية لاتفاقات السلام سواء في السودان أو العراق، وما يتعلق بمبدأ المحاصصات السياسية الذي سبقت إليه فرنسا في لبنان، حيث دشن اتفاق نيفاشا للسلام الموقع عام 2005 بين شمال السودان وجنوبه قبل استقلال الأخير في 2011 مفاهيم تقاسم الثروة والسلطة التي قد تكون استجابة سياسية وتنموية لمناطق الهامش، لكنها أيضًا تفتح الباب واسعًا أمام الاستقلال السياسي إذا توافرت إرادة دولية له كما جرى في جنوب السودان.
وقد منح اتفاق جوبا تحالف الجبهة الثورية الدارفوري على المستوى القومي 3 مقاعد في المجلس السيادي ليرتفع عدد أعضائه إلى 14، وعلى المستوى الوزاري 5، وفي المجلس التشريعي ربع عدد المقاعد أي 75.
في هذا السياق تم الاتفاق على العلاقة الدستورية بين المركز والأقاليم أو الولايات كما يطلق عليها في السودان علاقة فيدرالية علمًا أنه لم يتم التطرق على نحو تفصيلي إلى مفهوم دقيق لها، وربما ذلك أحد أهم مهام المجلس التشريعي المقبل.
وسوف يكون منتسبي دارفور في هياكل السلطة الولائية 40%، وهي نسبة ستكون موضوعًا لجدل وخلاف سياسيين بين أبناء دارفور في حال انضمام عبدالواحد نور إلى الاتفاق لأنه لن يقتنع بنسبة 10% للحركات الملتحقة باتفاق جوبا، أما بقية مكونات السلطة الانتقالية فلها 30% وللقيادات المحلية 20 شرط أن يكون رئيس الحكومة الولائية من دارفور.
وقد سار الاتفاق بمنطق المحاصصة نفسها في مسار ولاية النيل الأزرق وشرق السودان وشماله لكن بنسب مختلفة، وتم انتهاج سياسيات التمييز الإيجابي لصالح المسارات الولائية في الخدمة المدنية بحيث تكون مقصورة على أبناء هذه المناطق لعشر سنوات مقبلة.
وفيما يخص تقاسم الثروات فاز إقليم دارفور بنسبة 40% من إيراداته تخصص له لمدة عشر سنوات كاملة، طبقًا لاتفاق إبريل (نيسان) الماضي، ومنح سكانه نسبة لا تقل عن 3% من الإيرادات المتأتية من الموارد الطبيعية، في المناطق التي تستخرج منها.
في هذا السياق التزمت الحكومة الانتقالية بتوفير مبلغ مئة مليون دولار أمريكي خلال شهر من تاريخ التوقيع على الاتفاق وتلبية متطلباته كافة بمبلغ سنوي قدره سبعمئة وخمسون مليون دولار أمريكي لمدة عشر سنوات، يحوّل إلى صندوق دعم السلام والتنمية المستدامة في الإقليم.
كما سيتم تشكيل “المفوضية القومية لقسمة الموارد والإيرادات المالية وتخصيصها ومراقبتها”، يُعين رئيس الوزراء رئيسًا مستقلًا لها ويصدر قانون تفعيل لها في مدة أقصاها ثلاثة أشهر من التوقيع على الاتفاق.
أهم بند لضمان تنفيذ بنود الاتفاق سيادة أحكامه على الوثيقة الدستورية، حيث اتفق الطرفان على إدراج اتفاقيات السلام الموقعة في الوثيقة الدستورية وإزالة أي تعارض معها بالوثيقة الدستورية، وهو بند يثير الكثير من الجدل بين اتجاهين؛ أحدهما يريد تسريع الخطوة، بينما يقف تحالف الحرية والتغيير ضدها على اعتبار أن أي تعديل في الوثيقة الدستورية هو مسئولية المجلس التشريعي.
وفيما يخص المكون الأمني لاتفاق السلام ربما يكون من أهم نقاط هذا الاتفاق هو المرتبط بتسليم المدانين في انتهاكات دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، ما يعني استقرار السودان بمكوّنَي الحكم المدني والعسكري على تسليم الرئيس المخلوع البشير، وكذلك ثلة ليست بالقليلة من أركان حكمه القابعين الآن في السجون، وربما هذا ما يفسر زيارة المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية للسودان فاتو سودا.
أما البروتوكول التفصيلي الذي عطّل التوقيع لشهور فقد نصّ على وقف إطلاق النار الشامل والأعمال العدائية وإيصال المساعدات الإنسانية، ودمج وتسريح قوات الحركات المسلحة بعملية مرحلية تبدأ خلال 3 أشهر، وتشكيل قوة مشتركة لحفظ الأمن في الإقليم من القوات المسلحة والدعم السريع والشرطة والحركات المسلحة.
إلى جانب تحقيق السلام المأمول، يبدو الزخم السياسي والإعلامي المحيط باتفاق جوبا مقصودًا من جانب الخرطوم خصوصًا مع ما أقدمت عليه من تنازلات لصالح الأطراف السودانية المظلومة تاريخيًا، فإلى الخطاب المعلن من جانب رئيس الوزراء عبدالله حمدوك إلى كل الحركات المسلحة بالانضمام إلى مسيرة السلام، فإن النسب التي حصل عليها المتفاوضون تعني أن الخارجين عن هذا المسار لن يجدوا نصيبًا من الكعكة على المستويين السياسي والاقتصادي، ما دفع عبد العزيز الحلو زعيم مناطق جبال النوبة إلى إعلان اتفاق مع حمدوك غداة التوقيع على اتفاق جوبا خلال زيارة الأخير إلى أديس أبابا. فمن جهة انفتحت الخرطوم على مطلبه بفصل الدين عن السياسة الذي هو مطلب شعبي سوداني بامتياز فيما عدا تحالفات الإسلاميين السودانيين، مع خبرة السودانيين المريرة تحت مظلة حكم الإسلام السياسي في السودان لفترة 3 عقود كاملة.
وجد هذا المنهج دعمًا أوروبيًا خصوصًا من جانب فرنسا التي تمارس ضغوطًا على عبدالواحد نور الذي يعيش في باريس للالتحاق بالاتفاق، وهو ما يقاومه هذا الأخير بكل قوة حتى هذه اللحظة، حيث اضطر لمواجهة انقسام كبير في حركته، بفصل خمسة من كبار رفاقه من قادة الحركة الشعبية لتحرير السودان في دارفور، الذين طالبوا بالانضمام إلى مسيرة السلام، ما يعني أن نور يواجه ضغوطًا داخلية وخارجية في وقت فقد محتوى خطابه السياسي الصدقية نسبيًا على مستوى دارفور بعد 17 عامًا كاملة من معاناة الناس في معسكرات اللجوء والنزوح.
في ما يخص مسار شمال السودان وشرقه، فقد سجل حضورًا أكثر من حصوله على منافع مقارنة بمسار دارفور الذي كان مركزيًا بحكم المآسي الإنسانية التي ترتبت عليه، أما مسار النيل الأزرق فقد حصل على جزء من كعكة الثروة والسلطة، وقام بدوره في حث +الحلو على التقارب مع الحكومة.
أما على مستوى المعادلات السياسية الحاكمة للتفاعلات قوميًا، فإن تداعيات اتفاق جوبا يتم ترجمتها حاليًا بوجود مخاوف -من أن يكون الأعضاء الجدد في هياكل السلطة إضافةً لوزن المكوّن العسكري في المجلس السيادي- على حساب المدني، وأن يجني العسكري قدرة على إزاحة شركائه من تحالف الحرية والتغيير والاستفراد بالسلطة في ما بعد المرحلة الانتقالية، وبحسبان الأدوار المركزية والمناورات السياسية التي صاغها هذا المكوّن مع محمد حمدان دقلو (حميدتي) فيها ما لا بد أن يكون لها أثر.
على أية حال لن يبدد المخاوف جميعها إلا تنفيذ الاتفاق مع توافر حسن النية من جميع أطرافه، وأن ينجح الأوروبيون في إلحاق عبدالواحد نور به.
د: تيارات الإسلام السياسي
على الرغم من نجاح الثورة السودانية في إزاحة الرئيس عمر البشير، الا أن +الحوامل الاقتصادية لحكمه ما زالت فاعلة، كما أن النخب السياسية المنتمية إلى الإسلام السياسي ما زالت تملك القدرة على الحركة والتأثير، خصوصا وأنها تحاول طوال الوقت إبرام تحالف مع المكون العسكري في المعادلة السياسية السودانية، ضد المكون المدني، وذلك بمزاعم أن هذا المكون تتحكم فيه أحزاب اليسار السوداني، وهو موقف يتشارك فيه مع الإسلاميين حزب الأمة القومي بزعامة السيد الصادق المهدي الذي أبرم مؤخرا تحالفا سياسيا مع حزب المؤتمر الشعبي (حزب الترابي).
وفي هذا السياق نمايز بين أربعة مستويات من الفعل والحركة للإسلاميين السودانيين؛ الأول هو لتنظيم الجبهة القومية الإسلامية ونخبه السياسية، وخطابات هؤلاء المعلنة، والمستوى الثاني هو التنظيم السري للجبهة الذي مارس أعمالا عنيفة تصل إلى درجة الاغتيال الممنهج، وهو التنظيم الذي أعلن عن وجوده وجاهزيته علي عثمان محمد طه، النائب الأول لرئيس الجمهورية لفترة غير قليلة والمحبوس حاليا. أما المستوى الثالث فهو حزبا المؤتمر الشعبي الذي تزعمه الترابي حتى عام 2016، وحركة الإصلاح التي يتزعمها غازي صلاح الدين أحد تلاميذ الترابي، الذي خرج عن طاعته في مذكرة العشرة ضده عام 1999، الذي خرج عن حزب المؤتمر الوطني الحاكم عام 2013 على خلفية سقوط 200 قتيل في الاحتجاجات الشعبية ضد النظام وقتذاك.
وفيما يخص الجماعات السلفية فإنها تحوز على 10% تقريبا من الخريطة الدينية للسودان والتيارات التي تكفّر الحكام والمجتمع منهم وهي محصورة في مناطق قليلة ومتباعدة مثل منطقة (أبوقوتة) في ولاية الجزيرة، ومنطقة (الفاو) شرق السودان، وبعض الجيوب الصغيرة في الدمازين ومنطقة كوستي، بالإضافة إلى وجود في العاصمة. وإلى وقت قريب، كانت السلفية السودانية محصورة بجماعة أنصار السنة المحمدية إلى أن أتت موجة ما يعرف بالأفغان العرب، وتوافدت هذه المجموعات، بينهم أسامة بن لادن، للاستقرار بالسودان بداية التسعينيات مع انتهاج البشير ما يعرف بسياسة الباب المفتوح.
وبطبيعة الحال، لا يعني هذا التمايز بين المستويات الأربعة من الإسلاميين السودانيين غياب حالات من التفاعل بينهم تسهم في بلورة موقف كل فريق إزاء الآخر، وإزاء المعادلة السياسية المتحركة في السودان راهنا، خصوصا مه حالة الانقسام الخليجي، حيث يتم رصد تفاعل متكرر من جانب رموز محسوبة على الجبهة القومية الإسلامية مع قطر، وذلك في مراحل متعددة من التطورات السياسية الداخلية خلال العاميين الماضيين.
وهو الأمر المطلوب الانتباه إليه على كافة المستويات الداخلية والإقليمية والدولية، وذلك بما يشكله من تهديد للاستقرار الداخلي بالسودان، والذي له تداعيات مؤثرة إقليميا بالضرورة.
ثانيا: تداعيات السيولة السياسية السودانية على الأمن الإقليمي
١- شرق السودان
على الرغم من أن حوادث شرق السودان هي تفاعلات داخلية سودانية، ولكن يتم النظر إليها على أنها مهددة بشكل أو بآخر على أمن البحر الأحمر، وذلك قياسا على الخبرات المتراكمة بشأن حالة الصومال مثلا التي كانت نتيجة لصراع داخلي صومالي، في هذا السياق فإنه من الضروري ملاحظة أن الصدامات الدامية التي جرت في شرق السودان قد انصرف جزء من خطابها المعلن إلى الاعتراض على نتائج مسار الشرق في اتفاقية جوبا للسلام الموقعة في ٢٠٢٠، وأيضا اهتم بدور دولة الإمارات في استغلال موانئ شرق السودان سواء كطرف أصيل أو ممارسة آخرين وكالة عنه، كما تنطلق دعوات أحيانا بالمطالبة بحق تقرير المصير، وذلك تحت مظلة انقسامات عرقية وقبلية ينتج عنها استقطابات مقلقة.
٢- ليبيا
تعد السودان دولة من دول الجوار الليبي، ومارست تاريخيا أدوارا مؤثرة على التفاعلات الليبية سواء من نافذة دارفور، أو من علاقة الخرطوم بطرابلس، وعلى الرغم من ذلك يبدو الدور السوداني معطلا في ليبيا إلى حد كبير، حيث تمارس كل دول الجوار الليبي أدوارا مؤثرة في التفاعلات الليبية، وتستضيف عواصمها فاعليات مختلفة بشأن دعم الحوار الوطني الليبي، لضمان شروط الاستقرار السياسي والحفاظ على التراب الوطني، ولكن تبدو السودان بعيدة عن هذه التفاعلات.
٣- العلاقة مع إثيوبيا
تشهد العلاقات السودانية الإثيوبية مرحلة من عدم الاستقرار في العام الثاني من الثورة السودانية، وذلك عطفا على انتباه سوداني لمصالحه النيلية والتي فرضت قدرا من التباعد عن الهندسة الإثيوبية لمشروع سد النهضة، من هنا مارست إثيوبيا ضغوطا عسكرية على السودان في المناطق الحدودية، كما يمارس آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي حاليا نوعا من الضغوط على السودان وذلك بإعلانه أن الاضطرابات الموجودة في غرب بلاده، هي نتيجة وجود تدريب للعناصر الإثيوبية المسلحة على الأراضي السودانية.
٤- أمن الحدود
تشكل الحدود السودانية مع دول الجوار السوداني أحد المهددات لهذه الدول، ذلك أن حالة الانشغال السوداني بالأمن الداخلي والتفاعلات السياسية تفرض أعباءً إضافية على دول الجوار لحماية حدودها من ناحية، وضمان عدم تسرب عناصر داعشية متطرفة من هذه الحدود من ناحية أخرى، وذلك في ضوء رعاية النظام السوداني المنحل تاريخيا لعناصر متطرفة على أراضيه أدين بعضها بممارسات إرهابية مثل بن لادن وعناصر حزب التحرير الإسلامي وعناصر السلفية الجهادية.
ثالثا: الاستجابات السودانية لمعطيات الأمن الإقليمي
رغم مواجهة السودان لحالة غير مسبوقة من السيولة السياسية في أعقاب ثورة ديسمبر ٢٠١٩ أعلن رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك تشكيل مفوضية للبحر الأحمر في مطلع فبراير ٢٠٢٠، واعتبر أن البحر الأحمر أحد المحددات الاستراتيجية لدولته ضمن خمس محددات أخرى، مشيرا إلى التحديات التي تواجهها دولته على هذا الصعيد، خصوصا بعد مرحلة من الجدل السياسي السوداني بشأن دور السودان في حرب اليمن، والتسهيلات الممنوحة لدولة الإمارات في ميناء بور سودان، وفي هذا السياق أجرى السودان مشاورات على المستوى الوطني بشأن موقف الدولة من مجمل التهديدات، وطبيعة التفاعلات المرتبطة بالبحر الأحمر، خصوصا وأنها دولة عضو بمجلس البحر الأحمر بالرياض، وقد كانت الأهداف المعلنة من المسئولين السودانيين في هذا الملف هي تحسين وتعزيز التعاون في البحر الأحمر وخليج عدن، حيث شملت هذه المشاورات جميع الوزارات والمؤسسات ذات الصلة من أجل وضع إطار عمل يعرض رؤية السودان للتعاون بين الدول المشاطئة، وتضمنت هذه الرؤية أربعة محاور رئيسية هي: التعاون الاقتصادي، والتعاون الأمني، والتعاون في مجال حماية البيئة البحرية والتنوع البيئي، والتعاون في مجال السياحة. وإن هذه هي المحاور الأربعة الرئيسية التي تمثل استراتيجية السودان للتعاون مع الدول ذات الصلة فيما يتعلق بالبحر الأحمر وخليج عدن.
وتستند هذه الرؤية الوطنية -بطبيعة الحال- إلى ميراث من تعاون إقليمي سابق مع الدول العربية المشاطئة للبحر الأحمر ومنها السعودية، وذلك بإجراء تدريبات عسكرية بالبحر الأحمر حيث تطلعت بعض الدراسات السعودية إلى زيادة المطارات والموانئ الاستراتيجية في الجزر وبالقرب من سواحل البحر الأحمر، زيادة المعدات و القوات العسكرية الاستراتيجية المشتركة بالقرب من شواطئ البحر الأحمر في البلدين[3].
أما بعد ثورة ديسمبر فنرصد زيارة قام بها عبدالله حمدوك رئيس الوزراء السوداني إلى جيبوتي باعتباره رئيسا لمنظمة الإيجاد، فيما كان أمن البحر الأحمر مطروحا مع الرئيس الجيبوتي طبقا للبيان الختامي لهذه الزيارة[4].
وإجمالا يمكن القول كخلاصة أن السودان سوف يتماهى في المرحلة المقبلة مع سياسيات دولة الإمارات في البحر الأحمر، بطبيعة وزنها في ملف السلام الذي تعتبره السودان ملفا حاكما في الاستقرار السياسي، وسوف ينعكس التماهي السوداني مع الإمارات على الموقف من مجلس البحر الأحمر، فيما تبدو القاهرة ساعية لبلورة نوع من التفاهمات الأفروعربية في البحر الأحمر، تضمن استقراره، والحفاظ على أمنه، خصوصا مع ربطها جيوسياسيا بين دول حوض النيل ودول القرن الأفريقي.
في هذا السياق سوف تشهد العلاقات المصرية السودانية حالة من الاستقرار والتفاهمات في أكثر من ملف وذلك كانعكاس مباشر لزيارة رئيس الوزراء المصري للخرطوم في يوليو ٢٠٢٠، والمساعدات الاقتصادية المصرية للسودان، ودعمها للحكومة الانتقالية على المستوي السياسي، ولكها ملفات سوف تنعكس على أمن الحدود بين البلدين.
وتبدو هذه المعادلة المستقرة نسبيا مشروطة بتعاون إثيوبي في ملف سد النهضة خلال الفترة القادمة، بما يضمن نجاح صيغ التعاون الأفروعربي في نطاق البحر الأحمر، ويبدو هنا الموقف الدولي مهما في تحجيم المنحى الصراعي الإثيوبي، وذلك لضمان المصالح الدولية واسعة لنطاق في البحر الأحمر
[1] بيان صادر عن الجيش السوداني متاح على
:https://arabic.sputniknews.com/arab_world/202005281045554614-%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%82-%D9%85%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%B4%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A3%D8%AB%D9%8A%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/
[2] خبر صحفي متاح على
[3]– دور التعاون السعودي السوداني في تحقيق أمن البحر الأحمر، أكاديمية نايف الأمنية متاح على:
[4] https://www.alrakoba.net/31364406/%D9%85%D8%A8%D8%A7%D8%AD%D8%AB%D8%A7%D8%AA-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AD%D9%85%D8%B1-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF/