بقلم – د. محمد عبد الكريم
باحث في الشؤون الأفريقية ومنسق أبحاث وحدة أفريقيا، معهد الدراسات المستقبلية – بيروت
رغم أن الانقلاب الذي شهدته النيجر (26 يوليو 2023)، والذي يمكن وضعه في سياق تعاظم أزمة هذه الدولة الفقيرة والمصنفة في الأعوام الأخيرة واحدة من أفقر دول أفريقيا والعالم، كان متوقعًا إلى حد ما في ظل عدة عوامل صاعدة مثل اضطراب ديناميات العلاقات الدولية الراهنة، وتعقد شبكات مصالح القوى الكبرى والمتوسطة (والشركات متعددة الجنسيات ذات الارتباطات الوثيقة بسياساتها) في القارة الأفريقية وتراجع مؤشرات التنمية في النيجر بشكل واضح على وقع التداعيات السلبية لجائحة كوفيد-19 ثم الأزمة الروسية الأوكرانية؛ رغم ذلك فإن العوامل الداخلية في النيجر تظل مهمشة إلى حد كبير في مقاربة فهم هذا الانقلاب، مع سيادة رواية أنه وقع على نظام منتخب ديمقراطيًا مما يهدد مجمل التطور الديمقراطي في غرب أفريقيا والقارة الأفريقية ككل وليس في النيجر فحسب.
وفي واقع الأمر فإن الانقلاب، الذي جاء أخيرًا في سلسلة انقلابات شهدها إقليم غرب أفريقيا في غينيا كوناكري ومالي وبوركينا فاسو، ومع ما ورد في تقارير منذ نهاية يوليو الماضي عن إفشال محاولات انقلابية في الإقليم كما في دولة سيراليون، يشير بوضوح إلى إشكالية وقوع كثير من الدول الأفريقية بين أزمة دولة وطنية (بمستويات متباينة بطبيعة الحال) لم تنجح بعد (في أغلب أرجاء القارة) في تجاوز “اللحظة الاستعمارية” (تحديدًا فك الارتباط بالقوى الاستعمارية السابقة أو قوى الهيمنة التقليدية بعد الاستقلال مثل الولايات المتحدة والشركات متعددة الجنسيات وبعض سياسات المنظمات الدولية والإقليمية المكرسة لهذه الهيمنة)، ورغبة حثيثة تقودها “نخب عسكرية” بالأساس تحمل أجندة تجاوز هذه اللحظة والسعي للفكاك من الارتباطات الاستعمارية والهيمنة عبر تبني سياسات تنموية وطنية وموازنة سياساتها الخارجية بعد فشل مشروع الاصطفاف خلف فرنسا والقوى “الغربية” لا سيما بعد فشل موجة التحول الديمقراطي في الإقليم التي انطلقت نهاية الثمانينيات واستمرت في عقد التسعينيات من القرن الماضي وجاءت بدورها بعد أزمات هيكلية خطيرة ضربت اقتصادات القارة الأفريقية أهمها أزمة الديون (منتصف الثمانينيات تقريبًا) التي تلت اضطراب سلاسل توريد موارد الطاقة بسنوات؛ مما يعيد جذور المشهد الحالي لهذه الفترة بصورة أو بأخرى ويثير توقعات حدوث تغييرات جذرية متلاحقة يمكن في ضوءها فهم ارتفاع مخاوف الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” إزاء الانقلاب في النيجر، مدعومة بتفهم أمريكي وفرنسي وغربي بشكل عام.
سياقات انقلاب النيجر: استدامة فشل الدولة
بات ثابتًا لدى عدد من الباحثين أن النظر في تطور الدولة الأفريقية بعد التخلص من الاستعمار يمكن ان يتم عبر ما يُعرف بنظرية الثنائية theory of dualism (كفرع من فروع نظرية التحديث في علم الاجتماع) وتقوم على افتراض وجود اقتصاد ثنائي dual-economy، ومجتمع ثنائي dual-society (جنبًا إلى جنب مع نظيرتها نظرية الإقطاع theory of feudalism)، والتي عدها البعض أكبر عائق أمام التطور السوسيو – اقتصادي والتغيير في الدول النامية ([1])؛ ويُلاحظ أن فكرة الثنائية هذه حاضرة بقوة في النيجر (كما في أغلب دول غرب أفريقيا) إذ تنقسم البلاد بين جنوب متمدين تسوده ثقافة حديثة نسبيًا وشمال رعوي بالأساس، كما يسري هذا الانقسام على كثير من الجوانب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في النيجر على نحو عزز ما يمكن تسميته باستدامة فشل الدولة في تحقيق التحولات الاجتماعية المأمولة طوال سبعة عقود تقريبًا.
وبناء على التحليل السابق يمكن وضع أحد عوامل الانقلاب في هذا السياق نفسه، ويقصد هنا تحديدًا السجال النيجري حول إثنية وشرعية بازوم الذي ظل قائمًا خلال الحملة الانتخابية الأخيرة إذ ينحدر بازوم من أقاليم عربية وصنف باستمرار (لا سيما من قبل معارضيه) بأن له أصولًا أجنبية، وأثر هذا التصنيف على وضعه داخل الجيش المكون بالأساس من جماعات إثنية أكبر، المر الذي يشير إلى انعكاسات لنظرية “الثنائية” في الحالة الراهنة مع أهمية مسألة التكوين العسكري الإثني في البلاد الذي ساعد سلف بازوم (محمد إيسوفو) على استكمال فترتي رئاسة عبر – ضمن عوامل أخرى – إقرار سياسات تعيينات في الجيش النيجري وفق التقسيمات الإثنية([2]).
وفي نفس السياق، عَدد المفكر النيجيري كلود آكي Claude Ake في مستهل كتابه عن الديمقراطية والتنمية في أفريقيا (1996)([3]) العوامل التي تفسر الفشل البين لمشروع التنمية في أفريقيا (وفي غرب أفريقيا تحديدًا حسب تركيزه في هذا العمل) في أنها تشمل الإرث الاستعماري، والتعددية الاجتماعية وتوجهاتها الانفصالية، وفساد القادة، وسوء التخطيط، وعدم كفاءة الإدارة، وعدم ملائمة السياسات لاحتياجات المواطنين، وكبح ديناميات السوق، وتدني مستوى المساعدات التقنية، وتدهور أسعار السلع وغيرها من العوامل التي رأى “آكي” أنها تمثل عوائق خطيرة أمام التنمية في أفريقيا، ثم يستدرك أن السبب الرئيس لإعاقة التنمية في أفريقيا يتمثل في الأحوال السياسية التي تسود في دول القارة.
ويلاحظ، في بيان هذا الإطار النظري الموجز وصلته بالحالة النيجرية الراهنة، أن النيجر تعد تاريخيًّا من الدول ضئيلة التأثير إقليميًّا وقاريًّا ودوليًّا منذ استقلالها عن فرنسا، وتملك النيجر جيشًا صغيرًا للغاية تدعمه قوة جوية محدودة جدًّا، كما لا تملك النيجر تمثيلًا دبلوماسيًّا معقولًا إذ اقتصر تمثيلها الدبلوماسي في الخارج في مطلع تسعينيات القرن الماضي إلى 17 دولة من بينها ثماني دول فقط خارج أفريقيا، واثنتان فقط خارج “النظام الاقتصادي الرأسمالي”([4])، ولم تتطور تلك الحالة بشكل ملموس طوال العقود الثلاثة التالية حتى بعد تبني النيجر نظام التعددية الحزبية (يوليو 1990). كما ظلت صلة النيجر بفرنسا، القوة الاستعمارية السابقة للبلاد، الأكثر أهمية للأولى منذ استقلالها، ورغم نجاح النيجر نسبيًّا في تنويع شركائها لتقديم المعونات فإن التبعية الاقتصادية النيجرية لفرنسا ونفوذها داخل الجماعة الأوروبية ثم الاتحاد الأوروبي ظل لا يقارن بأية علاقات أخرى للنيجر، لا سيما أن هذه العلاقات شملت الجانب العسكري (ظل الجيش النيجري صغيرًا نسبيًا وغير مؤهل بشكل كاف لفرض سيطرة حاسمة على أطراف البلاد وحدودها مع سبع دول جوار. كما مدت فرنسا نوعًا من الحماية العسكرية على النيجر منذ استقلالها، لكن هذه السياسة لم تشمل على الإطلاق أي مساع فرنسا لتقوية جيش النيجر بشكل ملحوظ، بل ظلت متمحورة حول ضمان تدخل القوات الفرنسية بما فيها قوات الانتشار السريع، مثلما حدث في العام 1981 إثر خلاف ليبي نيجري على إحدى المناطق الغنية باليورانيوم شمالي النيجر ([5]).
ولم يقد هذا التدخل الفرنسي إلى تعزيز علاقات ثنائية متينة بين البلدين بقدر ما أن هذه العلاقات قامت على أسس هيمنة واستغلال يسرتها الحكومات المتعاقبة في النيجر، وفي ظل تنامي سخط شعبي واضح ضد ديناميات هذه العلاقات وتداعياتها على الحياة اليومية للمواطنين. وقد لاحظ باحثون فرنسيون منذ عقد تقريبًا تنامي مشاعر العداء لفرنسا (ومن بينها مشاعر على خلفيات دينية)، ووجدت هذه المشاعر تعبيرًا في بعض سياسات رؤساء النيجر السابقين مثل الرئيس الأسبق محمد تانجا M. Tandja الذي عمل مع بعض شركات الطاقة الصينية لتفكيك الاحتكار الفرنسي لتعدين اليورانيوم في النيجر، وهي المساعي التي عُزل على إثرها في فترة مبكرة من استقلال النيجر هاماني ديوري Hamani Diori أول رئيس للبلاد ([6]).
تشابكات أدوار النيجر الإقليمية والدولية: الأمن أولًا؟
لاحظ مراقبون أن الأعداد الكبيرة من القوات المسلحة الأجنبية وقواعدها في النيجر كانت محل قلق بالغ من قبل الجيش النيجري وقناعته أن وجود هذه القوات الأجنبية يحجِّم من فعاليته ومكانته داخل البلاد، لا سيما بعد افتتاح الولايات المتحدة (2019) قاعدة للمسيرات رغم الاحتجاجات الشعبية المتخوفة (على أسس واقعية) من تحول النيجر لأهداف للإرهابيين بسبب مشاركة بلادهم في العمليات الأمريكية والفرنسية خارج النيجر، كما غذى هذا القلق المفهوم من قبل النخبة العسكرية مبادرة بازوم المتسرعة (دون تشاور مع القادة العسكريين) بعرض استضافة القوات الفرنسية والأوروبية التي خرجت من مالي في العام 2022 الأمر الذي واجه وقتها إدانة من القيادة العسكرية النيجرية وبعض السياسيين النافذين في البلاد ([7])، عوضًا عن تعزيزه الصورة الشعبية الرائجة عن بازوم بوثاقة تحالفاته الغربية على حساب مصالح الشعب بعيدة المدى.
بأي حال فقد تصاعدت حدة الوضع في النيجر مع قرب دخول الانقلاب أسبوعه الثالث بإعلان قادة الانقلاب (3 أغسطس الجاري، وبمناسبة الذكرى 63 لاستقلال البلاد) قطع جميع الاتفاقات العسكرية مع فرنسا وفق بيان أذيع في التليفزيون الوطني (وتضمن إقالة عدد من سفراء الحكومة السابقة في كل من فرنسا والولايات المتحدة وتوجو ونيجيريا التي تقود جهود إيكواس في الأزمة الراهنة)، وتحذيرات واضحة لمواطني النيجر من تقديم أية إفادات لجيوش أجنبية أو جواسيس)، وجاء البيان فيما وصلت جهود الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” لمقاربة الأزمة لطريق مسدود([8])؛ ورأى مراقبون أن خطوة الجيش، التي جاءت قبل ثلاثة أيام من نهاية مهلة “إيكواس” بالإفراج عن الرئيس المعزول محمد بازوم (في موعد لا يتجاوز يوم الأحد المقبل 6 أغسطس الجاري) لتفادي النيجر التدخل العسكري من قبل قوات المجموعة، فرضت مزيدًا من العزلة على النيجر لتوقع تأثير قطع كافة العلاقات العسكرية مع فرنسا على مجمل الترتيبات الأمنية والعسكرية الغربية والدولية في إقليم الساحل حيث ظلت النيجر مركزًا مهمًّا للعمليات العسكرية الإقليمية والدولية بعد انسحاب القوات الفرنسية من وكذلك جدولة انسحاب قوات الأمم المتحدة من مالي مع نهاية العام الجاري.
ويكشف هذا التصاعد السريع عن أهمية النيجر في الترتيبات الأمنية والعسكرية في إقليم الساحل وخطورة إرباك تلك الخطط (ترقبًا لسياسات المجلس العسكري الانتقالي التي يبدو أنها تسير نحو السيناريو المالي بقوة)؛ إذ تحيط بالنيجر سبع دول (الجزائر، ليبيا، تشاد، نيجيريا، مالي، بوركينا فاسو، وبنين، عوضًا عن قربها البالغ من حدود جمهورية أفريقيا الوسطى قرب بحيرة تشاد) تشهد جميعها تقريبًا مشكلات خطيرة عابرة للحدود الوطنية مثل الإرهاب وعصابات الجرائم المنظمة وتدفقات اللاجئين وعمليات التعدين “غير الشرعية”.
خيارات “الانقلاب” وحدود الاستجابات الخارجية
لم يكن انقلاب 26 يوليو منقطعًا عن محاولات سابقة في عهد الرئيس المعزول محمد بازوم (الذي انتخب رئيسًا للبلاد في العام 2021 في انتخابات وصفت بالشفافة والنزيهة)، فقد جرت محاولة قبل بدء مهامه رسميًا بيومين فقط وأفشلها الحرس الرئاسي في وقتها. لكن الانقلاب الحالي اتسم بالتنظيم وترتيب أجندة واضحة لتوضيح حيثيات عزل بازوم وأبرزها تصاعد حالة عدم الأمن (الأمر الذي نفاه بازوم في مقال نشرته صحيفة الواشنطن بوست في 4 أغسطس الجاري ووصف فيه عهده بأنه شهد استقرارًا ملحوظًا بفضل التعاون مع الولايات المتحدة وفرنسا) وتراجع التوقعات الاقتصادية للبلاد على نحو أسهم بقوة في هشاشة الدولة. كما يُلاحظ في هذا السياق أنه رغم زيادة القوات الأجنبية في النيجر في الأعوام الأخيرة، لا سيما من الولايات المتحدة وفرنسا، وانتشار القواعد العسكرية في البلاد فإن نظام بازوم (خلافًا لما ذكره في مقاله الأخير المشار له) بات عاجزًا أمام هجمات المسلحين (لا سيما القاعدة وداعش وبوكو حرام) الذين يعملون داخل البلاد وأسفرت هجماتهم عن مقتل الآلاف وتشريد عشرات الآلاف في العقد الأخير ([9]).
وتمثل النيجر في الوقت الحالي، بثرواتها الكبيرة من اليورانيوم والبترول ودورها الاستراتيجية في الحرب على الإرهاب في غرب أفريقيا أهمية استراتيجية كبيرة للغاية للولايات المتحدة والصين وأوروبا وروسيا. لذلك يلاحظ أن استجابة الولايات المتحدة المعلنة منذ بداية الانقلاب حتى 6 أغسطس (مهلة إيكواس) تظل في حدود جهد احتواء تداعيات الانقلاب؛ فقد صرح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن (4 أغسطس) أن بلاده أوقفت بالفعل بعض برامج المساعدات الخارجية لحكومة النيجر فيما ستواصل تقديم مساعدات إنسانية وغذائية لها([10]).
وهكذا تبدو خيارات قادة الانقلاب في النيجر محسومة إلى حد ما في انتهاج سياسة وطنية تعيد أولويات إدارة البلاد في الملفات الأمنية – العسكرية والاقتصادية والسياسات الخارجية حسب ما رشح من المؤشرات الأخيرة. وعلى سبيل المثال فإن ترحيل فرنسا أعدادًا كبيرة من الفرنسيين والإيطاليين وغيرهم من النيجر في وقت قصير للغاية يؤشر إلى احتمالات تصعيد التوتر في العلاقات الفرنسية النيجرية (ودعم فرنسي واضح لأي تحرك عسكري تشنه إيكواس حسب مقرراتها).
وفيما تتحرى دول غرب أفريقيا سبل التحرك في النيجر فإنه يلاحظ أن فشل “إيكواس” والاتحاد الأفريقي في اتخاذ موقف صارم من الانقلابات السابقة في غينيا كوناكري ومالي وبوركينا فاسو (أو هامشية تأثير أدوات إيكواس لمعاقبة تلك الدول) كان بمثابة رسالة طمأنة للجيش النيجري، مع ملاحظة أن غرب أفريقيا (التي شهدت في الأعوام الأربعة الأخيرة سبعة انقلابات نجح ثلاثة منها) لم تشهد نجاحًا يذكر لأدوات ضغط إيكواس أو الاتحاد الأفريقي في تغيير مسار التطورات في هذه الدول وإن لم تهدد في الحالات السابقة على النيجر بالتدخل العسكري المباشر([11]).
وإلى جانب ما سبق، فإنه ثمة مخاوف من وقوع تصعيد غير مسبوق في الإقليم من سنوات (منذ تدخل قوات “إيكواس” في ليبيريا 1990، وسيراليون 1993)، أخذًا في الاعتبار أن تدخل “إيكواس” العسكري في سيراليون (بمشاركة نيجيرية لافتة ووازنة) على سبيل المثال لم يسهم في وقف الحرب الأهلية في البلاد إلا بعد عقد كامل تقريبًا (2002)([12]). وفي حال تدخل قوات إيكواس في النيجر فإنه لا يُتوقع، في ظل رفض شعبي متنام لمثل هذا التدخل، حسم الأمور على المدى القريب. لكن فشل جهود الوساطة التي أجرتها إيكواس (مع مغادرة وفدها العاصمة نيامي في 3 أغسطس قبل الموعد المحدد سلفًا دون التوصل لأفكار حول الإفراج عن بازوم) وعدم وضوح مُخرجات وفد المجموعة بقيادة الدبلوماسي النيجيري باباجانا كينجيبي Babagana Kingibe بعد زيارته للجزائر وليبيا ولقائه زعيمي البلدين ([13]) للتشاور ربما بشأن التدخل العسكري المحتمل.
ومع الساعات الأخيرة من “المهلة” الممنوحة من قبل “إيكواس” لقادة الانقلاب العسكري للإفراج عن بازوم والعودة إلى ما قبل 26 يوليو ومؤشرات استعداد إيكواس الجدي لشن حرب على النيجر، كشفت تقارير هامة (5 أغسطس) عن وضع قادة دفاع دول غرب أفريقيا خطة للتحرك العسكري إذا تجاوز قادة الانقلاب مهلة 6 أغسطس، بعد فشل جهود وساطة الجماعة بالفعل. ووفق هذه الخطة فإن رؤساء دول “إيكواس” سيتخذون “جماعيًّا” موعد وكيفية توجيه الضربة العسكرية للنيجر، كما أوضح عبد الفتاح موسى، مفوض إيكواس للشؤون السياسية، أن “جميع عناصر التدخل المفاجئ قد حددت هنا (في أبوجا) بما في ذلك الموارد المطلوبة وكيفية وموعد نشر القوة”([14]).
سيناريوهات تمدد الانقلابات و”عسكرة الديمقراطية” في الساحل وغرب أفريقيا
باتت جميع عواصم دول الساحل الأفريقي منذ العام 2016 عرضة للهجمات الإرهابية، مع ما شهدته عاصمة النيجر نيامي من عمليات مماثلة وعمليات خطف منذ العام 2011. واعتمدت النيجر، كما بقية دول الساحل، في مواجهة ظاهرة الإرهاب وعدم الأمن داخل حدودها على مجموعة من الوسطاء المحليين لإدارة أطراف البلاد. وقادت عقود من إقرار هذه السياسة (حتى قبل تعاظم الظاهرة الإرهابية)، التي ترجمت إلى سياسات لامركزية، إلى توفير غطاء مستدام لتوافق عملي بين المركز والأطراف ولم يقد إلى تمكين الديمقراطية. كما أن سياسة عدم المركزية لم تكن ناجعة في حل مشكلات التجمعات النيجرية المختلفة لا سيما في أطراف البلاد، وهي حالة متكررة في جميع دول الساحل وأغلب دول غرب أفريقيا، وأن ضعف الدولة، من جهة الموارد، لا يمكن تعويضه بتقسيمها إلى مزيد من الأقاليم. ومع تعاظم تداعيات الأنشطة الإرهابية (وعجز القوات الدولية وفي مقدمتها الفرنسية عن مواجهة الظاهرة مواجهة ناجعة) سعت النيجر وبقية دول الساحل للتعاون مع “وسطاء جدد” أو الانسحاب من أقاليم كاستجابة منتظمة عدم الأمن بدلًا من بذل جهود تراكمية لبسط سيطرة الحكومة على أطراف البلاد (لا سيما في المنطقة الحدودية مع مالي وبوركينا فاسو والتي شهدت كثافة للعناصر الإرهابية في العقد الأخير) ([15]).
ويبدو الوصف الموجز السابق لطبيعة الأزمة التي تخرج فيها الانقلابات العسكرية متطابقًا تقريبًا مع أحوال دول أخرى (أبرزها تشاد وبنين من جهة الانقسامات الاجتماعية والإثنية ووجود فوارق واضحة بين سكانهما على أسس جغرافية وسياسية واضحة بين الشمال والجنوب). ويُتوقع في ظل هذا التماهي في الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية الضاغطة على الأوضاع المعيشية لشعوب الإقليم، وما يرتبط بها من مقاربات أمنية – عسكرية وتغليب الارتباطات مع القوى الغربية التقليدية على اعتبارات المصالح الوطنية وقوع مزيد من الاضطرابات في دول الإقليم وتزايد مقبولية إقدام جيوش دول الإقليم على المبادرة بتغييرات سياسية عاصفة ترتبط بالضرورة بتغييرات في الترتيبات الأمنية – العسكرية ومعادلات المصالح الاقتصادية “المشتركة” سواء مع دول أو شركات متعددة الجنسيات، وكذلك مستقبل هذه المصالح مع كافة الشركاء الدوليين (بما في ذلك الشركات متعددة الجنسيات أو الخاصة الكبيرة).
ويمكن رصد سيناريوهات الأوضاع في الإقليم على النحو التالي وفق سيناريوهين رئيسين:
- تمدد ظاهرة الانقلابات العسكرية في الإقليم في المدى القريب في ظل ترشح أزمات مماثلة في دول أخرى مثل تشاد وبنين وسيراليون (التي شهدت بالفعل محاولة انقلابية نهاية يوليو الماضي). ويعزز هذا السيناريو بقوة نجاح تجربتي مالي وبوركينا فاسو (حتى الآن) في فرض مواجهة حاسمة للجماعات الإرهابية والبدء في بناء جيش وطني قوي وتبني سياسات اقتصادية تقوم بالأساس على حسن إدارة الموارد، مما يقدم نموذجًا يحظى بتقدير شعبي متزايد في العديد من الدول ويعزز خطاب “مواجهة الاستعمار الجديد”. ويتوقع في حال قدرة المجلس العسكري الانتقالي في النيجر على تجاوز الأزمة الراهنة وتحمل الضغوط الإقليمية والغربية تعزيز هذا السيناريو بقوة.
- تراجع هذا التمدد: يقوم هذا السيناريو على تصور نجاعة التدخل العسكري لقوات إيكواس في فرض عودة محمد بازوم للرئاسة وخروج قادة الانقلاب من المشهد السياسي مما سيمثل نقطة انطلاق لتحجيم التأثير المتزايد لتجربتي مالي وبوركينا فاسو وجذب دعم دولي وغربي خلف جهود إيكواس لعزل البلدين ومن ثم إعادة الأوضاع لما قبل الانقلابين بهما. غير أن هذا السيناريو يظل محكومًا بخطورة تدهور مجمل الأوضاع في النيجر والإقليم حال تدخل إيكواس عسكريًّا، وصعوبة توقع حسم هذا التدخل للحلول السياسية المفترضة حسب أجندة التجمع الإقليمي، ومن ثم فإن السيناريو نفسه وتداعياته يتضمن عوامل تعزيز السيناريو الأول.
الهوامش
[1] Manghezi, Alpheus, Class, Elite and Community in African Development, Scandinavian Institute of African Studies, Uppsala, 1976, pp. 29-30.
[2] Olayinka Ajala, What caused the coup in Niger? An expert outlines three driving factors, The Conversation, July 31, 2023 https://theconversation.com/what-caused-the-coup-in-niger-an-expert-outlines-three-driving-factors-210721
[3] Ake, Claude, Democracy and Development in Africa, The Brookings Institution, Washington, D. C. 1996, pp. 1-2.
[4] Charlick, Robert B. Niger: Personal Rule and Survival in Sahel, Westview Press, San Francisco, 1991, p. 129.
[5] Ibid, pp. 129- 139.
[6] Mueller, Lisa Religious Violence and Democracy in Niger, African Conflict and Peacebuilding Review , Vol. 6, No. 1 (Spring 2016), pp. 89-90.
[7] Olayinka Ajala, What caused the coup in Niger? An expert outlines three driving factors, The Conversation, July 31, 2023 https://theconversation.com/what-caused-the-coup-in-niger-an-expert-outlines-three-driving-factors-210721
[8] The Associated Press, Niger’s mutinous military cuts ties with France, East Bay Times, August 4, 2023 https://www.eastbaytimes.com/2023/08/04/nigers-mutinous-military-cuts-ties-with-france/
[9] Olayinka Ajala, What caused the coup in Niger? An expert outlines three driving factors, The Conversation, July 31, 2023 https://theconversation.com/what-caused-the-coup-in-niger-an-expert-outlines-three-driving-factors-210721
[10] Camillus Eboh, Boureima Balima and Felix Onuah, West African leaders plan possible Niger intervention as deadline looms, Reuters, August 5, 2023 https://www.reuters.com/world/africa/west-african-bloc-seeks-solution-niger-coup-deadline-nears-2023-08-04/
[11] Olayinka Ajala, What caused the coup in Niger? An expert outlines three driving factors, The Conversation, July 31, 2023 https://theconversation.com/what-caused-the-coup-in-niger-an-expert-outlines-three-driving-factors-210721
[12] SAMUEL MOMODU, THE SIERRA LEONE CIVIL WAR (1991-2002), The Black Past, January 16, 2017 https://www.blackpast.org/global-african-history/sierra-leone-civil-war-1991-2002/
[13] Peter Beaumont and Angelique Chrisafis, Diplomatic mission to Niger fails to secure release of ousted president, The Guardian, August 5, 2023 https://www.theguardian.com/world/2023/aug/04/diplomatic-mission-to-niger-fails-to-secure-release-of-ousted-president
[14] Camillus Eboh, Boureima Balima and Felix Onuah, West African leaders plan possible Niger intervention as deadline looms, Reuters, August 5, 2023 https://www.reuters.com/world/africa/west-african-bloc-seeks-solution-niger-coup-deadline-nears-2023-08-04/
[15] Thurston, Alexander, Jihadists of North Africa and the Sahel: Local Politics and Rebel Groups, Cambridge University Press, Cambridge, 2020, pp. 193-4.