كتبت – أماني ربيع
رغم استقلال معظم الدول الأفريقية منذ عقود، إلا أنها حتى الآن، لاتزال تعاني من إرث الاستعمار البغيض الذي خلف وراءه بلاد القارة السمراء في فوضى وصراعات وانقسامات أدخلتها في حروب دامية حرمتها من التطور الاجتماعي والسياسي بشكل سوي، ليس هذا فحسب، بل وحرمتها أيضا من جني تراث إرثها الثقافي والإنساني، حيث خرج المستعمر بعد أن جرف البلاد من ثرواتها وجعلها تابعة له، وفي غمرة الحروب والفتن سرقوا كنوزها ليعرضوها في متاحف أوروبا وتحقق الملايين، بينما الأفارقة يعانون من أجل الفتات.
لكن مؤخرا، بدأت الأصوات تعلو على لسان جيل جديد من المثقفين الذين يريدون أن تدفع أوروبا ثمن أفعالها، وخرجت دعوات كثيرة لإعادة التحف الثقافية الأفريقية التي لا يصح أن تعرض للبيع في المزادات، لأنها لا تقدر بثمن ولأنها ليست ملكا لشخص بعينه، بل ملكا لشعوب بأكملها.
مذبحة “بنين برونز”
في القرون الماضية كانت مملكة بنين القديمة، التي أصبحت جزءا من نيجيريا حاليا، واحدة من ألمع الحضارات السوداء، وعند دخول علماء الآثار فيها انبهروا بجمال المدينة وعمارتها وبأسوارها التي قدرت بأنها أطول أربع مرات من سور الصين العظيم، دخلها البريطانيون في التاسع من فبراير عام 1897، وأطاحوا بملكها بحلول الثامن عشر من نفس الشهر، وأحرق جنود الجيش البريطاني المدينة وأعلنوا سقوطها وهم يرقصون.
وخلال مذبحة استمرت لعشرة أيام، صوفها الأرشيف الوطني البريطاني بالانتقامية، عقابا على قتل رجال ملك بنين أوبا أوفرونراموين، لسبعة مسؤولين بريطانيين، طالبوا بالسيطرة على التجارة الإقليمية، وخلال المذبحة نهب الجنود كنوز القصر الملكي وتحفه، وكذلك منازل المواطنين، وتقدر السرقات بنحو 3000 قطعة أثرية، تعرف باسم “بنين برونز”، نقلت بأكملها إلى بريطانيا، وأرسل نحو 40% منها للعرض بالمتحف البريطاني، وتم بيع الباقي إلى جامعي التحف والمعارض الخاصة في أوروبا والولايات المتحدة، وانتهى أغلبها في أكبر متاحف الغرب مثل: متحف متروبوليتان للفنون في نيويورك والمتحف الإثنولوجي في برلين.
لم يكن ما حدث أمرا فرديا خاصا ببنين، فقد صار قصة مألوفة في جميع أنحاء أفريقيا، واليوم نحو 90 إلى 95 من تراث أفريقيا موجود خارج القارة.
وبحسب موقع “فورين بوليسي”، كلف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عام 2018، بعمل تقرير ينظر غلى الطريقة المخزية التي تمت بها سرقة الآثار الأفريقية، بعد انهيار الإمبراطوريات الاستعمارية التي مكنت من هذا النهب، وذكر التقرير أنه ربما حان الوقت لأن تقوم المؤسسات الأوروبية بالنظر في مطالب الدول الأفريقية لاسترداد التحف المسروقة، وعرضها في المتحاف الأفريقية حيث تنتمي.
من يملك التاريخ
ومع إندلاع احتجاجات Black Lives Matter، في يونيو الماضي، عقب مقتل المواطن الأمريكي من أصل افريقي جورج فلويد، لم يعد الغضب من أجل الفوز بحقوق اجتماعية أو سياسية، وامتد الغضب إلى التماثيل التي تحتفي بذكرى الرق والاستعمار، وتحدث نشطاء عن ضرورة إعادة القطع الأثرية والتحف التي تمت سرقتها خلال عهد الاستعمار، أو تقديم تعويض مالي مباشر.
وفي خلال إحدى مسيرات الاحتجاج في باريس، حاول المتظاهرون إزالة عمود جنائزي يعود لمنطقة جنوب السودان في القرن التاسع عشر، من متحف ” Quai Branly”، وعلق الفنان الكونغولي موازولو ديابانزا الذي قاد تلك المسيرة في مقطع فيديو انتشر على الإنترنت، قائلا: ” سأحضر لأفريقيا ما تم أخذه، لقد سرقت معظم هذه الأعمال خلال عهد الاستعمار، ونحن لا نريد سوى العدالة.”
لكن حتى الآن وبرغم كل الاحتجاجات، التي تطالب بانهاء استعمار المتاحف، لم يكن المردود قويا فيما يتعلق باستجابة المتاحف الأوروبية، مثلا وافق متحف فيكتوريا وألبرت بلندن على طلب إثيوبيا بإعادة كنوزها المنهوبة، في صورة قرض طويل المدى.
وتعرضت بيوت المزادات الخاصة لانتقادات أيضا لبيع مواد سُرقت خلال الحرب الأهلية بنيجيريا، ورغم الحملات الغاضبة على الإنترنت، والرسالة شديدة اللهجة من اللجنة الوطنية للمتاحف والآثار في نيجيريا التي طالبت دار كريستيز للمزادات بوقف بيع التماثيل الأثرية، تم المزاد بالفعل، وبيعت التماثيل بـ 212،500 يورو.
وإذا قمنا بجردة لما تمتلكه بعض المتاحف الكبرى في أوروبا، سنجد أن في في المتحف البريطاني وحده نحو 73000 قطعة من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، بينما تمتلك فرنسا 90.000 قطعة أثرية، سرقت معظمها خلال عهدها الاستعماري.
ويضم المتحف الملكي المثير للجدل في بلجيكا أكثر من 120.000 قطعة أثرية – معظمها مأخوذ من الكونغو البلجيكية خلال نظام الملك ليوبولد الثاني، ذلك النظام البغيض الذي اتسم بالدموية، وغرقت خلاله الكونغو في حملات رق واغتصاب وتشويه، وقتل ما لا يقل عن 10 ملايين كونغولي.
بينما يضم منتدى هومبولت الألماني حوالي 75000 قطعة أثرية ، منها 10000 قطعة نهبتها القوات الألمانية خلال انتفاضة ضد الحكم الاستعماري في تنزانيا الحالية، قُتل خلالها نحو 3000 ألف مواطن تنزاني.
هذا يعني أن تلك التماثيل لا تحكي فقط عن عظمة التاريخ الأفريقي، وإرثه الحضاري الملهم، الذي يدحض اتهامات الغرب للأفارقة بالجهل والتخلف، لكنها أيضا تحكي عن سنوات طوال من العنف والدموية وعن ملايين الأرواح الأفريقية التي زهقت من أجل الحصول عليها.
وتضامن مدير المتحف البريطاني هارتويج فيشر، مع الجالية السوداء البريطانية، والجالية الأمريكية الأفريقية، والجالية السوداء في جميع أنحاء العالم”، وأصدر بيانا في شهر يونيو الماضي قال فيه، إن المتحف سيواصل البحث والاعتراف ورصد التاريخ الاستعماري لبريطانيا ومعرفة تأثيره على المتحف، وصف البعض البيان بأنه مجرد تمثيل وكلام لإسكات الغضب، وما أثبت ذلك هو أن المتحف البريطاني فعليا، رفض المتحف البريطاني جميع مطالبات استرداد ما يمتلكه من قطع أثرية أفريقية.
وفي حديث لصحيفة الجارديان البريطانية، قال محامي حقوق الإنسان البارز جيفري روبرتسون، إن “أمناء المتحف البريطاني أصبحوا أكبر متلقين للممتلكات المسروقة في العالم”.
وأضاف: “الطريقة البربرية التي سرقت بها “بنين برونز” تعادل جريمة حرب”.
وسبق وتطرق روبرتسون لذات الموضوع في كتاب أصدره عام 2019، بعنوان “من يملك التاريخ ؟”.
محاولات استعادة
أكثر من دولة أفريقية طالبت بشكل رسمي باستعادة تحفها الفنية، منها: مصر وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وغانا والسنغال، هذا الأمر أقلق جامعي التحف الغربيين الذين رأوا أن الاستجابة لتلك المطالب خطر على تلك التحف، وأرجعوا قلقهم إلى أن الكثير من المتاحف الفريقية تفتقر إلى معايير الأمان والقدرة على الحفاظ على تلك الأعمال من التلف أو السرقة.
وفي تعليق لصحيفة نيويورك تايمز، قال برنار دي جرون وهو تاجر تحف يقيم في بروكسل، وخو الذي قام ببيع التماثيل النيجرية المثيرة للجدل لدار كريستيز عام 2010، إنه بفضل قدوم تلك التحف إلى الغرب تم حفظ تلك الأعمال الفنية العظيمة وتقديمها للعالم، بدلا من حرقها وتدميرها خلال الحروب والصراعات.
ووفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة يوجوف، يعتقد ثلث البريطانيين أن البلدان الأفريقية أصبحت في وضع أفضل بعد أن تم استعمارها من قبل البريطانيين.”
بعض الدول الأفريقية بدأت في بناء مرافق جديدة والترويج لها كأماكن تصلح للفنون والتحف المعادة، مثل متحف الحضارات السوداء في السنغال، الذي تم الانتهاء منه في ديسمبر 2018، كما افتتح مؤخرًا متحف خاص في لاجوس بنيجريا، بتمويل من يمسي شيلون واحد من أكبر جامعي التحف في أفريقيا، ويضم أكثر من 1000 عمل فني تبرع به شيلون، بما في ذلك كنوز تعود إلى مملكة بنين في القرن السادس عشر، وفي توجو تم تحويل قصر لومي، المقر السابق للقوة الاستعمارية الألمانية والفرنسية، إلى مساحة للتراث الثقافي، بالإضافة إلى متحف الكونغو الوطني ومتحف بنين الملكي في نيجيريا.
بدأ شيلون جمع مجموعته الخاصة التي تضم أكثر من 7 آلاف عمل فني أفريقي معظمها من الفن المعاصر، عندما طان طالبا في جامعة أبيدجان في السبعينيات، ويحرص حاليا على تقديم رؤية خاصة بتمويل أفضل للقطاع الثقافي في نيجيريا، وأعرب عن رغبته في صفقة يعترف من خلالها المتحف البريطاني بحقوق مدين بنين، وقال لـ “فورين بوليسي”: “سوف يدفعون لنا مقابل تلك الأعمال، لأنهم يعترفون بملكيتنا القانونية.”
وفي عام 2019 ، وافقت ألمانيا مبدئيا على النظر في مطالبات الاسترداد، وخصصت أكثر من 2 مليون دولار للبحث في منشأ المقتنيان التي تحتفظ بها المؤسسات الألمانية، وفي فرنسا أبدى الرئيس ماكرون مرونة في الاستجابة للمطالبات الفريقية، وغرد خلال رحلته إلى بوريكنا فاسو عام 2014، قائلا إنه لا يمكن أن يكون التراث الأفريقي سجينا للمتاحف الأوروبية، وكلف في العام التالي بتقرير أوصى بإعادة الكنوز الأفريقية في المتاحف الفرنسية، وتعهد بإعادة 26 قطعة مسروقة إلى دولة بنين، لكنه لم يف بهذا الوعد إلى الآن.
ويحتاج قرار إعادة القطع الأثرية الأفريقية إلى تشريع برلماني، حيث تمنع القوانين الأورويية المتاحف من التخلي عن مقتنيات داخل مجموعات.
وبدأت المؤسسات البريطانية في عرض إستعارة للتحف بدلا من ردها، وقدم المتحف البريطاني صفقة لمتحف بنين الملكي، المقرر افتتاحه في عام 2023 ، لكن في كل الأحوال ستحتفظ المؤسسة البريطانية بالملكية القانونية لجميع القطع الأثرية.
وقامت الحكومة النيجيرية بشراء تمثال من مجموعة “بنين برونز” من المتحف البريطاني، وهو ما أثار الاستياء بين المواطنين تجاه تلك الخطوة وتكرارها، وقوبلت اقتراحات وعروض الاستعارة بانتقادات واسعة، حيث وصف الفنان النيجيري فيكتور إيكهامينور، هذا الأمر بـ “الإهانة”، وقال: “إن اتفاقيات القروض هذه تفترض أن لها الحق القانوني في تلك الأعمال، فعندما يمتلك شخص ما شيئًا لا يخصه ولكنه يصر على إقراضه لمالك تلك الأعمال، أعتقد أنه أمر غريب”.
تمثل بنين برونز التي تضم أعمالا من العاج المنحوت والتماثيل البرونزية واللوحات النحاسية التي تحتفي بالفتوحات، جزء لا يتجزأ من قصة نيجيريا الوطنية، والأفارقة يستحقون أن ينعموا بتراثهم الأفريقي دون حاجة لوصاية من أوروبا، لكن إلى الآن لا أحد يعلم إذا كانت الاحتجاجات وجملات الانتقادات قد تؤدي إلى نتيجة في هذا الشن أم لا، لكن هذا لا ينفي أنها حركت المياه الراكدة، ووضعت أوروبا وجها لوجه أمام ميراثها البغيض من العنصرية والاستعلاء العرقي، وبدأ الآن حسابا أخلاقيا يدور مع المتاحف والمؤسسات الثقافية الغربية، بمرور الوقت قد تفتح مجالا لمحادثات حقيقية ومحاولات لتصحيح أخطاء الماضي.