كتب – أماني ربيع
دائما ما تسلط الأضواء على حركات الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها الأشهر والأكثر ضراوة فيما يتعلق بالعنصرية تجاه ذوي البشرة السمراء في الوقت المعاصر، لكن حتى في أوروبا التي تعتبر السبب الأول في شتات الأفارقة وتغريبتهم على وطنهم الآم، واجهت الأجيال اللاحقة من ذوي الأصول الأفريقية عنصرية شرسة، ومعاملة غير أدمية، رضخوا ليها حينا، ثم ثاروا عليها بعد ذلك في محاولة لتغيير واقعهم المر، وجعل الحياة أكثر احتمالا.
ومن ضمن هؤلاء كان روي هاكيت الذي وصل إللى بريطانيا عام 1952، وعاش لسنوات في واقع مظلم، لكن في أحد الأيام الأولى من عام 1963، خلال سيره في مقاطعة بريستول رأى رجلا يبكي، خارج شركة Bristol Omnibus، وعندما سأله عن سبب بكائه، قال الرجل أنه حزين بعد إخباره أنه لا يمكنه إجراء مقابلة لوظيفة هناك لمجرد أنه أسود البشرة.
لاتزال مرارة هذه الذكرى عالقة بحلق هاكيت الذي يناهز الآن 92 عاما، يقول: “رفضوه ليس لأنه أجنبيا، أو جاميكيا، بل لأنه أسود، هذا أمر مهين.”
عنصرية شريط الألوان
في مقابلة مع صحيفة “الجارديان” البريطانية، يتذكر هاكيت ذلك اليوم مؤكدا أنه بدا كما لو كان “وُلد ناشطا”، حيث فجر فيه هذا الموقف غضبا كبيرا، فذهب إلى شركة الحافلات لأنه رأى أن تحدي العنصرية من واجبه، طلب مقابلةا لمدير وأخبره أنه ينبغي معاملة السود على قدم المساواة، ناقش المدير لبعض الوقت، حتى رضخ ووعد بإجراء مقابلة مع الرجل، وبعد 3 سنوات، التقى الرجلين مجددا، وصعد هاكيت للحافلة وشعر بالرضا وهو يرى الرجل الباكي جالسا وراء عجلة القيادة
ربما يبدو هذا الانتصار بسيطا، لكن للوصول إلى هذه النهاية السعيدة تطلب الأمر وقتا، لأن الموقف لم ينته عند هذا المدير، واضطر لإعادة ذات النقاش مع إدارة شركة الحافلات بأكمالها، والهجوم على الهياكل الإدارية التي سمحت بإنشاء فصل عنصري غير رسمي بالمملكة المتحدة، واستغرقه الأمر أشهرا من مقاطعة السود للحافلات لإلغاء هذا التمييز السافر.
في ذلك الوقت ، كان هناك ما يسمى بـ “شريط الألوان” ويعني أنه يمكن قانونًا حظر الأقليات العرقية من السكن والتوظيف والأماكن العامة، فمثلا قبل إقرار قانون العلاقات العرقية لعام 1965، كان من القانوني تعليق اللافتات التي تقول “لا للسود ، ولا الأيرلنديين ، ولا الكلاب” في الأماكن العامة، وحتى بعد قانون العلاقات العرقية لم يكن التمييز في السكن والتوظيف مشمولاً بقانون مكافحة العنصرية.
وكان السكن في بريطانيا هو أكثر الأماكن التي تم فيها تطبيق نظام “شريط الألوان”، وهو ما يفسر ميل الأقليات للعيش في المدن الداخلية، حيث كانت هناك المنازل لوحيدة المتاحة لهم، لكن استمرت النقابات العمالية وأرباب العمل ونوادي العمال والحانات في ممارسة التمييز ضد السكان السود والآسيويين.
في تلك السنوات كانت شركة Bristol Omnibus للحافلات مشهورة بالتمييز العنصري في التوظيف، يقول هاكيت: سُمح للعمال من المستعمرات بـ “غسل الحافلات ليلاً” ، لكن مُنعوا من العمل بأجر أعلى في أطقم الحافلات، ولم تكتف الشركة بتأييد هذا الفصل فحسب، بل دافعت عنه بقوة أيضًا، حيث رفض الفرع المحلي لاتحاد النقل والعمال العام، أن يفقد أعضاؤه وظائفهم لصالح المهاجرين.
يرى هاكيت أن المخاوف الاقتصادية كانت تبدو من على السطح المحرك الأبرز لهذه العنصرية، لكن الدافع الحقيقي كان مستترا، وهو خوف النساء البيض وعدم شعورهم بالأمان مع الرجال السود الذين يعملون بالحافلات، كان هناك اعتقادا بأن الرجال السود يميلون للعنف.
ومن الذكريات التي يحملها روي هاكيت عن تلك الفترة أيضا، هو غضب جاره عندما رأه يغسل سيارته “فوكسهول كريستا”، وكيف بدأ الصراخ في وجه بأنه ليس من المناسب أن يمتلك سيارة فاخرة ومنزل خاص بينما قد وصل للتو، لكن هاكيت أخبره أمه يكافح كمهاجر في بريطانيا منذ سنوات وليس خطأه أن جاره لا يملك سوى دراجة نارية بها عربة جانبية مقابل سيارته.
نشأ هاكيت في ترينش تاون في كينجستون بجامايكا ، في الشارع السابع الذي تم تخليده في إحدى أغنيات بوب مارلي، كان يعمل وسيطا للتأمين ضمن وظائف أخرى خلال شبابه لكسب ما يكفي لتناول الطعام.
حياة الكلاب
في عام 1952 ، سافر هاكيت من جامايكا إلى المملكة المتحدة بحرا، كان في الرابعة والعشرين من عمره عندما هبط في ليفربول حيث عاش بعض الوقت، قبل أن ينتقل إلى لندن وولفرهامبتون وأخيراً بريستول.
وصف سنواته الأولى في بريطانيا بـ “حياة الكلاب”، وكان السكن أكبر مشاكله، في يومه الأول في بريستول، عام 1956 ، تجول في أنحاء المدينة بحثًا عن منزل داخلي، وفي كل مرة قوبل طلبه بالرفض حتى في الحصول على مجرد غرفة بمجرد أن رأى مالكها أنه أسود اللون، واضطر لأن يمضي ليلته الأولى نائماً في المدخل.
وجد في النهاية مسكن في المدينة، مجرد غرفة واحدة – مشتركة مع ابن عمه ورجلين آخرين. في الغرفة الأمامية بالطابق السفلي ، كان هناك عائلة لديها ثلاثة أطفال ؛ وبالمثل كانت كل غرفة أخرى في المنزل مكتظة، كل هؤلاء تشاركوا في حمام واحد خارج المبنى.
لم يكن هناك خيارات أمام الرجل الأسود لقضاء أوقات الفراغ، حيث لم يكن آمنا لرجل أسود وحيد، أو زوجين، الذهاب إلى وسط المدينة بعد حلول الظلام، كانت العنصرية تفرض وجود مجموعة من ستة أو سبعة أشخاص على الأقل حتى يكونوا في مأمن من الاعتداء، الذي كانت الشرطة تغض الطرف عنه.
ساهم هاكيت في تأسيس جمعية الآباء والأصدقاء في بريستول، وهي الجمعية التي تحدت مجلس بريستول، وضغطت عليه لتوفير السكن والوظائف، لكن أهم غنجازاتها كان مقاطعة الحافلات عام 1963.
منذ ذلك الحين انخرط هاكيت في النضال من أجل أبناء جلدته، رغم أنه لم يعمل مطلقا بالحافلات، لكن هذه الخدمة التي كان عليه استخدامها باستمرار، كانت تذكيرا يوميا بالعنصرية في المجتمع.
مقاطعة من أجل التغيير
جنبًا إلى جنب مع أربعة رجال آخرين هم: أوين هنري ، وأودلي إيفانز ، والأمير براون ، وبول ستيفنسون، حشد هاكيت المجتمع الكاريبي المكون من 3000 فرد في مقاطعة، الفكرة مستوحاة جزئياً مما حدث في أمريكا عام 1955، حين رفضت روزا باركس التخلي عن مقعدها، قام هنري بالتواصل مع الأمريكيين الأفارقة الذين اضطروا للجلوس في “مؤخرة الحافلة”، وقام ستيفنسون بإجراء تجربة رتب فيها مقابلة مع رجل يدعى جاي بيلي، لتأكيد وجود وظائف شاغرة، وعندما اتصل مرة أخرى لإخبار الشركة أن بيلي كان أسودًا ، تم إلغاء المقابلة.
بعد ذلك تم إعلان المقاطعة في مؤتمر صحفي يوم 29 أبريل 1963، وحظيت باهتمام قومي كأول مقاطعة من نوعها في بريطانيا، نظم هاكيت حواجز على طريق فيشبوندز، ضمنت عدم تمكن الحافلات من تجاوز حاجزها إلى وسط المدينة، كان هناك تصميم كبير لدى النشطاء بحيث منعوا دخول أو خروج أي حافلة.
كان هناك دعم للمقاطعة من قبل النائب المحلي توني بين، والطلاب في جامعة بريستول، والجماعات المناهضة للعنصرية، وحتى أفراد من عامة الناس، وأيدهم زعيم حزب العمال، هارولد ويلسون وتمنى كل النجاح للمحتجين، لكن في مقابل ذلك واجهوا أيضا تهديدات بالعنف، ولم يردعهم ذلك، يقول هاكيت: “ما بدأناه الآن لن يتوقف حتى نحصل على ما نريد”.
استغرق الأمر شهورًا من الاضطراب، ولكن، أخيرًا، في 28 أغسطس، اليوم الذي ألقى فيه مارتن لوثر كينج خطابه الشهير “لدي حلم” على درجات نصب لنكولن التذكاري في واشنطن العاصمة، استسلم الاتحاد والشركة لمطالب المقاطعين، وتم رفع شريط الألوان في شركة الحافلات.
وزاد نجاح المقاطعة وحجمها ومستوى الدعم الشعبي لها من الضغط لتغيير القانون، وتمرير تشريع مناهض للعنصرية.
تم تكريم هاكيت وأصبحت صورته موجودة في المدارس، حتى أن حفيده اكتشف حكاية جده عندما رأى صورته على حائط مدرسته، هو نفسه حتى وقت قريب، كان يتحدث في المدارس حول المقاطعة وحياته وتجاربه في بريستول، ويقول إن الأطفال حريصون دائمًا على معرفة كيف كانت الحياة “في ذلك الوقت”.
بحكم السن وتقدم العمر تقاعد هاكيت من العمل في الخطوط الأمامية ، لكن إرثه في بريستول لم يُنسى، ولا يزال يقدم المساعدة للنشطاء الشباب – إذا طلبوا ذلك ويكون راضيا بـ “الجلوس في الظل”، وكان متابعا لاحتجاجات “حياة السود مهمة” التي أعطته الأمل في مزيد من التغيير لصالح ذوي البشرة السوداء.