د. أماني الطويل
مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
على الرغم من أن تشاد تلعب تقليديًّا ومهمًّا على الصعيد الأمني والعسكري في وسط أفريقيا، خصوصا خلال الثلاثة عقود الأخيرة، ويصنف جيشها كأحد أقوى جيوش دول تلك المنطقة، إلا أن هذه القدرات تبدو حتى الآن مقيدة وغير قادرة على تحقيق إنجاز مؤثر، يساهم في تحجيم قدرات جيشها؛ التنظيمات الإرهابية من ناحية، أو انتشار الجريمة المنظمة من ناحية أخرى، وذلك إلى الحد الذي جعلها مؤخرًا تعلن انسحابها من كافة تحالفاتها العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي، وهو الأمر الذي من المتوقع أن يسفر عن خلل في الموازين الأمنية على الأرض لصالح التنظيمات الإرهابية، ويبدو مهددًا للمصالح الفرنسية نسبيًّا، وللتفاهمات الإقليمية في المجال الأمني والعسكري التي تم إبرامها خلال الفترة الماضية بين مصر وتشاد في محاولة لدعم الاستقرار الإقليمي، ومنع الاختراقات للحدود الغربية لمصر.
ويبدو لنا أن القرار التشادي ليس بمعزل عن التفاعلات الإقليمية الأفريقية من جهة والأغراض التشادية من فرنسا من جهة أخرى، حيث يلعب عدد من العوامل أدوارًا مؤثرة على الفاعلية التشادية في مواجهة الإرهاب، منها تداخل قضايا محاربة الإرهاب مع الأجندة الداخلية لتشاد ذاتها، وطبيعة أهدافها الإقليمية، وبالتأكيد ينعكس هذا التداخل على حالة التنسيق الإقليمي في مواجهة التنظيمات الإرهابية، حيث تجري تفاعلات هذه المعادلة تحت مظلة العلاقات الفرنسية التشادية التي تملك بدورها تعقيدًا في عدد من المستويات عكس ما يبدو أحيانًا.
تاريخيًّا تدخلت تشاد أكثر من مرة في عدد من الصراعات الداخلية الأفريقية، خصوصًا في أفريقيا الوسطى، حيث بدأت أدوارها العسكرية هناك عام ١٩٩٦ ولم تنقطع؛ فقد ساندت الرئيس بويزيزي للوصول إلى السلطة عام ٢٠٠٣، ثم ناصرت معارضيه عام ٢٠١٣، ودعمت ميليشيا السليكا التي تم تصنيفها كمناصرة للمسلمين ضد المسيحيين بعد التدخل العسكري الفرنسي في تشاد، فتكونت ميليشيا مسيحية هي الأنتي بلاكا، وجرت حروب لها طابع طائفي في أفريقيا الوسطي لم يهدأ أوارها بعد على نحو كامل.
كان لتشاد أيضا حضور عسكري في أزمة الصراع على السلطة في ساحل العاج عام ٢٠١١ بين الحسن وتارا وغريمه، وكذلك تشاد لها حضور في أزمتي ليبيا والسودان حاليًا على المستويين السياسي والعسكري؛ إذ تملك علاقات مميزة بالجماعات القبلية المتداخلة مع تشاد في الجنوب الليبي والغرب السوداني، ولعل ذلك ما جعل الاتهامات حاضرة لها في السودان على خلفية ما تم تداوله من دعم تشادي للمحاولة الانقلابية ضد البشير التي قدمت من دارفور عام ٢٠٠٨، ودحرت في مايو من ذات العام على أبواب أم درمان، كما تكثر التكهنات حاليًا بطبيعة علاقاته بقادة القبائل الدارفورية خصوصًا خلال مطلع ٢٠١٩ بعد الإطاحة بالبشير، حيث عقدت بأنجمينا عدة لقاءات لم يتم الإعلان عنها.
وإلي جانب هذا الحضور السياسي لتشاد في الإقليم فإن هناك حضورًا عسكريًّا للجيش التشادي يسجل وجودًا من أفريقيا الوسطي وحتى مالي، وهذا الحضور نجده تحت عنوان مكافحة الإرهاب، حيث يتم اتهام تشاد أحيانًا بممارسة حروب بالوكالة لصالح فرنسا، ويذكر في هذا السياق أن الانقلاب الفرنسي على الرئيس بوزيزي في أفريقيا الوسطى جاء بعد استعانة الأخير بشركات جنوب أفريقية في مجالات التنقيب عن الموارد الطبيعية خصوصًا النفط.
ونظرًا للقدرات العسكرية لتشاد غير المتكررة في المنطقة، حيث تملك قوات تناهز الخمسين ألف مقاتل حاليًا، فإنها تشارك في تحالفات عسكرية إقليمية على مستويين؛ الأول القوة المشتركة المشكلة عام 2015 مع الدول الثلاث الأخرى المطلة على البحيرة (نيجيريا، الكاميرون، النيجر)، والثاني ضمن تحالف دول الساحل الخمس ضد الجهاديين الذين يستهدفون مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ويعتبر بناء على ذلك حليفًا مهمًّا لعملية برخان الفرنسية في المنطقة، حيث نشط الجيش التشادي منذ ٢٠١٥ لمقاتلة بوكو حرام التي وسّعت أنشطتها حتى بحيرة تشاد على الحدود مع النيجر والكاميرون، وتم دعم القوات التشادية في مثلث بوركينا فاسو النيجر ومالي بحوالي ٥٠٠ عنصر عسكري إضافي في ٢٠١٧ بعد تفاهم تشادي فرنسي في قمة ”بو“ بفرنسا.
القرار التشادي الراهن بالانسحاب من القوة الإقليمية لمحاربة الإرهاب، هو انعكاس مباشر للهجوم الذي نفذه تنظيم بوكو حرام داخل الأراضي التشادية وفي منطقة “بوهوما” القريبة من عاصمة البلاد، بغرض واضح هو تدشين تحدٍّ أمني داخلي لتشاد يحجم قدراتها العسكرية الإقليمية، وهي العملية التي راح ضحيتها ١٠٠ عنصر عسكري تشادي، ويبدو أن نجاحها مرتبط بأن العناصر العسكرية التشادية المدربة مهنيًّا، هي في القوات متعددة الجنسية خارج البلاد بدول الساحل الأفريقي الخمس، بينما تبدو العناصر المحلية أقل قدرة، وذلك في ضوء ما هو معروف عن هيكلة الجيش التشادي الذي يستند إلى عناصر قبلية لشراء ولائها السياسي للرئيس ديبي الذي يواجه تحديات داخلية كبيرة أيضًا في ضوء استمراره في الحكم على مدى ثلاثة عقود، وهي العناصر التي ربما تكون أمية وضعيفة التدريب حسبما يذكر الباحث التشادي آدم يوسف موسى.
على أية حال في ضوء حالة السيولة الأمنية في منطقة الساحل الأفريقي يبدو لنا أن القرار التشادي بالانسحاب من العمليات العسكرية في مواجهة التنظيمات الإرهابية، ربما يتم التراجع عنه من جانب إدريس ديبي، وذلك تحت مظلة ضغوط إقليمية، وفرنسية، حيث إن تكلفة الانسحاب التشادي ستكون مؤثرة سلبيًّا على الاستقرار الهش في منطقة الساحل، وهو ما لا يتحمله الوضع حاليًا، من هنا سارعت نيجيريا وبوركينا فاسو بتقديم عون عسكري لتشاد كانت تطلبه الأخيرة منذ فترة، ولم تجب إليه إلا في الشهر الماضي، كما أن باريس لم ترد علنًا على القرار التشادي بالانسحاب ولكنها لابد أن تكون وراء التضامن الأفريقي مع تشاد حاليًا.
علي أية حال يبدو من الخطورة بمكان الاعتماد على قدرات الجيش التشادي وحده، ضمن خمس دول -هم أعضاء G5- في مواجهة الإرهاب في هذه المنطقة الشاسعة, وأنه لابد من رفع قدرات جيوش الدول الأخرى، وهي مسئولية فرنسية بامتياز لابد من الاضطلاع بها بخطى متسارعة وإلا فإنها سوف تواجه انهيارات محققة في الوضع الأمني بمنطقة الساحل ستكون مؤثرة بالضرورة على كل دول الشمال الأفريقي.