بقلم – د. أماني الطويل
مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
يواجه عدد من الدول الأفريقية معضلة الاستقرار السياسي، وهي الحالة التي تشكل أحد أهم أسباب فشل عمليات التنمية المستدامة ورفع مستوى التهديدات الأمنية، وبالتالي تصاعد التوتر داخليا وإقليميا بما يؤثر ليس فقط على مصالح الدولة وحالة سكانها ولكنه يؤثر أيضا على الأمن الإقليمي والمصالح العالمية.
وربما يكون من المتفق عليه في الأدبيات السياسية أن تعدد المكونات العسكرية أو الميليشيا داخل الدولة الواحدة -والناتجة غالبًا عن حروب أهلية- يشكل أحد أهم معطيات عدم الاستقرار المفضية إلى فشل مؤسسة الدولة ذاتها.
ولعل ما قال به رئيس الوزراء السوداني د. عبدالله حمدوك عن تشظي الأجسام العسكرية السودانية، وتأثير ذلك على عافية الدولة يدق ناقوس الخطر بالنسبة لحالة مؤسسة الدولة في السودان، ومدى تعرضها لخطر الانهيار.
في هذا السياق، تهتم هذه الدراسة بعدد من المحاور؛ الأول: أسباب ولادة تكوينات عسكرية غير نظامية في أفريقيا، والثاني محاولة رسم صورة تقريبية لأهم المكونات العسكرية غير النظامية في أفريقيا. أما المحور الثالث فهو تداعيات هذه الحالة على الاستقرار السياسي في القارة بشكل شامل.
أولًا: أسباب ولادة المكونات العسكرية غير النظامية:
تشكلت الميليشيات العسكرية الكبرى في أفريقيا لأسباب مختلفة؛ منها حالة الضعف المؤسسي للجيوش النظامية، وغياب مستويات الاحترافية، كما أن هناك أسبابًا عرقية وأيديولوجية، وقد أنتجت هذه الأسباب مكونات عسكرية موازية للجيش النظامي في حالتين من التفاعل؛ الأولى هي حروب أهلية ونزاعات مسلحة متعددة المستويات، أما حالة التفاعل الثانية فهو نوع من أنواع التعايش القلق والمؤثر على الاستقرار السياسي.
أ- حالة الجيوش النظامية:
ضعف الاحترافية
تعتمد الاحترافية العسكرية على عدد من المعطيات؛ منها مستوى الملاءة المالية للدولة، ووجود إرادة سياسية لتطوير الجيوش مؤسسة على إجماع وطني بشأن طبيعة الأدوار الوظيفية لجيش قوي في حماية الدولة وتأمين مصالحها على المستويين الإقليمي والدولي.
في هذا السياق يمكن ملاحظة أن المعادلة سالفة الذكر قد تكون مفتقدة في أحوال أفريقية متعددة، ذلك أن ضعف القدرة التشغيلية لدى العديد من الجيوش الأفريقية يجعلها غير قادرة على لعب أدوار الحفاظ على مؤسسة الدولة وتأمين مصالحها، ما يثير التشكيك في جدواها، ونرصد في هذا السياق هزيمة الجيش المالي من قبل المتمردين الإسلاميين في عام ٢٠١٢ والاستيلاء على غوما من قبل مجموعة التمرد M٢٣ في جمهورية الكونغو الديمقراطية عام ٢٠١٢ أيضا وتفكك جيش جمهورية أفريقيا الوسطى في أعقاب الاستيلاء السريع على بانغي من قبل قوات المتمردين “سيليكا” في عام ٢٠١٣، وعدم قدرة الجيش النيجيري في حسم الموقف عسكريًّا ضد جماعة بوكو حرام، وكذلك استمرار جيش الرب على مدى عقود في أوغندا مهددًا للسلطة المركزية، وقدرة جبهة تحرير تيجراي على الاستمرار في الحرب ضد الجيش الفيدرالي الإثيوبي على مدى ستة أشهر مؤخرًا دون قدرة للأخير على حسم الموقف، رغم ما تلقاه من دعم إقليمي ممثلًا في إرتيريا، وهي كلها مشاهد وتطورات تثبت ضعف القدرات الاحترافية لعدد مقدر من الدول الأفريقية.
ويبدو أن ضعف القدرات الاحترافية لدى بعض الجيوش الأفريقية يعود إلى طبيعة الثغرات في سلسلة القيادة التي تؤدي إلى عدم الانضباط، وكذلك ضعف مهارات إدارة الموارد، فضلًا عن تربح وفساد القيادات في بعض الحالات نتيجة ضعف نظم الرقابة على المشتريات العسكرية، وكلها عوامل تساهم إجمالًا في عدم الانضباط بسلسلة القيادة الوظيفية التي هي شرط أساسي لأي مؤسسة عسكرية، حيث ترسم التقارير الواردة من بعض أنحاء أفريقيا صورة لجيوش لا يبدو فيها دراية بالتفاعلات داخلها، فهناك صلة ضعيفة جدًّا بين السياسة العسكرية الرسمية، وبين أفعال ضباط الصف والجنود، أحد الأمثلة على ذلك في شمال نيجيريا حيث اتهم المدنيون جنود الجيش الذين يقاتلون جماعة بوكو حرام بارتكاب فظائع ضدهم[1]، وهو أمر لم يستطع كبار القادة العسكريين النيجيريين تفسير هذه الأفعال المؤثرة بطبيعة الحال على الاستقرار السياسي للدولة.
ب- الأسباب الأيديولوجية:
تشكل حالات كل من مالي ونيجيريا أمثلة على البعد الأيديولوجي في تكوينات الميليشيات العسكرية غير النظامية، وإن كانت معطيات الحالة المالية مركبة بين البعدين الأيديولوجي والعرقي، ويمكن رصد أن جماعة التوحيد والجهاد في مالي تمثل البعد الأيديولوجي حيث تكونت أواخر عام 2011، وتُعرف الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة من منطقة تساليت في أقصى شمال مالي إلى مدينة غاو بأنها معقل حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا، حيث تفرض الحركة سيطرتها بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة”. وطبقا لشهادات متطابقة فإن التوحيد والجهاد أكثر الجماعات المسلحة نفوذًا؛ لأنها تتشكل من عصابات لتهريب المخدرات، واستولت على كمية كبيرة من الأسلحة الثقيلة القادمة من ليبيا، أما على المستوى الأيديولوجي فهي تابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وتتشكل من موريتانيين وماليين، وبعض العرب بقيادة حماده ولد خيرو، بينما يوصف عدنان أبووليد صحراوي بأنه المتحدث الرسمي باسم الحركة[2].
وفيما يتعلق بالمعطى العرقي؛ فإن حركة تحرير الأزواد التي تنتمي إلى بطن من بطون عرقية الأمازيغ والذين عرفوا تاريخيا بأسماء الجومنيين والملثمين والمرابطين، كونوا حركة مسلحة مناوئة للجيش النظامي لهم علمهم الخاص ويستوطنون شمالي مالي والنيجر والجنوب الغربي لليبيا. أهداف الأزواد تتبلور في الاستقلال عن مالي.
وقد أعلن عن تأسيس الحركة الوطنية لتحرير أزواد يوم 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010 في مدينة تومبكتو، وجاء في البيان التأسيسي: أن الحركة “تنظيم سياسي أزوادي يمثل النهج السلمي للوصول إلى الأهداف المشروعة واسترجاع كافة الحقوق التاريخية المغتصبة” لأمة الطوارق.
تتبنى الحركة توجها تحرريا تسعى من خلاله لاعتراف دولي بكونها ممثلا حقيقيا للشعب الأزوادي، وتتحدث عن “قرار أزوادي مغيب” منذ 1894 تاريخ الاحتلال الفرنسي، وتشمل الخريطة التي تعرّفها الحركة بأنها أرض أزواد ولايات تومبكتو وغاو وكيدال في شمال مالي، وقد أعلنت في أبريل/ نيسان 2012 قيام دولة في المنطقة التي تشمل هذه الولايات الثلاث. تعتبر الحركة الوجود المالي في أرض أزواد غير شرعي، وهي تقاتل من أجل “الاعتراف للشعب الأزوادي بحقه في تحديد مركزه السياسي”، وتعتبر ذلك الطريق الوحيد لإنهاء النزاع المستمر منذ خمسين عامًا تقريبًا، وتقول الحركة الوطنية لتحرير أزواد: إن فرنسا قررت تجاهل وثيقة تاريخية وجهها أعيان أزواد، وطلبوا فيها عدم إلحاق الإقليم بأي “جسم غريب”، وبذلك تعتبر الحركة الوجود الحكومي المالي في الإقليم جزءًا من مؤامرة دولية وإقليمية ألحقت أزواد بدولة مالي، التي تتهمها بطمس الأزواد كأمة، حيث تحظى الحركة بدعم حركات تعتبر نفسها مدافعة عن حقوق الأمازيغ في شمال أفريقيا (خاصة في الجزائر والمغرب)؛ مثل “المؤتمر الأمازيغي العالمي”. تنظر الحركة في ميثاقها إلى الفرنسية والعربية على أنهما لغتان رسميتان بالتساوي، كما تقر بوجود لغات ولهجات أخرى مثل تماشق (إحدى لغات الطوارق)[3].
ج- الأسباب العرقية:
تشكل السودان نموذجًا مثاليًّا لدراسة الأسباب العرقية في تكوين التنظيمات العسكرية غير النظامية، حيث عرفت السودان هذه التكوينات في فترة مبكرة من تاريخها، وذلك في أعقاب اندلاع الحرب الأهلية بين شمال وجنوب السودان عام ١٩٥٥، والتي ترتب عليها وجود حركتي أنانيا١ ثم أنانيا٢، واللتين خاضتا الحرب الأهلية ضد المركز في الخرطوم حتي عام ١٩٧٢، حيث عقد اتفاق للسلام تم على إثره إدماج للمكونات العسكرية غير النظامية في الجيش الرسمي، وأصبح هناك قدرة لانضمام مواطني جنوب السودان في الجيش الوطني للسودان، ولكن بعد عقد تقريبًا اندلع تمرد جديد على المركز، تزعمه جون جارانج عام ١٩٨٣، مكونًا الحركة الشعبية لجنوب السودان حينما كان يحمل رتبة نقيب في الجيش الوطني، وهي الحرب التي استمرت حتى عام ٢٠٠٥.
على نفس النمط توالدت المكونات العسكرية غير النظامية في كل من دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق، وذلك كنتيجة مباشرة للحرب على دارفور التي اندلعت عام ٢٠٠٣، وأيضًا تجاهل كل من النوبة والنيل الأزرق في اتفاقية سلام نيفاشا، وقد اتخذت معظم التكوينات العسكرية اسم الحركة الشعبية لتحرير كل منطقة طبقا لمسماها، حيث مارست نزاعات مسلحة ضد القوات المسلحة السودانية لأسباب متعلقة بالتهميش السياسي والتنموي.
وقد تراوحت الأوزان العسكرية والسياسية لكل هذه المكونات طبقا لطبيعة مطالبها، ومدي تعبيرها عن الكتل السكانية الممثلة لها، وكذلك حجم الدعم الخارجي لها.
ولكن المفارقة الحقيقية هي لجوء الحكومة السودانية بنفسها إلى تكوين ميليشيا غير نظامية بموجب مرسوم رسمي عام ٢٠١٣، وذلك لحسابات متعلقة بأمرين: الأول تخفيف الأعباء عن القوات النظامية التي كانت تحارب المكونات المناوئة لها في أكثر من جهة بالسودان وهو ما أثر على فاعليتها، والأمر الثاني حسابات خاصة بالرئيس المخلوع عمر البشير، حيث سعي إلى تأمين نظامه السياسي من انقلاب الجيش عليه.
حيث بلغ حجم قوات الدعم السريع وقت تكوينها ٥٠٠٠ عنصر، ينحدر معظمها من عشيرتي المحاميد والماهرية العربيتين، وكذلك قوات محمدين إسماعين من قبيلة الزغاوة، وهي انشقاق من جيش تحرير السودان في دارفور، كما جند من قبيلة الفور أيضا.
وقد تبلور تشكيل قوات الدعم السريع عبر عقد تقريبا بدأ مع لجوء الحكومة للقبائل العربية التي سميت بالجنجويد لممارسة حربا بالوكالة عنها في إقليم دارفور، ولكن مع الضغط الدولي على الخرطوم تم التخلي عن الجنجويد وتم التوقف عن دفع رواتبهم، حتى جرى تطور كيفي عام ٢٠٠٧ لهذه القوات مع منح قائد القوات الجديد محمد حمدان دقلو (حميدتي) رتبة عسكرية رغم أنه لم يندرج في الكليات العسكرية، وباتت القوات تعمل تحت ولاية جهاز الاستخبارات السوداني ولها صلاحيات لحماية الحدود.
ومع اكتشاف الذهب في ولاية شمال دارفور عام ٢٠١٢ استولت قوات الجنجويد التي كان يقودها وقت ذاك موسى هلال (عم حميدتي) على مواقعه، وقتلت في هذه المعركة ٨٠٠ شخص، ومع حلول عام ٢٠١٧ أصبح مورد الذهب يشكل ٤٠٪ من موارد الحكومة السودانية، حيث سيطر على مناطق التعدين حميدتي، ومارس دور الوكيل لبيع الذهب للحكومة بعد منافسة مع عمه الذي اعتقل في نوفمبر من نفس العام.
أما على المستوى العسكري فقد أصبح لقوات الدعم السريع أدوار إقليمية مع موافقة
الحكومة السودانية عام ٢٠١٥ على إرسال كتيبة من القوات النظامية للخدمة مع قوات التحالف السعودية الإماراتية في اليمن. لكن بعد بضعة أشهر، أبرمت الإمارات العربية المتحدة صفقة موازية مع حميدتي لإرسال قوة أكبر بكثير من مقاتلي قوات الدعم السريع، للقتال في جنوب اليمن.
مخرجات العلاقات الإقليمية والقدرات المالية لقوات الدعم السريع أسفرت عن إمبراطورية مالية لمحمد حمدان دقلو وقوات عسكرية تقدر ب٢٠ ألف عنصر مارست عمليات قتالية، كما استولت على معسكرات الأمم المتحدة في دارفور التي انسحبت منها بعد انتهاء مهمة حفظ السلام مطلع العام الحالي.
أما على المستوى السياسي فقد نتج عن تغيير حميدتي لولائه السياسي وانحيازه لمعسكر الثورة السودانية عام ٢٠١٩ دورا كبيرا في التوازنات التي أفضت نحو خلع الرئيس السابق عمر البشير، وهو ما ضمن لحميدتي نفوذًا سياسيًّا كبيرًا في معادلة ما بعد الثورة عززها بأصوات إعلامية من صحف ومواقع إلكترونية لها انعكاس على الرأي العام السوداني، وتأثير على التفاعلات السياسية.
د. المعطى الخارجي في التعدد العسكري:
قد تكون فرنسا دولة مسئولة إلى حد بعيد عن تدشين مكونات عسكرية غير نظامية في بعض الدول الأفريقية نتيجة للتدخل العسكري الذي مارسته نحو ٥٠ مرة منذ عام ١٩٦٠ وحتى الآن وكان آخر تدخلين فرنسيين من هذا النوع في كل من مالي وأفريقيا الوسطى إذ أن عملية التدخل العسكري التي مارستها باريس عام ٢٠١٣ تحت مسمى سرفال في مالي بقوات عسكرية تقدر بــ٤٥٠٠ عنصر، تحولت هذه العملية إلى مسمى برخان، وأعلنت فرنسا عن انتهائها دون تحقيق نتائج بل بانتشار أوسع للتنظيمات الإرهابية حيث تأسست جماعة أنصار الدين في مالي كنتيجة للتدخل العسكري الفرنسي، كما أنتج هذا التدخل توسعا للعمليات الإرهابية في كل من مالي والنيجر[4].
في هذا السياق أسفر التدخل العسكري الفرنسي في جمهورية أفريقيا الوسطي، الذي تم في ديسمبر ٢٠١٣ عن تحول حركة السيليكا التي كانت تسعى لإقصاء الرئيس بوزيزيه عن الحكم نظرا لترأسه البلاد لفترة طويلة، تحولت هذه الحركة إلى حركة طائفية نتيجة تقديرها أن التدخل العسكري الفرنسي في أفريقيا الوسطى هو بسبب دعم المسيحيين فيها، وضد الرئيس المسلم ميشيل جودتا الذي جاء كرئيس للفترة الانتقالية بعد الاتفاق على ذلك في مؤتمر المصالحة الوطنية الذي عُقد في العاصمة الجابونية ليبروفيل. وقد أدى هذا التطور إلى تدشين حركة أنتي بلاكا المسيحية حيث اضطر الرئيس ميشيل جودتا للتخلي عن الحكم بضغط من الموالين لفرنسا من القادة الأفارقة في منطقة الساحل[5] خصوصًا المغدور إدريس ديبي، وحاليا تتقاتل حاليا الحركتين في أفريقيا الوسطى دون قدرة للجيش الوطني على حسم الصراع لصالح مؤسسة الدولة
ثانيا: إشكاليات التعدد العسكري:-
يمكن القول أن إشكاليات التعدد العسكري بادية في دولتين كبيرتين في شرق أفريقيا يمكن الاعتماد عليهما كنموذجين لطبيعة الإشكاليات المترتبة على تعدد المكونات العسكرية في الدولة الواحدة، حيث تشكل إثيوبيا حالة للتعدد العسكري تم إقرارها دستوريا عام ١٩٩٥ حيث تم تأسيس نظام سياسي قائم على التعددية الإثنية، وهي التعددية التي دشنت تعددا عسكريا للأقاليم المختلفة بشكل شرعي وذلك بهدف أساسي هو الحفاظ على الدولة الإثيوبية، إلا أن انقلاب آبي أحمد على هذه الصيغة مؤخرًا وطرحه نظامًا سياسيًّا مغايرًا يقوم على فكرة المركزية ولو نسبيًّا، حيث انحاز لتشكيل حزب الازدهار ليكون الرافعة السياسية لهدم نظام التعددية الإثنية. هذه التحولات أنتجت حربًا أهلية في إثيوبيا اندلعت في نوفمبر الماضي، وكانت نتائجها نزوح ملايين من إقليم التيجراي بسبب حرب لم تضع أوزارها بعد.
أما في السودان، فقد شكلت اتفاقية جوبا للسلام أساسا للتعاون العسكري بين القوات المسلحة السودانية وبعض التنظيمات العسكرية غير النظامية في السودان حيث نصت الاتفاقية على عمليات دمج لهذه التنظيمات في جسم القوات المسلحة الرسمية وذلك طبقا لإجراءات محددة، ولكن قوات الدعم السريع لم تكن طرفا في هذا الاتفاق، وهي أكثرا أنواع التنظيمات العسكرية غير النظامية وزنا على الأرض حاليا، وربما هذا ما يفسر رفض قائدها حميدتي عمليا الدمج مؤخرا، وقال أنه يمكن أن يقود إلى تقسيم البلاد[6] وأصبح بذلك شوكة حميدتي مهددة للاستقرار السياسي في السودان، خصوصًا، وأن قواته شريكة في الترتيبات الأمنية المتعلقة بسلام دارفور.
ويمكن القول: إن موقف حميدتي مؤسس على حالة استقواء قامت قوات الدعم السريع على المؤسسة العسكرية السودانية في أعقاب الثورة مباشرة بدعم من قوي الحرية والتغيير سواء كانت أحزابا سياسية أو منظمات مجتمع مدني، وهي القوي المتخوفة من سيطرة القوات المسلحة السودانية على الحكم، خصوصا وأن عناصر المكون العسكري الرسمي هي منتمية بالأساس للجنة أمنية، كانت معنية بما أطلق عليه سياسيا وقتذاك الهبوط الناعم أي إزاحة البشير مع استمرار نظامه.
هذه التوازنات السياسية دفعت أن يكون حميدتي نائبًا لرئيس المجلس الانتقالي عبدالفتاح البرهان، وأن يتم الحديث عن إدماج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة السودانية، وأن تكون قوات حفظ السلام في دارفور المعنية بتنفيذ اتفاق سلام جوبا هي قوي أمنية مشتركة من الجانبين.
وقد سمحت هذه الوضعية لحميدتي بوجود سياسي في كافة الملفات الداخلية السودانية خصوصا الملفات الاقتصادية وبعض ملفات السلام. وقد شكلت هذه الحالة استفزازا للمؤسسة العسكرية السودانية والرأي العام السوداني معا لعدد من الاعتبارات، الأولي أن قوات الدعم السريع قد نزحت ثروات معدنية سودانية لحسابها الخاص، وأن عناصرها غير مؤهلين عسكريا طبقا لمعطيات المؤسسات العسكرية المعروفة على المستوى الأكاديمي والفني، كما أن قوات الدعم السريع قد استقوت بعلاقاتها الخليجية بسبب مساهمة هذه القوات في حرب اليمن.
ويمكن رصد أن تصاعدا للتوتر بين كل من البرهان وحميدتي، بدا ملحوظًا لدى الرأي العام السوداني والمراقبين الخارجيين وذلك في ضوء خطوتين، الأولي الإفراج عن عم حميدتي موسى هلال والذي كان مسجونًا بأوامر من البشير، ولم يفرج عنه بعد الثورة، وهو أحد أهم قيادات القبائل العربية في دارفور ويملك نفوذا عليها ينافس به حميدتي نفسه، أما الخطوة الثانية فهي إصدار عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس الانتقالي الحاكم في السودان أمرا بعدم سفر أيا من أعضاء المجلس خارج البلاد دون إذن، ويبدو أن هذا القرار في إطار هندسة شاملة لتقليص نفوذ حميدتي، ومنعه من ممارسة أدوار سياسية خاصة في ملفات السلام السودانية، ويبدو أن حميدتي ينتبه لمحاولة تقزيمه فأقدم على تحدي القرار الصادر من رئيس المجلس الانتقالي وأقدم على السفر دون إذن إلى تركيا، وعقد اتفاقات اقتصادية مع أنقرة، وهو ما تم الرد عليه بتسريب فيديو مشاركة شقيق حميدتي في فض اعتصام القيادة العامة للجيش إبان الثورة السودانية، وهي العملية التي هي محل تحقيق ممتد، ولم تسفر عن نتائج بسبب شبهات لدور قوات الدعم السريع في فض الاعتصام، وهو ما تم الرد عليه من جانب قائد قوات الدعم السريع برفض الاندماج في القوات المسلحة السودانية.
ويبدو أن هذا المشهد دفع رئيس الوزراء السوداني بوصفه بالتشظي محذرًا منه على الاستقرار السياسي في السودان، وهو التطور الذي يحاول المكونان العسكري والمدني في السودان حله حاليًا، وأسفر مبدئيًّا عن إعلان قوات الدعم السريع عن ولائها للقائد العام للقوات المسلحة السودانية، وبروز مقترحات بأن تكون قوات الدعم السريع في صيغة أقرب للصيغة السعودية التي من بين تشكيلاتها قوات الحرس الوطني.
إجمالًا تشهد أفريقيا نتيجة تعدد المكونات العسكرية في الدولة الواحدة عدد من الظواهر الممتدة والمرتبطة والتي تتجلي في الحروب الأهلية، والصراعات المسلحة، وهي البيئة التي جعلت التدخل الدولي في أفريقيا ممكنًا، وسمح بأمرين باستنزاف موارد القارة من ناحية، وتوظيف بعض المكونات العسكرية غير النظامية في تدشين ظاهرة الاستعمار الثاني للقارة الأفريقية، وهو الاستعمار الذي لا يستخدم وسائل مباشرة، ولكنه يعتمد على أدوات محلية لتكون رافعة لمصالحه على حساب الشعوب الأفريقية.
وحتى هذه اللحظة لا توجد شواهد على قدرة أفريقيا على التخلص من مهددات استقرارها السياسي وتقدمها التنموي رغم محاولات الاتحاد الأفريقي
[1]– عراقيل الاحتراف العسكري في أفريقيا، مركز أفريقيا، متاح على:
:https://africacenter.org/ar/publication/
obstacles-military-professionalism/
[2]– نبذة عن الجماعات الموالية لتنظيم القاعدة في مالي متاح على:
[3] الحركة الوطنية لتحرير أزواد، متاح على:
https://www.aljazeera.net/encyclopedia/movementsandparties/2015/3/23/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%AA%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%A3%D8%B2%D9%88%D8%A7%D8%AF
[4]– ويكن فازية، التدخل الخارجي وتحديات استقرار الدول الساحلية نموذجا مجلة العلوم الاجتماعية، ASJP ص ٣٤، متاح على:
[5]– الإرهاب الفرنسي في أفريقيا الوسطى، مجلة البيان، متاح على
[6] رفض حميدتي دمج قواته بالجيش السوداني الأسباب والمآلات، متاح على: