كتبت – إيمان الشعراوي
باحثة في الشئون الأفريقية
على مدى السنوات الست الماضية، تحولت الكاميرون الواقعة في منطقة وسط الغرب الأفريقي إلى منطقة صراعات ونزاعات، فُقد خلالها الكثير من الأرواح والممتلكات، وذلك في ظل وجود أزمة إنسانية تعصف بالاستقرار السياسي والاقتصادي للكاميرون، ومواجهة للجماعات الإرهابية؛ بوكو حرام في أقصى الشمال، وميليشيات من جمهورية أفريقيا الوسطى في الشرق، وإعلان بعض المناطق الانفصال عن الكاميرون، مما يؤثر على كيان الدولة وحدودها الثابتة منذ الاستقلال.
جذور الأزمة.. ودور الاستعمار في انعدام الهوية
ليس من المبالغة أن تُعزى معظم المطالبات الانفصالية -التي تعاني منها القارة السمراء- للاستعمار، وذلك بسبب تقسيم الحدود بشكل لا يراعي الطبيعة الإثنية والثقافية للدول الأفريقية، وهو ما حدث في الكاميرون التي كانت تحت الحكم الاستعماري الألماني من عام 1884 إلى عام 1916، إلا أنه بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، سلمت عصبة الأمم جزءًا من الكاميرون إلى فرنسا والآخر لبريطانيا.
وحصلت الكاميرون التي تديرها فرنسا على استقلالها في عام 1960، وبعد ذلك بعام، أُجري استفتاء في الكاميرون الخاضعة للحكم البريطاني حول الانضمام إلى الكاميرون المستقلة حديثًا أو نيجيريا، لم يكن خيار الاستقلال مطروحًا على ورقة الاقتراع، اختار النصف الشمالي للإقليم الانضمام إلى نيجيريا، في حين اختار الجنوب الاندماج مع الكاميرون، منذ ذلك الحين تم تقسيم الكاميرون بين شرق يتحدث الفرنسية ونصف غربي يتحدث الإنجليزية، وتشكل الأقلية الناطقة بالإنجليزية حوالي ٢٠٪ من سكان الكاميرون البالغ عددهم ٢٢ مليون نسمة[1]، إلا أنهم يعانون من التهميش بالشكل الذي استمر فيه الصراع بين الطرفين ولكنه لم يصل لحرب أهلية.
كيف بدأت الحرب الأهلية بالكاميرون؟
أدت عملية إعادة التوحيد القائمة على المركزية والاندماج القسري، والإخفاق في إدارة التعددية الثقافية إلى شعور الأقلية الناطقة بالإنجليزية بالتهميش لذلك في عام 2016 بدأ الصراع الانفصالي في إقليمي الشمال الغربي والجنوب الغربي الناطقين بالإنجليزية، عبر احتجاجات سلمية لمدرسين ومحامين على ما وصفوه بتهميشهم من جانب الحكومة الوطنية، والمطالبة بمنح اللغة الإنجليزية الاعتراف الكامل، ووضع نهاية للتمييز المنهجي ضدهم، إلا أن قوات الأمن قابلت هذه الاحتجاجات باستخدام العنف.
وسرعان ما تحولت هذه الاحتجاجات إلى اشتباكات مسلحة بين مختلف الجماعات الانفصالية الناطقة بالإنجليزية والحكومة المركزية، ثم في عام 2017 أعلن الزعيم الانفصالي سيسيكو جوليوس أيوك تاب انفصال الكاميرون الإنجليزي كدولة مستقلة تحت اسم جمهورية “أمبازونيا”، وهو ما رفضته الحكومة الكاميرونية، واستمرت المعارك بين الطرفين بالشكل الذي تحولت فيه إلى حرب أهلية.
خريطة الكاميرون
Source: The Nordic Africa Institute. Researcher: Signs of Anglophone crisis were there 20 years ago, Puplished on 5 Oct 2018, https://nai.uu.se/news-and-events/news/2018-10-05-researcher-signs-of-anglophone-crisis-were-there-20-years-ago.html.
قتلى ولاجئون.. الكاميرونيون يدفعون ثمن الحرب
تشكل الحرب الأهلية داخل الكاميرون إحدى المهددات التي تواجهها منطقة الغرب الأفريقي، وربما يكون محددًا للجغرافيا السياسية في هذه المنطقة، وذلك بسبب تشابه النزاعات الانفصالية في دول الجوار، بالشكل الذي قد يشجع هذه الحركات للانفصال عن دولهم، فضلًا عن العدد الكبير من اللاجئين الناتج عن هذه الحرب، وبحسب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فقد نُفي 45 ألف كاميروني إلى نيجيريا، وداخل مناطق النزاع، نزح أكثر من 75000 شخص، مع اختطاف وذبح العشرات من الزعماء التقليديين وكبار رجال الأعمال والمسؤولين الإداريين، وتم إجبار ما يقرب من 737000 كاميروني على الفرار من منازلهم بما في ذلك 439000 شخص في الجنوب الغربي و298000 شخص في الشمال الغربي بسبب استهداف قراهم وحرقها ونهبها، كما قتل أكثر من 1000 جندي وأكثر من 6000 مدني.[2]
هذه الأضرار امتدت للاقتصاد؛ فقد كشفت دراسة أجرتها منظمة”Groupement Inter-patronal du Cameroun (GICAM): خسارة الاقتصاد الكاميروني أرباحًا تصل إلى 269 مليار فرنك أفريقي، وخسارة فورية قدرها 6 مليارات فرنك أفريقي في الإيرادات الضريبية للدولة من حيث المدفوعات المسبقة لضريبة الشركات، وارتفع معدل البطالة في الزراعة بنسبة 23٪، وقد أشار الأداء الاقتصادي العام في 2020 إلى انكماش بنسبة -1.5٪ على مدار العام[3]، كما حُرم أكثر من 700 ألف طفل من التعليم في المناطق الشمالية الغربية والجنوبية الغربية في 2021، بحسب ما ورد في تقرير لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).
على صعيد موازٍ، فإن ضعف المركز في ياوندي، وانشغال الجيش الكاميروني بالحرب الداخلية، ترتب عليه التراجع في مواجهة تنظيم بوكو حرام الإرهابي، خاصة في منطقة “الشمال الأقصى” في الكاميرون، المتاخمة للحدود مع نيجيريا وتشاد، والتي تتعرض لهجمات متكررة من قبل جماعة “بوكو حرام” منذ عام 2014، هذا بالإضافة إلى الإخفاق في مواجهة التداعيات السلبية التي خلفها فيروس كوروناـ وأثرت على الاقتصاد الكاميروني بشكل كبير، فضلًا عن تورط كافة الأطراف بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان دون محاسبة، وهو ما يُرسِّخ ثقافة الإفلات من العقاب التي تدخل البلاد في دائرة مفرغة من العنف.
2022 تعقد الأزمة والإصرار على الحرب
لم تكن هذه التداعيات السلبية محركة لأطراف النزاع في الكاميرون لوقف الصراع، بل تشير التقديرات إلى تعقد الأزمة بشكل أكبر الفترة القادمة، وذلك لأن الحكومة طورت الأسلحة التي تستخدمها في مواجهة الانفصاليين، وتعتقل النشطاء وتقطع الإنترنت وتستخدم العنف، كما يظل حزب الحركة الديمقراطية الشعبية المهيمن الوحيد على السلطة والذي ينتمي إليه الرئيس بول بيا الذي يحكم الكاميرون منذ أكثر من 40 عامًا، ويستعد للترشح في الانتخابات القادمة.
وعلى الجانب الآخر يتمسك الانفصاليون بإقامة جمهورية “أمبازونيا”، وسحب الجيش من المناطق الناطقة بالإنجليزية والإفراج عن كل الانفصاليين المعتقلين، فضلًا عن العمل على جذب الاهتمام الدولي لقضيتهم من خلال التهديدات التي أطلقوها بتعطيل بطولة كأس الأمم الأفريقية لكرة القدم، وتهديد المنتخبات واللاعبين المشاركين فيها، والعمل على زعزعة استقرار خليج غينيا وتعطيل استغلال الموارد في هذه المنطقة، وذلك لإجبار المجتمع الدولي على الاعتراف بهم، كما تعمل الحركة الانفصالية على تطوير أسلحتهم بدلًا من الاعتماد على العبوات بدائية الصنع واستقطاب المواطنين الناطقين بالإنجليزية للانضمام لهم.
هل تنفصل “أمبازونيا” عن الكاميرون؟
على الرغم من إصرار الانفصاليين -من الناطقين بالإنجليزية- عن الاستقلال عن الكاميرون، إلا أن المؤشرات الراهنة تستبعد حدوث ذلك، لأسباب داخلية متعلقة الانقسامات داخل الحركة الانفصالية نفسها حول الاستراتيجية وأساليب العمل، حيث ينتهج بعضهم العنف عن إعطاء الأولوية للهجمات الدبلوماسية وتعطيل المدارس وحرقها، والدعوة إلى حرق المنشآت العامة وعدم دفع الضرائب وتشجيع الهجمات على الناطقين بالفرنسية، بينما يرفض آخرون هذه الممارسات؛ لأنها تختصم من شعبيتهم وتحيد عن الهدف الرئيسي الذي يسعون لتطبيقه وهو الانفصال بشكل سلمي.
كما أن عددا من المواطنين الناطقين باللغة الإنجليزية لا يؤيدون الانفصال عن الكاميرون، وتقتصر مطالب البعض منهم على المساواة بالمتحدثين باللغة الفرنسية وعدم التهميش وتمكينهم السياسي والاقتصادي، والاستمرار مع الكاميرون ولكن في ظل نظام فيدرالي يعطيهم صلاحيات أكبر في إدارة منطقتهم.
أما على الجانب الإقليمي فهناك رفض للانفصال، خاصة دول الجوار ومنهم نيجيريا، وذلك خوفًا من أن تعمل الكاميرون الناطقة بالإنجليزية المستقلة كقاعدة للحركات النيجيرية الانفصالية، كما استغلت الحكومة الكاميرونية قضية الانفصال لإقناع دول جوارها بأنهم يواجهون نفس التهديد، والتحديات الأمنية المشتركة على طول الحدود الجنوبية للبلاد، وقد سهلت نيجيريا وتشاد اعتقال وتسليم قادة انفصاليين إلى الكاميرون.
أما على المستوى الدولي فلم تحظ “أمبازونيا” بأي اعتراف، وهو ما عرقل انفصالهم بشكل رسمي، وذلك لأن الاعتراف الدولي ركن رئيسي في الاعتراف بأي منطقة تسعى للانفصال، واقتصرت ردود الفعل الدولية على الدعوة إلى الحوار في المناطق الناطقة بالإنجليزية واحترام الحريات الأساسية، والتنديد بالعنف، لكن لم تسفر هذه التدخلات عن خطوات نحو الإصلاحات الهيكلية والدستورية التي طلبها المتحدثون باللغة الإنجليزية.
على ضوء المعطيات السابقة فإن الحرب الأهلية في الكاميرون يمكن أن تؤول إلى 4 سيناريوهات وهي
السيناريو الأول: (الحرب الأهلية الممتدة)
في ظل تعقد الأوضاع وإصرار كل طرف على تحقيق المعادلة الصفرية من خلال الحصول على جميع المكاسب وإقصاء الطرف الآخر، وعدم الاستعداد لتقديم أي تنازلات في سبيل التوصل لمصالحة وطنية، فإن هذا يعني إطالة أمد الحرب الأهلية بما يؤثر على الاستقرار السياسي والأمني داخل الكاميرون ودول الجوار.
ويمكن أن يتحقق هذا السيناريو في حالة انضمام بعض الناطقين بالفرنسية الذين لديهم حالة من السخط على الأداء الحكومي وانفراد بول بيا بالسلطة للانفصاليين، وفي حال حدوث هذا السيناريو فلن يكون للمنظمات الإقليمية الأفريقية دور في حل هذا النزاع بسبب ضعف الإمكانيات، وسيكون المخرج عن طريق تنحي بول بيا أو إعلانه عدم الترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة، أو حدوث تدخل دولي لوقف الحرب.
السيناريو الثاني: (التدخل الدولي)
يمكن أن تساعد الاستجابة الحازمة من المجتمع الدولي في تجنب تدهور الصراع، من خلال التأكيد على حق الناطقين باللغة الإنجليزية في تمثيل سياسي أفضل ومراعاة الاختلافات الثقافية واللغوية، خاصة أن فرنسا شريك استراتيجي للكاميرون، كما أن الولايات المتحدة الشريك الأمني الأكثر أهمية، وموطن الجزء الأكبر من الناطقين بالإنجليزية في الكاميرون في الشتات.
وعلى الرغم من أن تحقق هذا السيناريو سيؤدي إلى مزيد من الاستقرار السياسي ووقف الحرب الأهلية بشكل جزئي، ولكن من غير المرجح حدوثه، نظرًا لمصالح هذه الدول مع النظام الكاميروني، كما أن أزمة الناطقين بالإنجليزية لا تهدد مصالحهم سواء في الكاميرون أو الدول المجاورة لها.
ويرجح فكرة عدم التدخل الدولي الدور الذي تلعبه فرنسا وحلفاؤها في الاتحاد الأوروبي في دعم الحكومة الكاميرونية والناطقين بالفرنسية، لمصالحهم الاقتصادية في الكاميرون الغنية بالثروات الطبيعية، والتي يحميها النظام الكاميروني من المنافسة الصينية، على الجانب الآخر لا يلقى الناطقون بالإنجليزية هذا الدعم من بريطانيا، كما أن دور الكاميرون في محاربة بوكو حرام يعزز عدم اتخاذ أي موقف دولي تجاه النظام القائم.
السيناريو الثالث: (نجاح الحكومة الكاميرونية في القضاء على الانفصاليين)
يمكن أن يتحقق ذلك من خلال تطويق الانفصاليين والقبض عليهم ومحاصرتهم بالتعاون مع دول الجوار في تسليم جميع المعارضين الذين يقيمون على أراضيهم، وعلى الرغم من أن هذا السيناريو قد ينتج عنه تهدئة الأوضاع نسبيًّا، إلا أنه لن يؤدي لحل الأزمة بشكل جذري، وذلك لعدم حل المشاكل الرئيسية التي تسببت في ظهور الدعوات بالانفصال مما سيجعله استقرارًا وهدوءًا هشًّا.
السيناريو الرابع: (انفصال “أمبازونيا”)
غير مرجح حدوث هذا السيناريو؛ نظرًا للعديد من المعطيات الداخلية والخارجية -التي ذكرناها في السابق- وفي حالة حدوثه فلن تنعم “أمبازونيا” بالاستقرار، وذلك لعدم وجود المقومات الكافية لتكون دولة مستقلة، فضلًا عن النزاعات الحادة التي تواجه مواطنيها، وذلك على غرار حالة جنوب السودان التي عانت من الأوضاع السيئة بعد انفصالها.
ومن المرجح حدوث السيناريو الأول، نظرًا لاستخدام كلا الطرفين العنف الممنهج ورفض تقديم تنازلات من شأنها المساهمة في حل الأزمة، فضلًا عن أنه لن يوجد حوار شامل بين الأطراف دون ضغوط من المجتمع الدولي الذي يتجاهل الحرب الأهلية في الكاميرون.
وختامًا..
استمرار حالة الإنكار التي تتعامل بها الحكومة الكاميرونية ومحاولة إلقاء اللوم على الانفصاليين لن يفضي إلى تقديم حلول تعالج الأسباب الجذرية للحرب الأهلية؛ لذلك يجب اتخاذ إجراءات جادة لوقف النزاع والتي تتمثل في:
1- التأسيس الفوري لوقف إطلاق النار.
2- الإفراج عن السجناء الانفصاليين المحتجزين والسماح بعودة المنفيين.
3- فتح حوار سياسي شامل دون شروط مسبقة يضم جميع الأطياف خاصة الانفصاليين لمناقشة تكوين الدولة والإصلاحات للنظام الانتخابي لإنشاء حكومة وطنية تضم كافة الأطياف ويمثل فيها الناطقين بالإنجليزية.
4- استدعاء نظام المصالحة الرواندي “الغاكاكا”[4]، الذي يمثل شكلًا من أشكال العدالة للتعامل مع الأشخاص المتهمين بالجرائم بشكل سريع، وفي نفس الوقت ينهي رواسب الحرب الأهلية، بما يساهم في تحقيق المصالحة الوطنية.
[1] Cameroon’s Anglophone Crisis at the Crossroads, Intrenational crisisgroup, Puplished on 2 August 2017, https://www.crisisgroup.org/africa/central-africa/cameroon/250-cameroons-anglophone-crisis-crossroads.
[2] Hippolyte Eric Djounguep,” Civil War in Cameroon: Consequence of an Unfinished Decolonization”, trendsresearch, Puplished on 25 August 2021, https://trendsresearch.org/insight/civil-war-in-cameroon-consequence-of-an-unfinished-decolonization/
[3] Djounguep, Hippolyte Eric, ‘‘L alternance démocratique, ultime solution pour une paix durable au Cameroun’’Puplished on 1er mars 2021,https://www.africapresse.paris/Hippolyte-Eric-Djounguep-L-alternance-democratique-ultime-solution-pour-une
[4] للتعرف أكثر على نظام الغاكاكا الرواندي طالع هذا التقرير
Charlotte Clapham, Gacaca: A Successful Experiment in Restorative Justice?, E-International Relations, Puplished on 30 JUL 2012, https://www.e-ir.info/2012/07/30/gacaca-a-successful-experiment-in-restorative-justice-2