كتب. محمد الدابولي
شهدت السودان خلال اليومين الأخيرين أحداث متسارعة، أعادت القلق مرة أخري حول مستقبل الاستقرار السياسي في البلاد، ففي مساء الثلاثاء 14 يناير 2020 شهد حي كافوري شمال الخرطوم وأحياء أخري اضطرابات أمنية بسبب تمرد عدد من أفراد المخابرات العامة السودانية.
تشير العديد من وكالات الأنباء المحلية والعالمية إلي أن منتسبي المخابرات السودانية أقاموا حواجز تفتيشية في شوارع الخرطوم معلنين تمردهم بسبب إجراءات الهيلكة التي طالت جهاز المخابرات، ومن جانبها حركت وزارة الدفاع السودانية أرتال عسكرية تجاه مناطق التمرد بهدف إحتوائها والقضاء على التمرد ، كما انتشرت قوات الدعم السريع في ضواحي وشوارع الخرطوم الرئيسية لمنع انزلاق الأمور، كما تم إغلاق المجال الجوي للبلاد ووقف الملاحة في مطار الخرطوم.
وما هي إلي سويعات حتي نجحت قوات الجيش في احتواء الموقف وإعادة فتح المجال الجوي، كما تم استلام جميع مقار هيئة العمليات التي أعلنت التمرد وذلك بعد مفاوضات قادها مدير جهاز المخابرات مع العناصر المتمردة أفضت إلي استسلامهم وتسليم السلاح ومقار المخابرات التي يسيطرون عليها، وأسفر التمرد الأخير عن مقتل جنديين وإصابة أربعة أخرين.
ردود الأفعال السودانية
جاءت ردود الفعل السودانية تقريبا في اتجاه واحد، من حيث إدانة عملية التمرد وعدم إبداء التعاطف مع المتمردين والتأكيد على ضرورة تقديم المتسببين للعدالة ومحاكمتهم، فمثلا دعا تجمع المهنيين وهو القوى السياسية الأولي في السودان حاليا والتي قادت الحراك ضد ضد الرئيس المخلوع عمر البشير إلي ضرورة تدخل أجهزة الدولة فورا لوقف تلك العمليات الغير مسئولة والتي تعرض أمن المواطنين للقلق.
فيما شدد رئيس الوزراء السوداني «عبد الله حمدوك» بأن الأحداث التي وقعت لن تعيق مسيرة بلاده ولن تؤدي للتراجع عن تحقيق أهداف الثورة وأن الموقف الراهن يحتاج إلي الشراكة والثقة في القوات المسلحة وقدرتها على السيطرة على الموقف.
ومن جانبه عبر نائب رئيس مجلس السيادة السوادني وقائد قوات الدعم السريع والمسئول عن ضبط الأمن في الخرطوم «محمد حمدان دقلو . المشهور بحميدتي» بأن ما يحدث ليس تمردا بل انقلابا عسكريا يقف ورائه الرئيس السابق للاستخبارات السودانية «صلاح كوش».
أما رئيس المجلس السيادي «عبد الفتاح البرهان» فقد أكد أن ما حدث هو محاولة لإجهاض الثورة السودانية متعهدا بعدم حدوث أي انقلاب عسكري في البلاد، وأن القوات المسلحة متماسكة وعازمة علي تجاوز المرحلة الانتقالية، وفي سياق أخر أكد النائب العام السوداني «تاج السر علي الحبر» أن ما حدث مساء الثلاثاء في مقار المخابرات العامة يعد جريمة متكاملة الأركان ويجب التعامل مع مرتكبي تلك الجرائم وتقديمهم للمحاكمات العاجلة.
تمرد أم انقلاب
تثير الأحداث الأخيرة في السودان الجدل حول طبيعتها هي تمرد عسكري أم انقلاب عسكري أم غير ذلك، فالصورة مازالت غير مكتملة الأركان وتتداخل معها اعتبارات أخري، فالوضع الظاهري يشير إلي أن ما حدث كان تمردا عسكريا من أفراد هيئة العمليات الذين تم تسريحهم من الخدمة نتيجة إجراءات هيكلة المخابرات تنفيذا لقانون “تفكيك نظام الانقاذ” الذي أقر في 29 نوفمبر 2019 والذي يقتضي بحل هيئة العمليات، وبالفعل اتخذت الحكومة الاجراءات اللازمة وتم تدشين لجنة تفكيك نظام الانقاذ وتعيين الفريق ياسر العطا عضو المجلس السيادي رئيسا لها.
خيرت لجنة التفكيك عناصر هيئة العمليات بين أربعة اختيارات أولها الانضمام لصفوف القوات المسلحة أو الانضمام لقوات الدعم السريع أو البقاء في صفوف المخابرات العامة ضمن إطار العمل الجديد للجهاز وليس استمرارا لما كان معمول به في فترة البشير أو التسريح من الخدمة والحصول على المستحقات، وفضلت عناصر هيئة العمليات الخيار الأخير “التسريح والحصول على المستحقات” إلا أن المستحقات المالية لم ترق لهم مما دفعهم للتمرد والعصيان.
وفي المقابل وصف رئيس المجلس الانتقالي عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو بأن ما حدث محاولة انقلابية هدفها العدول عن المسار الثوري، واتهم حميدتي أخر مدير لجهاز الاستخبارات والأمن الوطني في عهد البشير “صلاح قوش” بتدبير المحاولة الانقلابية الأخيرة وأنها ردة على الثورة السودانية، وسبق أن عُين كوش كرئيسا للمخابرات في فبراير 2018، وفي 14 إبريل 2014 أقيل من منصبه على خلفية أحداث الثورة السودانية، ولم يتم القبض عليه إذ أنه نجح في السفر خارج البلاد.
تتصاعد فرضية توصيف ما حدث بأنه محاولة انقلابية بصورة كبيرة نظرا للعديد من العوامل والأسباب الخاصة بتطورات الموقف السياسي في السودان منها على سبيل المثال:
- اشتباكات مدينة ودمدني: تزامنا مع تطبيق قرارات تفكيك نظام الانقاذ ظهرت في الأفق السوداني حركة سياسية جديدة أطلق عليها مسمي “الزحف الأخضر” يتهمها تجمع المهنين بأن أفرادها ينتمون إلي نظام الانقاذ وحزب المؤتمر الوطني، ونجحت تلك الحركة في تسيير أول مسيرة لها في 14 ديسمبر 2019 منددة بالحكومة وداعية إلي عدم المساس بالشريعة الإسلامية.
وقبيل التمرد العسكري الأخير احتشد الآلاف في مدينة ودمدني جنوب العاصمة الخرطوم يوم 11 يناير 2020 للتنديد بسياسات الحكومة ورفضهم المساس بالشريعة الإسلامية مما أدي إلي اندلاع اشتباكات بينهم وبين مؤيدي الحكومة الأمر الذي أفضي إلي إصابة سبعة أشخاص.
لذا يمكنننا القول بأن نظام الانقاذ وبالأحري حزب المؤتمر الوطني المنحل نجح خلال الشهرين الأخريين في إعادة ترتيب صفوفه وكوادره السياسية في إطار تنظيم سياسي جديد تحت اسم “الزحف الأخضر” منتهجا أسلوب التظاهر وإحداث الاضطرابات كوسيلة لخلق شعبية له مستغلا تعثر الحكومة السودانية في إيفاء مطالب واحتياجات الشعب السوداني.
- ليس الانقلاب الأول: منذ عزل البشير في 11 إبريل 2019 تشير العديد من المعطيات السياسية والأخبار المتداولة إلي تعرض الثورة السودانية إلى العديد من المحاولات الانقلابية التي هدفت إلي إعادة الأوضاع إلي سابق عهدها، ففي يوليو 2019 تم كشف النقاب عن محاولة انقلابية يقودها رئيس هيئة الأركان “هاشم عبد المطلب” وذلك بالاتفاق مع بعض الميليشيات ، وأنه كان بصدد إلقاء بيان الانقلاب الأول والثاني وظهر فيديو يعترف فيه عبد المطلب بمحاولة الانقلاب.
- فقدان الزخم الثوري: بعد الإطاحة بالبشير والتوقيع على الاتفاق بين تجمع المهنين والمجلس العسكري وتشكيل المجلس السيادي والحكومة السودانية بدأ الزخم الثوري في الفتور والتراجع وباتت الحكومة السودانية ملزمة بتحقيق احتياجات المواطنين، إلا أن الأزمة الاقتصادية في البلاد دفعت إلي الفتور ووضع الحكومة السودانية في مرمى السخط الشعبي وهو ما استغلته القوى المحسوبة على النظام السابق من أجل تهيئة الوضع السياسي لانقلاب أخر يهدف لعودة رموز النظام البائد.
وفي نهاية المقال نرجح بأن ماحدث في السودان خلال الأيام الماضية هو محاولة لخلق صورة نمطية في الذهنية السياسية السودانية بأن الحكومة الحالية غير قادرة لا علي حماية نفسها ولا على تلبية احتياجات المواطنين، فالتمرد الأخير يهدف إلي إظهار ضعف الحكومة والسلطات الأمنية العسكرية، أما حركة الزحف الأخضر فهدفها إبراز ضعف الحكومة وعجزها عن تلبية احتياجات المواطنين، ونرجح أنه خلال الفترة المقبلة ستشهد السودان العديد من المحاولات التي من شأنها زعزعة استقرار النظام السياسي الحالي وإبراز ضعفه لتهيئة الأوضاع من أجل عودة النظام القديم مرة أخري.