كتب – مصطفى أمين عامر
باحث متخصص في شئون الجماعات المتطرفة
بعد صراع على السلطة استمر لعشر سنوات، تقف ليبيا الآن على أعتاب منعطف تاريخي يتجسد في مشهد تنافسي على مقعد الرئيس الذي سيتحدد الجالس عليه بعد يوم الرابع والعشرين من ديسمبر الجاري، وهو الأمر الذي سيشكل المشهد المستقبلي للدولة الليبية إما بالصعود على سلم الاستقرار والسلام أو السقوط مجددًا في مستنقع الصراع والتمزق والفوضى.
على الجانب الآخر وفي الوقت الذي تنظر فيه القوى الأجنبية المتداخلة في ليبيا على أنها مجرد غنيمة سهلة للتدخل وبسط النفوذ تسعى دول الجوار الليبي إلى التعاون معها من أجل مساعدتها على إنجاح العملية الديموقراطية من أجل تدعيم استقرارها باعتباره جزءا لا يتجزأ من استقرارهم، وأن ثروتها النفطية الهائلة التي يعتبرها البعض هدفًا للاستيلاء والتبديد، يجب أن تكون مصدرًا لخير ونماء الشعب الليبي أولًا ومصدرًا للتعاون مع دول الشمال الأفريقي التي تعد جزءًا منه، هذا الأمر يحفز حالة الترقب لديها عما ستسفر عنه نتائج الانتخابات لتأثيرها الهام عليها ولتأثيرها الفاعل على المشهد الإقليمي بالكامل.
* إجماع شمال أفريقي على إنجاح الاستحقاق الانتخابي
هناك ما يشبه الاتفاق غير المكتوب بين كل دول الجوار الليبي على دعم الاستحقاق الانتخابي وإنجاحه، فالدولة المصرية باعتبارها الجار الراعي لكل جهود التسوية الليبية منذ 2011م تسعى بشكل حثيث إلى تحقيق توازن في علاقاتها مع كافة الأطراف الليبية، وتقديم الدعم ومساعدة ليبيا في إجراء الانتخابات، كما سعت مصر إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية مع طرابلس والحكومة الليبية من خلال توقيع عدة اتفاقيات تعاون في البنية التحتية، والتي تمثلت في 14 مذكرة تفاهم مشترك و6 عقود تنفيذية، وتقدر قيمة الاتفاقيات الموقعة بين الطرفين إلى ما يصل إلى 33 مليار دولار، كما أن مصر تُشارك دول الجوار الليبي “الأفريقية” القلق من ملف “المليشيات العابرة للحدود”، باعتبارها خطرًا على الأمن الإقليمي بالكامل وليس مصر فقط، التي تدفع في اتجاه تصدير تجربتها في مواجهة العناصر الإرهابية إلى دول شمال أفريقيا والساحل، وذلك لوقف تجنيد عناصر جديدة، وعدم استقطاب عناصر أخرى، ومنع الدعم بالمال أو السلاح من الخارج عن التنظيمات الإرهابية.
كما يشكل نجاح الانتخابات الليبية تأثيرًا مهمًّا على الجزائر التي تسعى إلى تحقيق استقرار أمني وضبط لحدودها، وهو الأمر الذي لن يتحقق سوى باستقرار الجارة الليبية، خاصة وأن المنطقة الجنوبية الغربية منها عانت طوال العشر سنوات الماضية من خلل أمني لن يضبطه إلا بعض الاستقرار الذي حققه الجيش الوطني الليبي عندما بسط سيطرته على النقاط الاستراتيجية به، خاصة في معبر “إيسين” الحدودي بين ليبيا والجزائر, أما تونس فتسعى إلى الحفاظ على استقرار مسارات التجارة الحدودية مع ليبيا وعدم تشظّي الوضع الأمني الذي سيدفع تدهوره حال فشل الانتخابات إلى عرقلة الإمدادات المتواصلة للنفط عبر الحدود بينهما، كما سيوقف سيل المبادرات القاعدية الشعبية التي أسفرت عن اتفاقات تجارة عبر الحدود بين البلدين.
كما تنظر مالي وتشاد والنيجر والسودان إلى نتيجة الانتخابات الليبية بترقب كبير, خاصة بعد أن شهدت الحدود الجنوبية لليبيا انفلاتًا أمنيًّا منذ عام 2011، وتأججت على إثره الصراعات بتلك الدول وصعود الجماعات الإرهابية بها خاصة في شمال مالي، ناهيك عن انتشار ظاهرة تهريب البشر والمهاجرين وتهريب الوقود، إضافةً إلى تهريب الأسلحة وتسرب للتنظيمات الإرهابية من وإلى تلك الدول، وهو ما سيدفع نجاح الانتخابات إلى الحد منها، والدفع نحو إمكانية عودة التعاون الاقتصادي بينهم الذي شهد انهيارًا كاملًا عقب 2011م.
*الإسلام السياسي والمشهد الانتخابي
يشكل تيار الإسلام السياسي الذي سيطر على المشهد الليبي، وخاصة في الغرب على مدار عشرية كاملة تأثيرًا على الانتخابات الليبية حاليًا، فما زال يشكل تأثيره على المشهد الإقليمي لدول الجوار الليبي وإن كان بشكل أقل، حيث يراهن على استمرار حالة عدم الاستقرار بها ويستفيد من حالة الخلاف داخل النخب السياسية من الليبيين، وتشكل جماعة الإخوان المسلمين رأس الحربة لذلك التيار من خلال تكثيف انتشارها في طرابلس ومصراته والزنتان مؤخرًا، وتدعم معارك الساحات والطرقات التي تنشب كل فترة مستهدفة بالدرجة الأولى ضرب هذه الانتخابات وتأجيلها خوفًا من الهزيمة وإمكانية خروجهم من المشهد السياسي وخسارة النفوذ والمنافع التي حصدوها خلال سنوات الفوضى منذ عام 2011م.
كما لا يغيب عن ذهن جماعة الإخوان وعناصرها في ليبيا مشهد سقوط التنظيم في دول الجوار الإقليمي، في مصر وتونس والمغرب والسودان، وهو ما يدفع الجماعة من خلال تنظيمها الدولي إلى تكثيف مساعيها للهروب من المصير المنتظر والمتوقع خلال الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة؛ إذ إن الخبرة الإقليمية تشير إلى تراجع قدرات تنظيم الإخوان وافتقاده لمقومات التأثير وانكشافه السريع في المجتمعات التي شهدت صعوده وظهر ذلك في سقوط الإخوان في مصر في أعقاب ثورة 30 يونيو 2013، وانحسار نفوذ حركة النهضة في تونس وسط حالة الاستياء والرفض الشعبي لممارستها، فضلًا عن الخسارة المدوية لحزب العدالة والتنمية في المغرب وإزاحته عن السلطة في السودان بسقوط نظام عمر البشير.
كما أن نشاط الجماعات والمليشيات الإرهابية في ليبيا وتسلله إلى دول جوارها يفاقم من الخطر على الأمن الإقليمي الذي أبدت العديد من دوله وعلى رأسها مصر خلال اجتماعات أفريقية تخوفها من تزايد نشاط تلك المليشيات الغير الخاضعة للسيطرة” وإمكانية تمركزها وتوسيع نشاطها “كتنظيمات عابرة للحدود”، واتخاذها من ليبيا ركيزة لانتقالها إلى دول أخرى, وتحديدا من جنوب غرب ليبيا مرورًا بتشاد والنيجر وشمال نيجيريا وشمال بوركينافاسو ومالي وصولًا إلى المحيط الأطلنطي.
أما تركيا فتعد طرفًا إقليميًّا دخيلًا على الحالة الليبية، ولكنها مؤثرة ومتأثرة بها بسبب وجودها العسكري هناك، خاصة أن احتمالية قيام حكومة ليبية منتخبة بعد إجراء الانتخابات، سوف يدفع إلى إعادة النظر في الاتفاقيات العسكرية والبحرية والاقتصادية معها, وتواجه في الوقت نفسه بدعمها الواضح لتيار الإسلام السياسي الذي سيدعم بدوره فتحي باشاغا، تحديات كبيرة مع الأطراف الإقليمية الفاعلة وعلى رأسها مصر التي يتفق توجهها في ليبيا مع الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ولكن يبقى التحدي الأكبر لتركيا في ليبيا أن حلفاءها في الغرب الليبي من الإسلاميين غير قادرين على تأمين مصالحها في ليبيا بعد أن فقدوا العديد من قواعدهم الشعبية وداخل مؤسسات الدولة الليبية بعد المصالحة الوطنية.
*سيناريوهات الانتخابات بين الفشل ونجاح الاستحقاق
يواجه مصير الانتخابات الليبية ثلاثة سيناريوهات تتراوح ما بين نجاح أحد الفريقين وفشل إجراء الانتخابات بالكامل وتتمثل فيما يلي:
*السيناريو الأول: نجاح الإسلاميين وسيطرتهم على مؤسسات الدولة
ويقوم هذا السيناريو على نجاح مرشح التيار الإسلامي وسيطرة تيار الإسلام السياسي على المشهد السياسي بالكامل، وهو ما سيدفع إلى حالة من التوتر الإقليمي مع دول الجوار الليبي, خاصة الدول التي سقط فيها المشروع الإسلامي وعلى رأسها مصر والسودان وتونس, بالإضافة إلى بقاء حالة السيولة الجهادية وتسلل العناصر الإرهابية من وإلى الداخل الليبي إلى دول الجوار وخاصة مالي وتشاد، بالإضافة إلى سيطرته على المؤسسات الليبية ومنع التيار المدني والقوى العسكرية من التواجد بها، وهو ما سيدفع إلى معارضة مدنية كبيرة ستفشل في إعادة تكوين المؤسسات الليبية.
*السيناريو الثاني: نجاح التيار الوطني والدفع نحو الاحتراب الداخلي
ويعتمد هذا السيناريو على نجاح الانتخابات الليبية بتيار مدني أو شخصية عسكرية تميل إلى التيار المدني، وهو ما سيشكل إلى قبول إقليمي ودولي كبير، خاصة من مصر والسودان والجزائر التي ترفض سيطرة التيار الإسلامي على الحكم, ولكن رد فعل جماعة الإخوان وتيار الإسلام السياسي سيكون معرقلًا له، وذلك بشنّ حملة إعلامية متواصلة من أجل إفشاله وتشويه مشروعه المدني، كما أنها ستدفع إلى عودة الصراع والانقسام مجددًا بين الشرق الليبي والغرب الليبي وربما الاقتتال الأهلي.
*السيناريو الثالث: فشل الانتخابات والعودة للصدام الداخلي
ويعد هذا السيناريو هو الأقرب للفوضى وإعادة ليبيا إلى مربع الصفر, حيث إن فشل الانتخابات من خلال العراقيل التي يضعها الإسلاميون بالاعتراض على النتائج أو منع إجرائها سوف يدفع إلى بقاء المرتزقة والميلشيات وتعطيلها لمؤسسات الدولة، وسيدفع دول الجوار إلى إغلاق حدودها مع الدولة الليبية وتنامي خطر التهديد لها من قبل الميلشيات والمرتزقة.