كتبت – أماني ربيع
الانتخابات لعبة محفوفة بالمخاطر في الدول المتقدمة التي أرست بالفعل قواعد الديموقراطية في سياساتها، لكنها في أفريقيا والدول النامية التي تحكمها ديكتاتورية الحزب الواحد تشبه الوقوف مباشرة أمام فوهة بندقية محشوة بالرصاص.
لكن أفريقيا تتغير، ربما ليس الآن حالا، وإنما هي في الطريق إلى ذلك بحسب كثير من المعطيات التي حدثت خلال العقد الأخير وجعلت رموزا على مقاعد السلطة أصبحوا تاريخا في دولهم، وهذا المنطق الذي يتبعه مطرب الراب الذي اقتحم عالم السياسة في أوغندا بوبي واين الشاب ذو الثمانية والثلاثين عاما، والذي مثل حلما لشعب بلاده في أن يكون المخلص من حكم الديكتاتور يوري موسيفيني الذي استمر في الحكم رغم أنفهم، لما يزيد عن ثلاثة عقود، حيث تولى السلطة عام 1986.
بدأ موسيفيني الذي كان يبلغ وقت توليه حكم أوغندا 41 عاما، جهودا لإعادة السلام والاستقرار إلى البلاد الواقعة شرق أفريقيا، بعد سنوات من الوحشية في عهد اثنين من الديكتاتوريين، لكن قبضته الحديدية على السلطة جعلته عرضة للانتقادات، حيث اتهم المعارضون حكومته بتمكين الفساد المستشري بأجهزة الدولة، وارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.
مرشح في وجه الخطر
تعرض واين المعارض الرئيسي في انتخابات الرئاسة الأوغندية هذا العام للاعتقال يوم الترشيح ومنع من تنظيم فعاليات جملته الانتخابية، ولم يسمح له بتعليق ملصقات دعائية، أو الحصول على أماكن للوحات إعلانية، كما منع من أية مقابلات مع محطات الإذاعة والتلفزيون، وقال: أنا مرشح رئاسي، لكن لا يسمح لي بالقيادة في الطرق الرئيسية أو مخاطبة الناس في المدن.
كما للاستهداف بالرصاص والغاز المسيل للدموع، وأعلن أنه نجا بأعجوبة من هجمات عدة تعرض لها في الفترة التي سبقت التصويت، بحسب تصريحاته لشبكة سكاي نيوز البريطانية.
وصرح: “بمعجزة، لا أزال على قيد الحياة، ولم يقتل أحد من فريقي.
واضطر السياسي القادم من عالم الموسيقى لارتداء سترة وخوذة وقاية من الرصاص بعد اتعرضه لهجوم بالأسلحة النارية، وتدمير إطارات السيارة التي يستقلها والزجاج الأمامي أيضا.
يقال واين: “حياتي في خطر، أعيش كل يوم كما لو كان الآخير، حياتي وحياة زوحيت والمقربين مني مهددة، لكننا ندرك أن حياتنا لا تنتهي معنا، لقد دفع الكثيرون في أوغندا الثمن، وحياتي ليست اكثر قيمة من حياة شعبي.
وأضاف: الانتخابات فرصتنا الوحيدة، وبما أننا لا نهدف إلى العنف، فمشاركتنا بالانتخابات هي احتجاج لللتحدث بصوت عال يصل إلى الجميع.
تاريخيا كان موسيفيني قادرا على الاستمرار في إحكام قبضته على السلطة بدعم الجيش والشرطة والمفوضية الانتخابية، التي سمحت له بذلك لمدة طويلة، حتى أنه عدل عبر أغلبية حزبه بالبرلمان الأوغندي تعديل مادة في الدستور كانت تمنع ترشح من تجاوز سنهم الخامسة والسبعين إلى الرئاسة، وفي عام 2005، قام بإلغاء تحديد مدة الولاية الرئاسية لتمديد بقائه في الحكم.
لذا لم يكن مفاجئا إعلان اللجنة الانتخابية الأوغندية منتصف يناير الماضي، أن الرئيس يويري موسيفيني قد أعيد انتخابه بنسبة 58.6٪ من الأصوات المدلى بها، بينما حصل بوبي واين على 34.8 من الأصوات، وهي النتائج التي شكك واين ومؤيديه في صحتها، ورفضوا الاعتراف بها.
ومع ظهور نتائج الانتخابات، حاصرت السلطات منزله ووضعته قيد الإقامة الجبرية، ومنعت السفير الأمريكي من زيارته، وحتى بعد صدور حكم قضائي بمنع احتجازه بالمنزل، زل الأمن قريبا يضع الحواجز على الطرق المؤدية إلى بيته، ولايزالون يحاصرون مقر حزبه، ويخطط واين الآن لتقديم أدلة أمام المحكمة للطعن في النتائج.
نضال بالموسيقى
رحلة استثنائية قام بها واين أو “روبرت كياجولاني” من الأحياء الأشد فقرا إلى بريق أستوديوهات التسجيل الموسيقي، ومنها قرر أن يمنح صوته لأبناء شعبه ويقف في وجه قاعدة سياسي مخضرم جثم على عنق البلاد لسنوات وسنوات.
حتى في موسيقاه، اختار واين أن يكون صوتا للنضال، ومع إنطلاق مسيرته الغنائية في بداية الألفية الثالثة، قدم ألحان كلمات شجاعة رافضة للفقر والقمع محمولة على ألحان جذابة تقتحم العقول والقلوب في آن واحد، ربما هذا الحس النضالي هو ما حمله فيما بعد على استخدام شهرته لإطلاق ثورة سياسية في أوغندا تحرك المياه الراكدة وتعد بالمساواة ومحاولة القفز على أمراض الفقر والفساد والديكتاتورية، ورؤية أوغندا جديدة كما يتصورها جيله الشاب.
قضى واين الكثير من طفولته في كمبالا، وكانت والدته مارجريت نالونكوما الممرضة المعيل الرئيسي للأسرة واشترت أرضًا في حي كاموكيا الفقير حيث عاش الموسيقي وقام ببناء أستوديو التسجيل الشهير عالميًا.
عندما كان مراهقًا اكتشف شغفه بالفنون، وعند التحاقه لأول مرة بجامعة ماكيريري المرموقة بدأ الدراسة للحصول على درجة في العلوم الاجتماعية، بعد فصل دراسي واحد غير مقرراته ليدرس الموسيقى والرقص والدراما وحصل على دبلوم من الجامعة عام 2003.
حصد واين شهرة واسعة في أوغندا وشرق أفريقيا كمطرب الراب المفضل، ونجح في تحقيق الثراء واقتناص منزلا فارها، لكنه ورغم ذلك لم ينس ماضيه الذي عانى خلاله الفقر كما هو الحال مع معظم أفراد شعبه، ذاكرة الظلم الحية في قلبه جعلته واحدا من أبرز قادة المعارضة في بلاده، لتصبح شهرته في عالم السياسة تشبه مثيلتها في عالم الموسيقى والغناء.
دخل واين البرلمان عام 2017، وخلال السنوات الماضية حاول استخدام طاقة الشباب وغضبهم لأجل الوصول لمنصب الرئيس وتغيير وجه أوغندا، التي هي أبعد ما يكون عن دولة المؤسسات فهي دولة موسيفيني وعائلته بحسب قوله، موضحا أن تمكين المؤسسات المختلفة من وضع خطط للتنمية هي السبيل الوحيد لإيجاد حلول لمشكلات البلاد.
لكن لماذا تحول واين من عالم الموسيقى والإيقاع إلى السياسة، يرى المعارض الشاب أن التحاقه بالعمل السياسي خطوة منطقية، وقال في حوار مع بي بي سي: “تعلمون ، طوال مسيرتي الموسيقية، كنت أغني عن التحديات التي يمر بها الناس، لذا يبدو الأمر كما لو كنت أقوم بحملتي طوال مسيرتي الموسيقية.”
ليلة غيرت كل شيء
منذ 10 سنوات مضت، عندما كان بوبي متوجها لملهى ليلي سي سيارته الرياضية كاديلاك إسكاليد، وعند خروجه من الملهى فيما بعد فوجئ بشاب يقفز في سيارته ويضربه بعنف صارخا: “لماذا تتباهى هكذا كما لو كنت لا تعرف أن هناك أصحابا لهذه البلاد؟”.
ويبدو أن هذه الضربة بدلا من إغضاب واين، أيقظته، وجعلته يفيق من سكرة الشهرة ليرى واقع بلاده المتردي، لم ينس تلك الليلة، يقول: “أردت أن نقول إن هناك أصحابا لهذه البلاد، وهم نحن جميعا.”
تغيرت موسيقى واين وأغنياته بعد دخوله المجال السياسي وحولها من مجرد ترفيه خالص إلى نمط آخر جديد، يتوافق مع تطور شخصيته ورؤيته للعالم، واعتبر أغانيه نوعا من “الترفيه التثقيفي” أو التعليمي.
في 2016، فاز موسيفيني بفترة رئاسية جديدة، بعد انتخابات مشكوك في صحتها كالعادة، شعر واين في تلك اللحظة أن الأوان قد جاء ليترك كرسي المشاهد والمتفرج السلبي، وقرر دخول الانتخابات البرلمانية ليفوز بمقعد في البرلمان بالفعل.
سياسي ماهر
منذ ترشحه للبرلمان لأول مرة، استهان مؤيدو الحكومة ومنتقديها مرارًا بقدرات وبي واين، لذي اضطر للترشح كمستقل بعد أن أبعده حزبا المعارضة الرئيسيان ، منتدى التغيير الديمقراطي والحزب الديمقراطي، ومع ذلك، فقد فاز بسهولة في الانتخابات الفرعية في دائرة Kyandondo East داخل كمبالا بنسبة 78 ٪ من الأصوات، ومنذ ذلك الحين أثبت أنه سياسي ماهر نجح في بناء حركة سياسية قوية من الصفر.
خلال أول عامين من توليه المنصب ، اكتسب سمعة كمعارض لا يعرف الخوف من موسيفيني، وكانت صوتا رائدا ضد جهود الرئيس التي نجحت رغم كل شيء، في إزالة حدود عمر المرشح الرئاسي من الدستور، كما قاد احتجاجات ضد الضريبة التي اقترحتها الحكومة على وسائل التواصل الاجتماعي في يوليو 2018.
بحلول عام 2018 ، أنشأ واين مجموعة ضغط سياسية تسمى “قوة الشعب قوتنا”، عندما منعت الحكومة تسجيلها كحزب سياسي رسمي ، تفوق بوبي واين على لجنة الانتخابات من خلال مواءمته مع حزب أصغر موجود مسبقًا، وأعاد تسميته باسم “منصة الوحدة الوطنية”، وسانده أكثر من 20 نائبا بأحزاب معارضة راسخة وسارعوا لترك أماكنهم فيها والانضمام إلى حزبه.
وبعد هذا النجاح، كان من الطبيعي أن يصبح هدفا لقمع الدولة، حيث تم منعه مرارًا من إقامة الحفلات الموسيقية ومنع الجمهور من ارتداء القبعات الحمراء التي تحمل علامة People Power التجارية، كما حظرت أغانيه في الإذاعة والتلفزيون الحكومي، ما جعله يلجأ لعرض أغنياته على يوتيوب.
منذ ترشحه تم القبض على بوبي واين مرات لا تحصى، لم تتم إدانته مطلقًا بأي من التهم الموجهة إليه، وقُتل بعض أعضاء الحركة وأنصارها، في ظروف مريبة.
في أغسطس 2018 ، تم القبض على بوبي واين وما لا يقل عن 35 من مساعديه السياسيين بعد تقارير مشبوهة عن تعرض موكب موسيفيني للرجم بالحجارة، في نفس الليلة، قُتل سائقه، ياسين قوامة، برصاصة يعتقد واين أنها كانت من أجله هو.
وبعد هذه الاعتقالات، تم توجيه تهمة الخيانة وحيازة أسلحة نارية غير قانونية إلى عضو البرلمان في كيادوندو إيست، وخلال الأيام العشرة التالية له في الحجز، تعرض للضرب المبرح من قبل قوات الأمن الحكومية لدرجة أنه لم يستطع الوقوف أو الجلوس أو المشي، وسافر للعلاج من إصاباته في الولايات المتحدة.
ولم يمنع الغضب الدولي من هذا الحادث نظام موسيفيني من تصعيد تكتيكاته القمعية خلال هذه الدورة الانتخابية.
مد شبابي متصاعد
كان الخوف من التأثير المتصاعد للفنان الشاب ظاهرا للغاية في تصرفاتالسلطة الحاكمة، خاصة مع التغييرات الإقليمية التي حدثت في السنوات الماضية بالسلطة الحاكمة في أكثر من دولة، فقد أزيح روبرت موجابي عن السلطة في زيمبابوي عام 2017، وهو نفس العام الذي شهد تنحي خوسيه إدورادو دوس سانتوس عن رئاسة أنجولا بعد 38 عاما في الحكم، ويحيى جامي رئيس جامبيا الذي ترك السلطة بضغوط من دول غرب أفريقيا، والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة الذي ترك منصبه مع ضغوط المتظاهرين، وكذلك الرئيس السوداني عمر البشير الذي خرج من السلطة بانقلاب قام به الجيش،
لذا أدت التصرفات العنيفة من قبل الدولة، إلى مزيد من الشجاعة لدى فريق واين لأنها تدل على الخوف وعلى هشاشة وضع موسيفيني ونخبته، الذين رأوا أنه باتوا مهددين بشكل حقيقي من قبل واين، لذا يريديون القضاء عليه، باعتباره الأمل في توحيد القوى التي تسعى للتغيير في أوغندا، على حد وصفه.
في خضم حملته الانتخابية، كان واين مؤمنا بالأمل، مع تصاعد المد الشبابي في أفريقيا، حيث بات الشباب أكثر تواصلا واستنارة عن ذي قبل، وسعى هو لاستغلال هذا الزخم وتأكيده باستخدام قوة الشباب في التصويت، وأصبحت أغنيته (We Shall Wear the Victor’s Crown) واحدة من الأناشيد غير الرسمية لحملته الانتخابية.
وبحسب موقع ” theconversation” تعد التغيرات الديموغرافية في أوغندا أحد الأسباب الرئيسية في جاذبية بوبي واين الانتخابية، حيث يبلغ عدد سكان الدولة الواقعة في شرق أفريقيا 46.5 مليون نسمة ، وهي واحدة من أصغر السكان في العالم ، بمتوسط عمر يبلغ 16.7. ما يزيد قليلاً عن واحد من كل خمسة أوغنديين تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 و 77٪ من سكان البلاد تقل أعمارهم عن 30 عامًا.
هؤلاء الشباب أصبحوا لا يرون سوى القليل من الأمل في المستقبل، وبحسب بعض التقديرات ، تصل بطالة الشباب في أوغندا إلى 70٪. لذلك ، يمكن للشباب المحبطين الانجذاب بسهولة لنموذج بوبي واين ، الذي نشأ في حي كامبالا في كاموكيا، وهو مثله لم يعرفوا سوى الحياة تحت حكم موسيفيني. لم يكن تجاوز سن الرابعة عندما تولي موسيفيني السلطة لأول مرة عام 1986.
داعب بوبي أحلام هؤلاء الشباب بمهارة، وأصبحت حركته نموذجا لجيل فيسبوك في مقابلة جيل “شد الوجه” الذي يمثله نظام موسيفيني، وتمكن من حشدهم عبر تعبيره عن الإحساس العميق بالغضب والظلم الذي يشعر به الشباب الأوغندي تجاه نظام موسيفيني، ليصبح وجه وصوت الرغبة الجماعية للشباب في التغيير السياسي بأوغندا.
لكن رغم كل الأمال واجهت فريق واين أزمة في عملية تنظيم الانتخابات، وتسجيل الناخبين في مناطق الريف التي يسيطر عليها حزب موسيفيني، وتم منع الصحفيين والمراقبين المستقلين من مراقبة الانتخابات، ورفضت الحكومة اعتماد معظم المراقبين الذين كانت البعثة الأمريكية في أوغندا تنوي نشرهم، بالإضافة إلى القيود على حركة المعلومات بسبب قطع الإنترنت في جميع أنحاء البلاد.
استمرت الاعتقالات بلا هوادة طوال الحملة الانتخابية، كما تم تقييد التجمعات وقابلت الحكومة أنصار المعارضة بقوة مميتة، وبد اعتقال بوبي في منتصف نوفمبر الماضي، اندلعت احتجاجات على مستوى البلاد قتلت خلالها قوات الأمن الحكومية 54 شخصًا على الأقل.
ردًا على هذه الانتهاكات ، في أوائل يناير، قدم بوبي واين واثنان آخران شكوى من 47 صفحة إلى المحكمة الجنائية الدولية ضد موسيفيني وتسعة من مسؤولي الأمن في نظامه ، متهمين إياهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان تعود إلى عام 2018 .
ربما لم تنجح محاولة بوبي واين هذه المرة، حيث استطاع موسيفيني مجددا الحفاظ على قبضته الحديدية على السلطة، لكن رغم الخسارة، كانت رياح التغيير بمثابة عنوانا جديدا للأمل.