كتبت – أماني ربيع
79 عاما مرت على العرض الأول لواحد من أشهر كلاسيكيات السينما في القرن العشرين وأحد أضخم إنتاجات هوليود في عصرها الذهبي، ونعني هنا بالطبع فيلم “ذهب مع الريح”، ” Gone with the Wind”، من بطولة الحسناء البريطانية فيفيان لي، والنجم الأمريكي كلارك جيبل، وإخراج القدير فيكتور فيلمنج.
تبلغ مدة الفيلم الذي أنتج عام 1939، نحو أربع ساعات ومع ذلك حتى الآن، ضمن أعلى الأفلام إيرادات في تاريخ السينما، واستحوذ على اهتمام النقاد، ومحبة الجمهور، الذي رغم ساعاته الطويلة، نجح في سرد ملحمة الحرب الأهلية الأمريكية في إطار قصة حب عاصفة بين البطلة الجنوبية والبطل الشمالي.
اتهام بالعنصرية
توافرت للفيلم كل عناصر النجاح، بدءا من اختيار القصة المأخوذة عن رواية الأديبة مارجريت ميتشل بنفس الاسم والتي صدرت عام 1936، مرورا بإدارة العمل من قبل مخرج مخضرم مثل فيكتور فيلمنج، صاحب “جزيرة الكنز” و”ساحر أوز”، والذي منحته سنوات خدمته كمصور خلال الحرب العلمية الأولى القدرة على تصوير أجواء الحرب والدمار الذي تخلفه بهذا الفيلم، ولا ننسى اختيار نجمين من كبار نجوم هوليود هما فيفيان لي، وكلارك جيبل، بالإضافة إلى أوليفيا دي هافيلاند، وهاتي ماكدينال، وليزلي هاورد.
هذا الزخم منحه فرصة ذهبية للمنافسة في شباك التذاكر الأمريكي، وكذلك حصد 8 جوائز أوسكار، منها أفضل ممثلة رئيسية لفيفيان لي، وأفضل ممثلة مساعدة لهاتي ماكيدنال عن دور “مامي”، والتي أصبحت بفضله أول ممثل أو ممثلة من أصول أفريقية، على الإطلاق تفوز بجائزة الأوسكار، ولم يتحقق هذا السبق مجددا لمدة تجاوزت العشرين عاما مع فوز النجم الأسمر سيدني بواتيه بجائزة افضل ممثل عن دوره في فيلم “خمن من سيأتي على العشاء” عام 1968.
واحتل “ذهب مع الريح ” المركز الرابع في قائمة أفضل 100 فيلم أمريكي في القرن العشرين، والتي أصدرها معهد الفيلم الأمريكي.
وبرغم كل ما سبق، خرجت منصة البث ” HBO Max” على الجمهور بقرار غريب هو حذف نسخة الفيلم من المنصة، باعتبار أنه يحمل مضمونا عنصريا ضد الأمريكيين من أصول أفريقية.
واللافت أن الفيلم خلا من أي عنصرية في المعاملة تجاه ذوي البشرة السوداء الذين ظهروا خلال الفيلم كـ “رق”، وأبرزهم مربية البطلة سكارليت أوهارا “مامي” التي جسدتها هاتي ماكدينال، والتي طالما مثلت صوت العقل لسكارليت المتهورة، وكانت تعاملها بأمومة وندية، وكذلك أحد الرقيق “بيج سام” وكان مفضلا عند جيرالد والد سكارليت وقام بإنقاذها من تحرش بعض ذوي البشرة السوداء، فيما بعد.
لكن اعتبر البعض أن هذه الصورة الوردية عن حياة الرق في الجنوب الأمريكي، هي نوع من العنصرية، حيث تمثل صورة مغايرة للواقع الذي كان يعايشه السود في مزارع القطن بالجنوب، وأنها صورة رومانسية، تجسد خضوع الرق ورضاهم بالحياة في العبودية.
تدور أحداث الفيلم في ولاية جورجيا خلال فترة الحرب الأهلية الأمريكية والتي دارت رحاها بين الولايات الشمالية والجنوبية في الفترة من عام 1861 إلى عام 1865، ونرى خلال الأحداث انعكاس الحرب على المجتمع الجنوبي، وكيف تسبب إعلان تحرير العبيد في تدهور أحوال المزارعين الإقطاعيين في الجنوب، مقابل ازدهار المجتمع الصناعي.
ومن المعروف أن الخدم من الرق الذين كانوا يعملون في المنازل، كانوا أقل ميلا للتمرد من الذين يعملون بالمزارع، وهو ما ظهر في فيلم ” Django Unchained” عام 2013، للمخرج كوينتن تارناتينو، ورأينا فيه كيف كان خادم منزل الإقطاعي الذي جسده ليوناردو ديكابريو بالفيلم يحرضه ضد الرق الآخرين في المزرعة، وكيف ظل لآخر لحظة يرفض تمردهم على السيد الأبيض، ربما لأنهم لا يعانون نفس معاناة الرق الآخرين.
وعلق كاتب السيناريو جون ريدلي على الأمر عبر صحيفة “لوس أنجلس تايمز”، قائلا إن الفيلم يمجد الجنوب في فترة ما قبل الحرب الأهلية، ويقدم صورة نمطية لذوي البشرة السوداء.”
وأضاف أن أفضل نجوم هوليود تعاونوا في خلق صورة مشوهة وغير حقيقية لتاريخ عنيف مليء بالدماء، وخلق التعاطف معها.
عاصفة الصوابية السياسية
وبدأ الكثيرون في إعادة النظر بأفلام وأعمال تلفزيونية أمريكية، في ضوء الاحتجاجات التي تشهدها الولايات المتحدة ودور أوروبا بعد مقتل المواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد على يد رجل شرطة أبيض، مايو الماضي، حيث انتشر للحادث فيديو قاسي، ظهر فيه الشرطي وهو يضغط على عنق فلويد بقوة”، بينما الأخير يجاهد لالتقاط أنفاسه، ويصرخ “لا أستطيع التنفس”.
وسوف تقوم شبكة ” HBO Max” ، بعرض الفيلم، مع توضيح وإدانة لما يقدمه الفيلم من قضايا تم تناولها بشكل عنصري.
وبالطبع لن تقوم الشبكة بحذف أي مشهد من الفيلم، وأكدت أنه ستعود لعرضه كاملا، لأن ذلك على حد وصف البيان يعتبر “إنكار للتاريخ”.
وبالمثل حذت منصة “ديزني بلس” حذو ” HBO Max” ونوهت بأن بعض أفلامها القديم، تحوي وجهات نظر عفا عليها الزمن، ولم تعد مناسبة لهذا العصر.
وفي حوار مغ شبكة “سي إن إن” الأمريكية، قال المتحدث باسم شبكة ” HBO Max”، إن الفيلم بالفعل يتناول قضية التحيز العرقي بصورة نمطية كانت شائعة في ذلك الوقت لدى المجتمع الأمريكي.
مضيفا أن هذا التحيز كان خاطئا في ذلك الوقت، وهو خاطئا أيضا الآن، وأن الشبكة شعرت أن الإبقاء على الفيلم دون توضيح وإدانة لما يتناوله تصرف غير مسؤول.
ورفض البعض حذف الفيلم باعتبار ذلك جزء من الصوابية السياسية التي أصبحت تغلف الأجواء في هوليود، وجعلت مجتمع الإبداع غير حر في طرح الأراء ووجهات النظر المختلفة، وشبه البعض ما يحدث بمقص الرقيب في الدول الديكتاتورية، التي تريد كل شيء وفق هواها وما يتعارض مع ما تؤمن به، يتم حذفه كأنه لم يكن.
ولم تطل الانتقادات ذهب مع الريح فحسب، فطالت أيضا واحدا من أكثر المسلسلات الأمريكية شهرة حول العالم، هو مسلسل “friends” وكيف أن الأصدقاء الستة أبطال المسلسل لم يكن بينهم صديق أسود البشرة، وأن كل العلاقات به سوية، وخالية من المثلية، التي أصبحت الآن متقبلة في المجتمع الأمريكي.
وكذلك بعض الأعمال الأخرى التي لا تتوافق مع كود الصوابية السياسية، وتتعلق بقضايا المرأة والتنوع، وبات الآن، على كل صانع أفلام أن يقدم سيناريو يحوي ابطال من البيض والسود واللاتينيين والمثليين، والفيمينيست، وإلا يهاجم العمل.
ورأى بعض النقاد أن الاستمرار على هذا لمنوال، يعني أن عاصفة الصوابية السياسية قد يهدد تراث السينما والدراما الأمريكية، وأنه أخطر من التيارات المتطرفة التي ترفض الرأي الآخر.
وانتشرت الصوابية السياسية في هوليود مع صعود حملة “مي تو” عام 2017، والتي رصدت اعترفات نجمات وممثلات هوليود بتعرضهن للتحرش من قبل المنتجين والنجوم الرجال من أجل الفوز بفرص جيدة في الصناعة، وتم سجنا لمنتج هارفي واينستين الذي ثبتت بالفعل الإدعاءات ضده بالتحرض، كما انتهى المستقبل المهني للمثل كيفين سبايسي، بعد ثبوت تعرضه بالتحرش بأحد الممثلين منذ 30 عاما.
وبالطبع انكشاف ذلك أمر جيد ويعتق الكثير من النساء في هوليود من نير الاستغلال، لكن الأزمة هو أن بعد ذلك، أصبح كل رجل في هوليود متهما، وكل امرأة تصمت هي متواطئة، وباتت هناك فرصة للتخوين والملاحقات الصحفية للنجوم والتنقيب على اقل هفوة لفنان أو نجم حتى لو كانت قبل سنوات، قبل أن ينضج، وبات هناك نوع من التحفز لكل تعليق أو تصريح يُقال.
ويعني مصطلح “الصوابية السياسية – Political Correctness” الانضباط والرقابة اللغوية على الكلمات بهدف تجنب أدنى إساءة إلى الأقليات والمهمشين والمضطهدين اجتماعيًا وتاريخيًا، للقضاء على التمييز اللفظي والقوالب النمطية السلبية.
لكن مع التطبيق العملي للصوابية السياسية، يبدو أنها تحولت من محاولة لمنع التعصب والتحيز المسبق، إلى صناعتة أنواع جديدة من التعصب والتحيز.