كتب – أماني ربيع
عندما يسري صوت رجل أو امرأة أفريقية إلى مسامعك، ستشعر أنهما في حالة عناق تام مع الطبيعة ليس بالصوت فقط، وإنما بالإيقاع والأداء، فكلمات موسيقى وغناء ورقص هي عادة وصف لشيء واحد في الثقافة الأفريقية التقليدية، يغيب المغني/ الراقص كلية في الأثير، يتصاعد صوته تارة ويغلبه الحماس وتتقد العينان كجمرتين مشتعلتين، ثم تنخفض في نعومة لتصبح همسًا، سيبدو بشكل أو بآخر مجذوبًا خطفت عقله الأرواح التي تهمس في أذنه بالكلمات وتداعب أوتار حنجرته بالإيقاع المناسب، ويميل الجسد، وكأن أمرًا أكبر منه يطالبه بذلك، ينحني ويقفز وتدق أرجله التراب في لوحة بديعة لن تراها إلى في القارة السمراء.
في أفريقيا، تُستخدم الموسيقى للتواصل وتمرير الحكايات والتراث، والترحيب بالأبطال، هذا ضمن وظائف أخرى كثيرة، وهناك أنواع مختلفة من الموسيقى الأفريقية التي تخلق المزاج المناسب بكل مناسبة حسبن نوعها.
تعد الموسيقى التقليدية في أفريقيا مصدرًا غنيًّا للمعرفة، ولعبت دورًا هاما في الثقافة الأفريقية، باعتبارها ضرورة في تمثيل التراث الأفريقي، حيث كانت ترتكز الثقافات الأفريقية القديمة على الموسيقى في إيقاع حياتهم اليومية بشكل كامل، في رواية القصص والممارسات الدينة، والطقوس المختلفة.
إرث مهدد
تحفل المجتمعات الأفريقية بالعديد من التقاليد الشفوية الغنية، وهي وسيلة شائعة في أفريقيا، أن تنتقل اللغات والموسيقى بشكل رسمي من جيل لآخر، من الفم إلى الأذن ولا تكتب، لكن أحيانًا ما يحدث خلل في الانتقال وفقدان للاتصال، بسبب النزوح أو الإبادة الجماعية أو المرض، ما يعني موت المعرفة التي تم نقلها من الآباء إلى الأبناء عبر الأجيال.
وللأسف ككل شيء تقليدي في أفريقيا، فهي إرث مهدد بالاندثار، بسبب اختيار معظم الموسيقيين الأفارقة محاكاة الاتجاهات الأمريكية والأوروبية رغبة منهم في تحقيق الانتشار السريع والربح التجاري المؤكد.
يعتقد الكثير من المهتمين بالثقافات الأفريقية أنه يجب بذل جهد أكبر للحفاظ على الموسيقى التقليدية بالقارة، لكن فقدان الهوية الموسيقية الأفريقية ليس فقط بسبب طموح الموسيقيين في أن يكونوا عصريين، ربما لأن الموسيقى التقليدية التي تعود لآلاف السنين وجدت أكثر من عائق لتستطيع الحفاظ على أهميتها في عالم مدفوع بالتكنولوجيا، مثلا: فشل المؤسسات التعليمية في جميع أنحاء أفريقيا في إدراج الموسيقى التقليدية ضمن المناهج، كذلك عدم وجود أرشفة للموسيقى التقليدية التقليدية الموجودة في بعض الأجزاء الأكثر ثراء من القارة ثقافيًّا، سواء بسبب الصراعات الداخلية والأنظمة السياسية القمعية، التي تسببت في فقدان هذا النوع من المعرفة إلى الأبد.
والموسيقى الأفريقية مليئة بالإيقاعات المعقدة ولا تتحد أنغامها بالضرورة بصورة منغمة، فالموسيقيون الفارقة يحاكون الطبيعة ويعبرون عنها عبر الصوت، ويصعب حتى على الدارس الغربي فهم تقنيتهم، فاختلاف الطبقات والصوت بين كل مقطع وآخر يجعل من الصعب على المدون الغربي التقاطه وتدوينه، خاصة أنه يحدث في بعض الأحيان أن يقوم المؤدي بالارتجال على النص الأصلي.
ويتم استخدام مجموعة واسعة من الآلات في الموسيقى الأفريقية، وتشمل عادة مجموعة كبيرة من الطبول، والصنوج، والخشخاش، والأجراس المزدوجة، بالإضافة إلى الآلات الوترية، مثل: الأقواس الموسيقية، وأنواع مختلفة من القيثارات والآلات الشبيهة بالقيثارة مثل الكورا وكذلك الكمان، وأنواع مختلفة من آلات النفخ مثل المزامير والبوق.
تشمل الطبول المستخدمة في الموسيقى التقليدية الأفريقية الطبول الناطقة، وbougarabou وdjembe في غرب أفريقيا، وبراميل المياه في وسط وغرب أفريقيا، والأنواع المختلفة من طبول نجوما (أو إنجوما) في وسط وجنوب أفريقيا. تشمل آلات الإيقاع الأخرى العديد من الخشخيشات والهزازات، مثل الكوسيكا وعصي المطر والأجراس والعصي الخشبية.
وظيفة الموسيقى
وندهش حين نعرف أن العديد من اللغات التي يتم التحدث بها في أفريقيا هي لغات نغمية، ما يؤدي إلى ارتباط وثيق بين الموسيقى واللغة في بعض الثقافات المحلية، حيث تستخدم هذه المجتمعات الأصوات والحركات الصوتية مع موسيقاهم أيضًا.
وفي العديد من الثقافات الأفريقية، لا توجد كلمتان في اللغة المستخدمة للتمييز بين كلمتي رقص وموسيقى، وعندما يستخدم المرء مصطلح الموسيقى في إشارة إلى الثقافة الأفريقية، يجب أن يتضمن ذلك فكرة الرقص، وخلافا للعديد من الحضارات الغربية، فالثقافة والموسيقى والرقص الأفريقي يعنيان أكثر من مجرد حركات وإيقاعات لقضاء وقت ممتع، حيث للموسيقى غرض أكبر بكثير، من الترفيه، فهي خلفية إيقاعية لرقصة تزاوج بين شخصين، ولا تؤدى من أجل فرد وإنما في إطار جماعي ولغرض محدد.
ووفقا للمفهوم النفعي فقيمة أي شيء تعتمد على استخدامه، وليس جمالياته، لذا تعد الموسيقى الأفريقية من نواح عديدة وظيفة نفعية تستخدم في جوانب حيوية من الحياة، مثل حفل تسمية الطفل، وطقس البلوغ، والأنشطة الزراعية والاحتفالات الوطنية وفي أوقات الحرب، والاحتفالات الدينية واحتفالات الموتى.
ومن أمثلة وظيفة الموسيقى والأغاني في أفريقيا، هي أغاني حرب قوات جيش التحرير الوطني الأفريقي “زانلا”، الجناح العسكري للاتحاد الوطني الأفريقي الزيمبابوي “ZANU”، حيث استخدموا مع الجناح العسكري للاتحاد الشعبي الأفريقي الزيمبابوي “ZAPU” ، أغاني نضالية لإثارة الجماهير، ومعظم تلك الغاني التي سجلت في معسكرات الجنود بالسبعينات تحتوي على أغانٍ شعبية وأغانٍ كنسية مع تغيير الكلمات لنشر الرسائل الثورية، كانت الفكرة هي استخدام إيقاعات أغاني مألوفة للناس، لتمرير رسائلهم بشكل أسهل.
ومعظم تلك الأغاني اعتمدت على أصوات الكورال، حيث لم تتوفر الآلات بشكل واسع في معسكرات الجنود، لذا فالموسيقى في أفريقيا هي أسلوب حياة وليس مجرد شكل من أشكال الترفيه، هي تستخدم في جواني الحياة الحيوية وثقافة أفريقيا متجذرة في موسيقاها.
وفي أنجولا التي وصلها الملاحون البرتغاليون عام 1482 ، وسرعان ما فرضوا ثقافتهم ودينهم على السكان الأصليين، بدأت الحركات القومية فيها مع القرن التاسع عشر بالمطالبة بإحياء الثقافة التقليدية مثل الموسيقى، وناقشت ماريسا مولمان، في كتابها “التنغيمات: تاريخ اجتماعي للموسيقى والأمة في لواندا، أنجولا “، كيف “استخدم سكان المناطق الحضرية في أنجولا في الفترة الاستعمارية من ” 1945- 1974″ الموسيقى للتحدث عن ظلم الاستعمار، ومعنى أن تكون أنجوليًّا، وما كانوا يأملونه في الكسب من الاستقلال.
خلال أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، شهدت صناعة التسجيل الموسيقي في أنجولا ذروتها، وكانت إذاعة أنجولا الوطنية من أكبر المروجين للموسيقى التقليدية.
تأثير عابر للمحيط
والموسيقى الأفريقية تراث غني ومتنوع، وراسخ في قلوب أصحابه، ونلمس هذا في مواطني الشتات الأفريقي الأوائل حينما تم استرقاقهم قسرا ونقلهم من موطنهم إلى الأمريكتين، حاولا استبقاء صورة الوطن ماثلة أمام أعينهم عبر الموسيقى والأنغام، لذا نجد التراث الأفريقي حاضرًا في الموسيقى الأمريكية والكاريبية مثل: سوكا، كاليبسو وزوك.
وحتى أنواع الموسيقى في أمريكا اللاتينية مثل الرومبا، والكونجا، والبومبا، والكومبيا، والسلسا، والسامبا، تأسست في الأصل على يد الأفارقة الذين تم استرقاقهم.
وكانت الموسيقى الأفريقية عاملاً رئيسيًّا في تشكيل ما نعرفه اليوم باسم البلوز والجاز، واستعار هذين النمطين من الإيقاعات والأصوات الأفريقية، التي جلبها الرق عبر المحيط الأطلسي، وإذا كانت الموسيقى في أفريقيا جنوب الصحراء تتسم بالتفاؤل والبهجة، نستطيع أن نشعر بالألم لما آلت إليه في طريقها إلى أمريكا حيث تحول الفرح إلى ألم نراها في موسيقى “البلوز” التي تعتبر تطورا جماليا ناتج عن ظروف الاسترقاق المؤلمة في العالم الجديد.
وفي ألبومه Graceland، استخدم موسيقار البوب الأمريكي بول سيمون Paul Simon فرقًا وإيقاعات وألحانًا أفريقية كخلفية موسيقية لأغانيه الخاصة، مثل: ليدي سميث، مامبازو، وفي أوائل السبعينات، وضع ريمي كاباكا، عازف الطبول من أصل أفريقي أنماط الطبل الأولية التي تطورت فيما بعد عبر فرقتي جينجر بيكر، ورولينج ستونز، وستيف وينوود.
كما كان للموسيقى التقليدية الأفريقية جنوب الصحراء تأثيرا كبيرا على أعمال ديزني، مثل: The Lion King وThe Lion King II: Simba’s Pride، التي رأينا فيها كيف تم المزج بين الموسيقى التقليدية ونظيرتها الغربية، وجمعت أغاني “Circle of Life” و”He Lives in You” بين كلمات الزولو والإنجليزية
وتضمن فيلم ديزني العديد من الكلمات من لغة البانتو السواحيلية، مثل عبارة hakuna matata، وهي عبارة سواحلية حقيقية، تعني: لا تقلق، كما أن أسماء الشخصيات مثل سيمبا وكوفو وزيرا هي أيضًا كلمات سواحيلية تعني “الأسد” و”الندبة” و”الكراهية”، بالترتيب.
وكان باباتوندي أولاتونجي وميريام ماكيبا وهيو ماساكيلا من أوائل الفنانين الأفارقة الذين خلقوا قاعدة جماهيرية كبيرة في الولايات المتحدة، وروّجت المحطات الإذاعية الأمريكية غير التجارية للموسيقى الأفريقية كجزء من مهامها الثقافية والسياسية في الستينيات والسبعينيات.
كما وجدت الموسيقى الأفريقية جمهورًا متلهفًا في الكليات والجامعات السوداء تاريخيًّا، وجذبت بشكل خاص الناشطين في مجال الحقوق المدنية وحركات القوة السوداء.