كتب – محمد الدابولي
دفعت أزمة الانقلاب الأخير في مالي إلي إعادة النظر مرة أخرى في مسألة مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل خاصة، وأفريقيا عامة، فالتخوفات من احتمالية استغلال الجماعات الإرهابية لحالة الانقلاب الأخير والاضطراب السياسي الذي تشهده البلاد في تحقيق التمدد والانتشار من جديد.
علي مدار عقد من الزمن تركزت عملية مكافحة الإرهاب علي السياق الأمني والعسكري بصورة كبيرة، فمنذ عام 2009 يخوض الجيش النيجيري عمليات واسعة ضد مقاتلي بوكو حرام في الولايات الشمالية الشرقية ومحيط بحيرة تشاد ويشاركه في هذا الأمر جيوش تشاد والنيجر والكاميرون، وفي مالي سارعت فرنسا بعملية السرفال في يناير 2013 لمنع سقوط العاصمة المالية بماكو في يد مقاتلي جماعتي التوحيد والجهاد وأنصار الدين.
التحولات السياسية الجديدة في المنطقة كانت بمثابة كاشف الضوء، لإعادة النظر في اجراءات مكافحة الإرهاب في أفريقيا، فلم تعد الألية الأمنية والعسكرية هي السبيل الوحيد لإتمام ذلك الأمر، لذا تناولنا في مقالنا السابق “المواجهة الدينية والمجتمعية للإرهاب في أفريقيا” مسألة تنويع جهود مكافحة الإرهاب وتم التركيز في المقال السابق على الإطار الديني والمجتمعي، لذا في هذا المقال سيتم التركيز على بُعد أخر من أبعاد مكافحة الإرهاب وهو مسألة تحقيق العدالة الجنائية للمتورطين في القضايا الإرهابية.
احترام سيادة القانون
تنص أغلب الدساتير الأفريقية والعالمية على مبدأ احترام سيادة القانون كأحد المقومات الأساسية للنظم السياسية، فبدونه تنهار الأنظمة السياسية وتسقط الدول في فخ الاحتراب الأهلي وتفشل في أداء وظائفها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
مبدأ سيادة القانون لم يكن بعيدا عن مرمي أهداف التنظيمات الإرهابية، فتلك الجماعات نشأت في الأساس لأجل انتهاك سيادة القانون وإسقاط الدول الأفريقية، مما دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة إلي التوكيد على أن هدف التنظيمات الإرهابية هو تقويض سيادة القانون وانتهاك حقوق الانسان، وإفشال تجارب التحول الديمقراطي وتقويض الحريات.
لذا في إطار حربنا ضد الإرهاب لا يجب أن يتم التغافل عن مبدأ احترام سيادة القانون وانفاذه بالصورة اللائقة، فعدم احترام سيادة القانون من قبل قوى إنفاذ القانون يعد بمثابة طوق نجاة للجماعات الإرهابية، التي تستغل تلك الانتهاكات في تصدير خطاب سياسي ملئ بعبارات المظلومية السياسية والاجتماعية، فضلا عن إيجاد مبرر شعبوي لعمليات الجماعات الإرهابية، ألا وهو مقاومة بطش السلطات الغاشمة في البلاد.
السجون.. مفرخة الإرهاب
تشير العديد من التقارير والتحليلات المتعلقة بمناقشة ظاهرة الإرهاب، إلي التأكيد على أن السجون بمثابة مفرخة طبيعية وتنظيمية للإرهاب، فسجن بوكا جنوب العراق خرجت منه النواة الأولي لتنظيم داعش بقيادة مؤسس التنظيم «أبوبكر البغدادي»، لذا تؤكد التحليلات على ضرورة إعادة ضبط السجون لكيلا تسمح مستقبلا بتشكيل عناصر إرهابية قادرة على مقاتلة الأنظمة السياسية.
وفي أفريقيا شكل احتجاز الداعية البوركيني «مالام ديكو» في أحد المعسكرات في مالي خلال الفترة من عام 2013 وإلي عام2015 دورا هاما في تشكيل مصفوفة التطرف لدي «ديكو»، مما دفعه عقب الإفراق عنه إلي تشكيل جماعة «أنصار الإسلام» شمال بوركينافاسو والمسئولة عن هجمات واغدادغو 2016، والهجوم على تمركزات الجيش البوركيني شمال البلاد.
الظروف الإنسانية والمعيشية اليئة في أغلب السجون تشكل مناخا ملائما لتسرب الأفكار المتطرفة وتغلغلها بين أوساط المسجونين، ومؤخرا في تشاد أثارت حادثة وفاة 44 مشتبه في انضمامهم لبوكو حرام في أحد معسكرات الاحتجاز في العاصمة نجامينا في أبريل 2020 تخوفات من أن تؤدي تلك الحادثة في إزكاء روح التطرف لدي بقيةالمسجونين والعناصر المحلية خاصة أن المتوفيين كانوا في حالة الاشتباه ولم يتم إدانتهم.
ومما لاشك فيه أن وفاة 44 مشتبه بهم نتيجة التسمم والاختناق سبب حالة من الغضب الشعبي تجاه النظام السياسي في نجامينا، ويؤدي إلي تقليل التعاون بين العناصر المحلية وقوات الجيش التشادي في أية عملية عسكرية مقبلة.
الحق في محاكمة عادلة
يعد الحق في تلقي محاكمة عادلة من أبرز الأسس التي يستند إليها مبدأ سيادة القانون، تطبيقا للمقولة القانونية الشائعة المتهم برئ حتى تثبت إدانته، لذا يجب التأكيد على ضورة اخضاع عناصر التنظيمات الإرهابية بأفريقيا للمحاكمات العادلة وذلك لعدد من الأسباب أبرزها استجلاء المعلومات الحقيقية حول أوضاع وبنية تلك التنظيمات وثانيا تحقيقا للعدالة وسد ثغرات المظلومية الاجتماعية والاثنية التي تحاول الجماعات الإرهابية الترويج لها عبر خطاباتها الموجهة للجماعات المهمشة في الدول الأفريقية.
وبناء عليه يجب على القوى الأمنية والعسكرية الأفريقية الحرص على ضرورة تقديم زعماء الجماعات الإرهابية لمحاكمتهم محاكمة عادلة أمام القانون، وعدم تكرار الأخطاء الماضية مثل حادث اغتيال مؤسس تنظيم بوكو حرام في عام 2009 والذي تسبب زيادة تمدد تنظيم بوكو حرام وليس تقليصه كما كان المتوقع في ذلك الوقت.
فيما ساهمت المحاكمات العشوائية التي تمت في أغسطس 2015 في نيجيريا تجاه المشتبه فيهم بانضمامهم لتنظيمبوكو حرام في زيادة أسهم بوكو حرام الشعبية في المناطق الشمالية، إذ استغلت الحركة تلك المحاكمات العشوائية (500 شخص تمت محاكمته بواسطة 4 قضاة في ثلاثة أيام وصد حكم باعدام 10 منهم) في تعزيز تواجدها الشعبوي في الولايات الشمالية الشرقية.
وفي هذا الصدد أوضح برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2017 أن البنية التنظيمية الإرهابية للجماعات الإرهابية في افريقيا ازدات بزياة كبيرة في الفترة الأخيرة حيث أن 71% من الأفراد المنضمين حديثا للجماعات الإرهابية سواء نيجيريا أو منطقة الساحل بسبب اعتقال أو قتل أحد أفراد أسرتهم.
ويتضح هذا الأمر بصورة كبيرة في الخطاب السياسي والدعوي الذي توجه (تنظيم الدولة الإسلامية في غرب أفريقيا ـ ISWAP) للسكان المحليين في محيط بحيرة تشاد المرتكز على استغلال أزمات السكان المحليين مع السلطات الحكومية في كسب موطئ قدم وحاضنة شعبية فيس تلك المناطق، وذات الخطاب أيضا تتبناه جماعة أنصار الإسلام في شمال بوركينافاسو وجبهة تحرير ماسينا في وسط مالي، فالأخيرة نجحت في دمج المظلومية الإثنية والمظلومية الإجتماعية لجماعة الفولاني في وسط مالي من أجل خلق خطاب تعبوي لها يضمن لها التمدد والانتشار.
فك التقارب الإجرامي الإرهابي
نتيجة غياب العدالة الجنائية في العديد من الدول الأفريقية، وعدم محاسبة العناصر الفاسدة في السلك الحكومي، توسعت دائرة الحركات الإرهابية في أفريقيا شرقا وغربا، فخلال الفترة الماضية تم ضبط العديد من العناصر الكينية المتعاونة مع حركة شباب المجاهدين الصومالية، وفي غرب أفريقيا تتعاون بوكو حرام وبقية التنظيمات المتطرفة مع عناصر العصابات الإجرامية في ساحل العاج وغانا من أجل تهريب الأسلحة والبضائع الخاصة بالتنظيمات الإرهابية فضلا عن استغلال مناجم الذهب في شمال غانا.
وفي هذا الصدد يشير معهد الدراسات الأمينة في جنوب أفريقيا إلي أن المدنيون في شمال نيجيريا تحملوا وطأة التقارب بين العصابات الإجرامية والتنظيمات المتطرفة في شمال البلاد، فخلال النصف الأول من عام 2020 قتل حوالي 608 مدني في أكثر من 245 حادثة اجرامية نظمتها العصابات والتنظيمات في ولايات كادونا وزامفارا وكاتسينا وكيبي في شمال نيجيريا، وفي المقابل نجد أنه في عام 2019 تم تسجيل حوالي 251 حادثة بإجمالي 1028 حالة وفاة، ومن هنا نوصي بضورة تحقيق العدالة الجنائية ضد العصابات الإجرامية أملاً في فك الارتباط بين العصابات الاجرامية والتنظيمات المتطرفة.