كتب – محمد الدابولي
خيّم الحزن على شوارع السودان إثر وفاة «الإمام الصادق المهدى» الذي وافته المنية يوم الخميس الماضي إثر إصابته بفيروس كورونا مطلع الشهر الحالي، وأعلنت الحكومة السودانية حالة الحداد العام في البلاد لمدة ثلاثة أيام وإقامة جنازة عسكرية له، عرفانًا بدوره التاريخي في المشهد السياسي السوداني الذي بدأ منذ بداية عقد الستينيات وإلى اليوم.
فعلى مدار ستة عقود كاملة جمع «الصادق المهدي» بين القيادة السياسية والروحية للعديد من أبناء الشعب السوداني، إذ تولى قيادةحزب الأمة القومي عقب وفاة والدة وإمامة طائفة الأنصار السودانية، التي تعد امتدادًا للثورة المهدية التي انطلقت في عام 1881 بقيادة الإمام محمد أحمد المهدي.
بطاقة تعريفية
ولد «الإمام الصادق المهدي» في ديسمبر 1935 بمدينة أم درمان شمال الخرطوم وتلقى تعليمه بين مدن الخرطوم والأسكندرية في مصر وأكسفورد في إنجلترا؛ إذ درس في جامعتها الاقتصاد، ونال درجة الماجستير منها عام 1957.
تمرس الصادق المهدي بالعمل السياسي منذ نعومة أظفاره؛ فجده لأبيه كان الإمام المهدي الذي قاد الثورة المهدية وحكم السودان حوالي خمس سنوات في نهاية القرن التاسع عشر (1881 – 1885)، وجده الإمام عبدالرحمن المهدي كان زعيمًا لطائفة الأنصار ومؤسسًا لحزب الأمة القومي في فبراير 1945، ووالده «الإمام الصديق» رئيس حزب الأمة وأحد رموز المعارضة لنظام الفريق إبراهيم عبود.
خلافة الصادق
تثار حاليًا العديد من التساؤلات حول وراثة الإمام الصادق في حزب الأمة وطائفة الأنصار؛ فالفقيد شغل منصب رئيس حزب الأمة القومي وزعيم طائفة الأنصار، إذ ترأس الصادق المهدي الحزب لمدة 59 عامًا تقريبًا، مع العلم أن الحزب تأسس قبل 75 عامًا في عام 1945؛ أي قبل ولادة الصادق بعقد كامل وتحديدًا في عام 1935.
في أوقات سابقة أفضى الصادق المهدي بنيته في الاستقالة من قيادة حزب الأمة تاركًا قيادة العمل السياسي لجيل جديد داخل الحزب، ورغبته أيضًا في التفرغ لأعماله الفكرية والسياسية والدينية، الأمر الذي فتح باب السباق لقيادة الحزب في مرحلة ما بعد الصادق المهدي، وأيضًا قيادة طائفا الأنصار التي تعد مرجعية دينية للحزب.
تصاعدت العديد من الأسماء التي من المحتمل أن تخلف الصادق في رئاسة الحزب وإمامة الطائفة، وفي هذا الصدد يمكن التمييز بين معسكرين وهما معسكر أنجال الصادق، ويتزعمهم نجلته ونائبته مريم الصادق والتي تَصَاعَدَ دورها مؤخرًا مع الحراك السوداني الأخير، وأيضًا يبرز في الصورة عبدالرحمن المهدي نجله الذي كان مساعدًا للرئيس المعزول عمر البشير، وأيضًا يبرز في الصورة رباح الصادق والصديق الصادق، ويبرز لنا أيضًا معسكر آخر متمثل في القيادات الكبرى في الحزب؛ مثل اللواء فضل الله برمة نصر وزير الدفاع الأسبق، والذي تم اختياره مؤخرًا ليكون رئيسًا مؤقتًا للحزب، والواثق البرير زوج ابنة المهدي، وعضو المكتب السياسي علي عبدالماجد.
ما يهمنا في هذا القول هو انكشاف المؤسسية في حزب الأمة السودانية، فالحزب تواتر على رئاسته ثلاثة قادة منذ نشأته وإلى اليوم، وأتى تسليم القيادة في الحزب بصورة توارثية، الأمر الذي يكشف عن أزمة انعدام المؤسسية وارتباط الحزب بالولائات الأسرية وليس الكفاءة الحزبية، وتوجد نقطة أخرى ينبغي التطرق إليها بعد وفاة الإمام الصادق، وهي مسألة الارتباط بين حزب الأمة وطائفة الأنصار، فهل سيظل الارتباط بين المكونين قائمًا في سودان ما بعد ثورة ديسمبر 2019 والتي أطاحت بمبدأ الوصاية الدينية على الحكم والسياسة كما كان قائمًا في عهد المعزول عمر البشير.
الصعود الديمقراطي
ارتبط الصادق المهدي في التاريخ السوداني الحديث بمسألة تطبيق الديمقرطية في البلاد، فعلى مدار سبعة عقود من استقلال البلاد في 1956 شهدت البلاد ثلاث تجارب ديمقراطية بدأت الأولى مع استقلال البلاد والثانية مع سقوط نظام إبراهيم عبود في 1964 والأخيرة بعد سقوط نظام النميري في إبريل 1985.
حضر الصادق الفترتين الثانية والثالة وفيهما نجح في الوصول إلي سدة الحكم والسلطة عبر الانتخابات الديمقراطية التي أجريت في البلدين عامي 1966 و1986 إلا أن تجربة الديمقراطية عمومًا في البر السوداني لم تعش وقتًا طويلًا، وسرعان ما تنتهي بانقلاب دموي استبدادي كما حدث في انقلابات عبود 1958 والنميري 1969 والبشير1989.
ورغم صعوده لسدة الحكم إلا أن الصادق المهدي وتحديدًا في ولايته الثانية 1986، لم يستطع الإبرار بسفينة الديمقراطية في السودان إلى بر الأمان، إذ شهدت حكومته التي شكلها في عام 1986 العديد من الاضطرابات الناجمة عن عدم توافق مكونات الحكومة وعدم قدرة الصادق المهدي على ضبط إيقاع الخلافات بها، فخلال الفترة من يونيو 1986 ويونيو 1989 شكل الصادق المهدي الحكومة السودانية خمس مرات في ثلاث سنوات وهو مؤشر على عدم الاستقرار السياسي، إذ تحالف مع الحزب الاتحادي في بادئ الأمر ثم تحالف مع الجبهة الإسلامية القومية بقيادة حسن الترابي والذي ما لبث أن انقلب عليه في يونيو 1989.
مواجهة الاستبداد
كان رئيس حزب الأمة شاهدا على التجارب الاستبدادية في السودان، إذ تولى الصادق المهدي مسئولية حزب الأمة في فترة عصيبة عقب وفاة والده «الصديق المهدي» الذي وافته المنية، بعد حوادث الاحتفال بالمولد النبوي، إذ هاجمت قوات الفريق إبراهيم عبود معسكرا للانصار في 21 أغسطس 1961 ودارت خلالها اقتتال بين قوات الجيش وأنصار الصديق أفضت إلى مقتل العديد من طائفة الأنصار، الأمر الذي أثر في نفسية الإمام الصديق وتوفي جراء ذبحة صدرية في أكتوبر 1961، ليخلفة نجله الصادق المهدي بعد وصيه أوصى بها والده.
تولى الصادق المهدي إمامة الأنصار في عام 1961، وقيادة الجبهة القومية المتحدة عقب وفاة والده، وكان ضمن الحراك الشعبي السوداني في أكتوبر 1964 والذي أطاح بحكم الفريق إبراهيم عبود، وأصبح رئيس وزراء السودان في عام 1966، إلا أن انقلاب جعفر النميري في عام 1969 أطاح بحلم التطور الديمقراطي في السودان.
انتظم الصادق المهدي في صفوف المعارضة لنظام جعفر النميري، مما أدى إلى الإطاحة بحكم النميري في عام 1984، لتبدأ المرحلة الديمقراطية الثالثة، وفيها نجح المهدي في الوصول للسلطة ومنصب رئيس الوزراء للمرة الثانية في عام 1986حتى الإطاحة به في انقلاب الإنقاذ بقيادة حسن الترابي وعمر البشير في يونيو 1989، ليكون بذلك آخر رئيس وزراء منتخب في السودان حتى الآن.
تولى الصادق المهدي لواء المعارضة ضد حكم الرئيس المعزول عمر البشير، إذ ترأس “قوى نداء السودان” التي تضم عددًا من الأحزاب المدنية ومنظمات المجتمع المدني، والحركات المسلحة السودانيية المعادية لنظام البشير، وكان تجمع “نداء السودان” ضمن قوى الحرية والتغيير التي قادت الثورة ضد نظام عمر البشير في ديسمبر 2019.
ونتيجة معارضة المهدي للأنظمة الاستبداية السودانية تعرض للاعتقال عددًا من المرات، إذ اعتقل في عهد النميري مرتين في عامي 1969 و1973، كما تم اعتقاله في أعقاب انقلاب البشير في عام 1989، ليقضي في السجن سبع سنوات، وفي سنواته الأخيرة آثر الحياة خارج البلاد مرغمًا منفيًّا.
رافضًا للتطبيع ومحذرا من انقلاب عسكري
للحظات الأخيرة كان الصادق المهدي حاضرًا في الحياة السودانية إذ أبدى اعتراضه على بدء عملية التطبيع السوداني الإسرائيلي الأخيرة، محذرًا حكومة عبدالله حمدوك من الدخول في مواقف خلافية تعرض استقرار البلاد للخطر، ومتهمًا الإدارة الأمريكية بابتزاز السودان برفع اسمه من قوائم الدول الراعية للإرهاب في مقابل التطبيع مع إسرائيل، وتعد مسألة استقرار السودان في مرحلة ما بعد ثورة ديسمبر 2019 الشغل الشاغل للفقيد خلال الفترة الأخيرة، ففي أغسطس 2020 حذر الصادق المهدي من احتمالية تعرض البلاد لانقلاب عسكري على خلفية الإخفاق في تحقيق حالة وفاق عام في البلاد والأداء المتواضع لحكومة عبدالله حمدوك على حد وصفه.