كتبت – د. أماني الطويل
مدير البرنامج الأفريقي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية
تعد فرنسا اليوم أحد أهم اللاعبين على الساحة الأفريقية، خصوصا وهي تطرح نفسها كراعٍ رئيسٍ لجهود مكافحة الإرهاب، سواء عبر تدشين تحالفG5 الذي طلب أطرافه الأفارقة من فرنسا مؤخرًا صراحة عونا عسكريا مباشرا لمكافحة الإرهاب، أو عبر بنائها عددًا من القواعد العسكرية الممتد تواجدها من جيبوتي حتى موريتانيا، فضلا عن مقاومتها لأي جهود إقليمية أفريقية تسعى لتنسيق جماعي بعيدا عن فرنسا، وبالتأكيد يتوج هذه التوجهات الفرنسية عدم تخل باريس عن نزح ثروات الأفارقة بعوائد غير عادلة.
ورغم الخسائر البشرية الفرنسية في عملياتها العسكرية المتعددة سواء في مالي أو أفريقيا الوسطى، أو المترتبة على الهجمات الإرهابية، وآخرها كان في بوركينا فاسو، ولكنها تصر على الاستمرار في الوجود على الأرض حسب ما فهمت من لقاء شخصي مع المبعوث الفرنسي للسودان وجنوب السودان، وهو ما عززه إرسال باريس مائتي جندي إضافي لمنطقة الساحل الأفريقي قبل أيام.
الأدوات الفرنسية في أفريقيا تتنوع ما بين الأدوات العسكرية إلى الاقتصادية إلى الثقافية، وهي حالة تبدو متفردة نسبيا عن باقي اللاعبين مثل الصين التي تركز على التفاعل في النطاق التجاري، مستهدفة النفط الأفريقي، وهو ما تتشارك فيه مع الولايات المتحدة، وتغيب الأدوات الثقافية عن كليهما، بينما يسجل البعد العسكري غيابا لدى الصين فإنه يعد محدودا، ونوعيا في السياسات الأمريكية، حيث لم تتورط واشنطن في عمليات عسكرية متعددة بأفريقيا باستثناء ليبيا، وتوظيف الشركات الأمنية الأمريكية في تحقيق الأهداف الأمريكية، ولعل هذا المشهد الذي تبرز فيه فرنسا بأفريقيا يتطلب معرفة أبعاده ونتائجه المتوقعة.
1- ملامح الاستراتيجية الفرنسية في أفريقيا
تأسست المقاربات الاستراتيجية الفرنسية إزاء أفريقيا على ثلاثة أسس، هي أولا: القرب من مفاصل النقل التجاري في القارة، من هنا تركز اهتمامها بالبحر الأحمر وخليج غينيا ومنطقة الساحل الأفريقي، ثانيا: الوصول إلى الموارد الطبيعة خاصة اليورانيوم والهيدروكربير المؤثرين على الصناعات العسكرية والموارد الكهربية الفرنسية، ثالثا: التواصل وتوسيع الأسواق الفرنسية لتكون سوقا للمنتجات الفرنسية.
وبطبيعة الحال من شأن هذه الأسس أن تمنح فرنسا -في حال النجاح فيها- زيادة في وزنها الدولي، وتأثيرها في النطاق الأفريقي، خصوصا إن خلت البيئة السياسية العالمية من منافس قوي، ولعل التراجع الفرنسي في التسعينيات في النطاق الأفريقي، كان نتيجة متغيرات النظام الدولي وتحوله إلى القطبية الأحادية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، على أن التحول الراهن في النظام الدولي وزيادة فرص التعددية القطبية، قد دعم قدرة فرنسا على تحقيق مقارباتها الاستراتيجية.
وفي هذا السياق قسمت فرنسا أفريقيا إلى أربع دوائر أو أربع مجموعات من الدول، لكل منها أدوات مغايرة نسبيا للأخرى؛ المجموعة الأولى المستعمرات السابقة مثل كوت ديفوار والسنغال والجابون والكاميرون، أما المجموعة الثانية فهي الأفقر نسبيا ولكن مواردها الطبيعية واعدة فضلا عن حساسية موقعها الجيوسياسي، ومنها تشاد وموريتانيا وأفريقيا الوسطى، بينما المجموعة الثالثة تعد الأضعف والمتباعدة عن التفاعل في النطاق الأوروبي مثل مدغشقر وبنين، وفي الأخير فإن المجموعة الرابعة التي تركز عليها فرنسا هي تلك الدول التي فقدت الصلة بالمستعمر القديم نتيجة ضعفه أو تخليه عن السياسات الاستعمارية مثل بلجيكا وألمانيا ونسبيا بريطانيا، وذلك مثل رواندا وبروندي وكينيا وموزمبيق ونيجيريا وسيراليون[1].
2– أدوات الاستراتيجية الفرنسية
أ- الآلية العسكرية:
سجلت العمليات العسكرية الفرنسية توسعا ملحوظا في الفترة من 2006 حتى 2019 حيث شكلت 8 عمليات عسكرية متنوعة القوة والاتساع أقدمها عملية التركواز في رواندا عام ١٩٩٣، والتي انحازت فيها فرنسا للهوتو، وأحدثها عملية البرخان التي انطلقت عام 2013 من مالي وما زالت فاعلة، وقد توسع الرئيس الفرنسي ماكرون في سياسات عسكرة العلاقات الفرنسية مع أفريقيا إلى حد بناء تحالفات محض عسكرية من المتوقع أن تنمو وخصوصا مع التحديات الأمنية الآخذة في الاتساع بدول الساحل والصحراء من ناحية، وما وفرته هذه السياسات من ظهور فرنسا كقوة موازية لألمانيا من حيث الوزن في الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى، وهو مكسب في التحليل الأخير لا يمكن إغفاله، وهو ما نتج عنه في المحصلة أن ٧٠٪ من حجم التفاعل العسكري الفرنسي مع الخارج هو مع أفريقيا.
وقد شكل الوجود الفرنسي المدني والاقتصادي في مناطق خليج غينيا سببا إضافيا للتواجد الفرنسي العسكري، فقد أكد وزير الدفاع الفرنسي جون ايف لورديان في خريف ٢٠١٦ أن منطقة خليج غينيا تقع على سلم أولويات التعاون العسكري الفرنسي في أفريقيا، كما قررت إعادة توزيع قواتها في دول الساحل الأفريقي لمزيد من الفاعلية والتعاون والجاهزية صراعها القائم مع المجموعات الجهادية المنتشرة في منطقة الساحل الأفريقي؛ حيث بدأت البعثة الفرنسية في تلك المنطقة منذ عام 1990، وتهدف إلى كفالة تواجد فرنسي دائم في مياه المنطقة بما يمكنها من الحفاظ على مصالحها في المنطقة، وإجلاء رعاياها في حالة حدوث أي أزمات، حيث يصل تعداد الرعايا الفرنسيين في تلك المنطقة إلى نحو 80 ألف فرنسي موزعين على 6000 كيلومتر، على طول خليج غينيا.
وفي هذا السياق طورت فرنسا من الاتفاقات الدفاعية المبرمة عام 2008
الذي تأسس عام 2017 G5 إلى تحالف RECAMP
بين فرنسا وخمس دول أفريقية هي بوركينا فاسو والنيجر ومالي وتشاد وموريتانيا، كتطور طبيعي لعملية البرخان في مالي والتي انطلقت عام 2013، ولكن ما أضافه التحالف الأخير هو تكوين قوة تدخل سريع من خمسة آلاف عنصر كمرحلة أولى تعتمد على العناصر الأفريقية وبقيادة فرنسية وتمويل دولي يساهم فيه الخليج العربي.
ويمكن القول: إن حجم الإنفاق الفرنسي قد تضاعف عدة مرات نتيجة سياسات العسكرة خصوصا في أفريقيا فوفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI، صنفت فرنسا الدولة الأكثر إنفاقًا عسكريًّا على مستوى غرب أوروبا؛ حيث قدر إجمالي عدد العسكريين الفرنسيين في أفريقيا بنحو 9000 فرد في عام 2015 مقابل 5000 في 2012، بإنفاق سنوي يتخطى الـمليار يورو.
في هذا السياق يبدو أن تكوين قوة التدخل السريع الفرنسية الأفريقية المشتركة لن يكون بالأمر العسير خصوصا في ضوء أمرين؛ الأول وجود اتفاقات عسكرية وأمنية كانت قد أبرمت مع الدول التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي المباشر، وكانت أحد شروط موافقة فرنسا على الاستقلال السياسي، أما الأمر الثاني فهو طبيعة التواجد العسكري الفرنسي المنتشر فعليا في القارة الأفريقية، ومن شرقها إلى غربها، وذلك في مناطق الكولونيالة الفرنسية التاريخية.
فيما يخص الاتفاقات الثنائية حرصت فرنسا على التعاون مع تلك المستعمرات السابقة عبر شبكة من الاتفاقيات الثنائية والجماعية. ولقد غطت هذه الاتفاقيات مجالات مختلفة، منها اتفاقيات الدفاع، واتفاقيات التعاون العسكري، واتفاقيات المساعدة العسكرية الفنية والتقنية، فضلًا عن اتفاقيات الدفاع الإقليمي والجماعي وتتضمن اتفاقيات المساعدة العسكرية الفنية والتقنية ثلاثة أنواع من الاتفاقيات: المساعدة الفنية (الأشخاص العسكريون، الدعم الفني)، والدعم المادي (رؤوس الأموال، تراخيص إنتاج التجهيزات العسكرية، التسلح)، والتعليم، وتدريب العسكريين الأفارقة. وفي هذا السياق أبرمت فرنسا اتفاقيات دفاع عسكري مشترك مع عدة دول أفريقية مثل الكاميرون وأفريقيا الوسطى وجيبوتي وساحل العاج، أما عن اتفاقيات التعاون والمعونة الفنية، فأبرمتها على سبيل المثال مع بنين وبوركينا فاسو وبروندي والكونغو وغينيا والسنغال.
وبالتأكيد حافظت الاتفاقيات التي تم توقيعها بين فرنسا وعدد من الدول الأفريقية عشية استقلالها على قدر كبير من التأثير الفرنسي الاقتصادي والسياسي والعسكري يصل -في تقديرنا- إلى حد التبعية الكاملة لهذه الدول لفرنسا، وذلك رغم حالات من التمرد تقوم بها بعض الدول مثل الجابون مثلا، وساعدها في ذلك الوجود الصيني في القارة، وفى حقيقة الأمر فإن تلك الاتفاقيات لم تسمح فقط بالتدخلات العسكرية الفرنسية من أجل الحفاظ على استقرار الأوضاع الداخلية، والتصدي لجماعات التمرد المدعومة من الخارج، أو التصدي لأي اعتداء على الدولة، حسبما تعلن فرنسا؛ لكنها ساهمت في خلق إطار قانوني لمختلف أنواع الأنشطة الأمنية والعسكرية الفرنسية في القارة.
وتُبقي فرنسا على علاقة عسكرية ثنائية بينها وبين ما يتخطى الـ40 دولة أفريقية، وتستقبل 24 دولة منهم عددًا من الخبراء العسكريين الفرنسيين، للتعاون في المجال العسكري، و 8 من ضمن تلك الدول كانت قد قامت بتجديد اتفاق الشراكة مع فرنسا في عام 2008؛ وهى: أفريقيا الوسطى، الكاميرون، توجو، جزر القمر، ساحل العاج، جيبوتي، الجابون، السنغال.
وتعد جيبوتي أهم قواعد فرنسا العسكرية في أفريقيا نظرا لأهمية موقع جيبوتي في شرق القارة، ويتمركز فيها أكثر العناصر الفرنسية خبرة عسكرية، ويبلغ عددهم حوالي 1700 جندي، وتعد أكبر قاعدة فرنسية خارج حدودها عددًا وعتادًا، ويطلق عليها العسكريون الفرنسيون مدرسة الصحراء حيث يتلقى العسكريون تدريبات على المهام الشاقة في الظروف المناخية والبيئية الصحراوية، وتضم قاعدة جوية بها 7 طائرات ميراج 2000، وطائرة C160، و 2 طائرة هليكوبتر Puma2، كما تضم قاعدة بحرية.
أما القاعدة العسكرية في ساحل العاج فهي ثاني القواعد من حيث الأهمية بعد قاعدة جيبوتي، وتقع في غرب أفريقيا. ويتواجد بها نحو 600 عنصر فرنسي.
أما ثالث القواعد العسكرية فتتمركز في الجابون، وتنظمها اتفاقات دفاع منذ استقلال الجابون في أغسطس 1960. وتضم تلك القاعدة نحو 450 عنصرا فرنسيا.
أما القاعدة العسكرية في السنغال فهي تضم نحو 350 عنصرا فرنسيا.
وتعد القاعدة العسكرية في ماداما أحدث تطور في عملية الانتشار العسكري الفرنسي في الساحل الأفريقي هو إنشاء قاعدة “ماداما” في أقصى شمال النيجر قرب الحدود مع جنوب ليبيا في ظل “عملية البرخان” 2014، التي تجعل الجنوب الليبي في سلم أولوياتها، وبالإضافة إلى القواعد العسكرية، تتواجد مجموعة من البعثات الفرنسية المنتشرة عبر القارة، ومن ذلك بعثة “كوريمب” في خليج غينيا، والهادفة إلى دعم العمليات العسكرية الغينية في مواجهة القرصنة البحرية[2].
وتحت مظلة الوجود العسكري الفرنسي من الطبيعي أن تكون باريس على رأس قائمة مُصدّري السلاح إلى شمال أفريقيا، فسجلت الفترة من 1996 وحتى عام 2003، حصيلةً وصلت نحو 30 مليار يورو، ووفقًا لتقرير صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام SIPRI في فبراير 2016، جاءت فرنسا ضمن أكبر خمس مصدرين للسلاح على مستوى العالم خلال الفترة من 2011 وحتى 2015. حيث ازدادت الصادرات الفرنسية من الأسلحة لتصل إلى 78 دولة خلال تلك الفترة، ولقد حازت دول القارة الأفريقية على نحو 18% من إجمالي تلك الصادرات، ولقد تكللت الجهود الفرنسية لزيادة صادراتها من السلاح خلال عام 2015 بالعديد من العقود التي أبرمت، وفى هذا السياق أجرت فرنسا صفقة مع مصر للحصول على 24 طائرة رافال، وقد تسلمت مصر الدفعة الأولى في 21 يوليو 2015، والثانية في 28 يناير 2016.
وقد سجلت الواردات الأفريقية من الأسلحة الفرنسية خلال الفترة من 2011 وحتى 2015، زيادة قدرها نحو 19% مقارنة بالفترة من 2006- 2010، وكان من كبار مستوردي الأسلحة في أفريقيا خلال الفترة من 2011- 2015: الجزائر 30%، المغرب 26%، أوغندا 6,2% من إجمالي الاستيراد الأفريقي للسلاح، وخلال الفترة ذاتها مثلت الصادرات الفرنسية للسلاح نحو 5,6% من إجمالي صادرات العالم للسلاح، وحازت المغرب على نحو 16% من تلك الصادرات الفرنسية، كما حصلت مصر على 9,5% من إجمالي تلك الصادرات. حيث تسلمت مصر خلال العام الماضي من الجانب الفرنسي حاملتين لطائرات هليكوبتر من طراز ميسترال.
على أي حال فإن التواجد العسكري الفرنسي الكبير أتاحه توافق دولي برز خلال الخمس سنوات الأخيرة حين استطاعت فرنسا القيام بعمليات تدخل عسكري مباشر في كل من مالي وأفريقيا الوسطى بتفويض مباشر من مجلس الأمن، ولكن يبدو أن هذا التوافق قد بدأ في التآكل، خصوصا مع التحفظات الأمريكية الأخيرة على إعطاء فرنسا تفويضا مطلقا للتدخل العسكري في أفريقيا، وطالبت مجلس الأمن أن يكون التفويض لكل حالة على حدة، وهو أمر قد يثير حنقا فرنسيا، ولكنه بالتأكيد لن يتجاوز ذلك في ضوء تحالفات فرنسية أساسية في منطقة الشرق الأوسط.
ب- الآليات السياسية :
اعتمدت فرنسا على دبلوماسية القمم لبلورة أجندة حوار سياسي متعدد الأطراف مع القيادات والزعامات الأفريقية، وقد أعطت هذه الدبلوماسية قيمة نسبية أعلى لقادة المنطقة الفرانكفونية في أفريقيا خصوصا، وأنها منطقة الساحل الأفريقي التي يتركز فيها عدم الاستقرار السياسي
وقد بدأت دبلوماسية القمم الفرنسية منذ عام 1973، لتكون بذلك أقدم القمم مع أفريقيا على الإطلاق، حيث تبع فرنسا في اعتماد هذ الآلية كل من العرب والصين والهند واليابان، ومؤخرا كل من روسيا وبريطانيا، وقد افتتح القمة الفرنسية الأفريقية الأولي الرئيس جورج بومبيدو، حيث تحافظ هذه القمم على دورية انعقادها كل عامين بباريس أو في أحد العواصم الأفريقية، ويُبحث خلالها عدد من القضايا التي تهم الأطراف المشاركة، حيث تطرح القضايا طبقا للمنظور الفرنسي، وتسجل الأطراف موقفها من هذا المنظور ومدى التوافق عليه بين مختلف دول غرب ووسط أفريقيا، أما على النطاق القاري، فإن فرنسا تشارك بفاعلية في قمم الاتحاد الأفريقي، وذلك بدرجات تمثيل عليا كمراقبين، بل ومؤثرين في كواليس الاتحاد الأفريقي.
ج- الآليات الاقتصادية:
تبدو المصالح الاقتصادية الفرنسية في أفريقيا حاكمة لكل تحركاتها السياسية والعسكرية، فقد صرح وزير الخارجية الفرنسي “لوران فابيوس” في 14 يناير 2013 لتبرير الهجوم الفرنسي على شمال مالي: “لقد كانت المصالح الأساسية بالنسبة لنا ولأوروبا ولأفريقيا على المحك، لذلك كان علينا التحرك بسرعة”.
ولعل على رأس المصالح الفرنسية الاقتصادية في أفريقيا مسألة الوصول إلى اليورانيوم في الصحراء الأفريقية، إضافة إلى ثروات القارة الأخرى كالنفط والغاز والماس والذهب والمعادن الأخرى؛ إذ تعتمد فرنسا في تلبية نحو 75% من احتياجاتها من الكهرباء على الطاقة النووية، كما أن شركة أريفا الفرنسية (Areva) ظلت على مدى قرون أربعة ماضية تهيمن على حقوق استغلال اليورانيوم في النيجر، وتأسيسا على هذه السياسة، اتسعت المصالح الاقتصادية الفرنسية عبر القارة، حتى بلغ عدد الشركات الفرنسية التي تعمل في أفريقيا حوالي ألف وخمسمائة شركة، وبهذا فإن أي محاولات لتهديد استقرار الأوضاع ونشر الفوضى في النيجر ومالي والمنطقة المحيطة يعتبر تهديدا لأمن فرنسا، وخطا أحمر تجاوزه يعني التدخّل الفوري والحاسم.
وبطبيعة الحال هناك عدد من الآليات التي يتم الاعتماد عليها لتسيير المصالح الاقتصادية الفرنسية في القارة الأفريقية، منها آلية “مقابلات أفريقيا”، والتي تهدف إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية بين فرنسا وأفريقيا، حيث حضرها عام 2016 على سبيل المثال نحو 2347 شخصا، وأجري على هامشها نحو 3765 مقابلة عمل، وهو حدث منظم من قبل وزارة الشئون الخارجية الفرنسية، ووزارة الاقتصاد والمالية الفرنسية، ويهدف إلى إعطاء دفعة للشراكات الاقتصادية الفرنسية-الأفريقية، وتطوير شبكة من شركاء القطاع العام والخاص في أفريقيا، ولعل أهم الاستثمارات الفرنسية هي في موريتانيا لاستخراج الحديد، أما في المجال الزراعي فإن استصلاح أراضي نهر السنغال من المشروعات الكبرى المؤثرة على اقتصادي كل من السنغال وموريتانيا.
وعلى المستوى المصرفي ربطت فرنسا ١٦ دولة أفريقيا بالفرنك الفرنسي السيفا، وهي الآلية التي تربط اقتصادات هذه الدول بفرنسا، منذ عام ١٩٤٨، وذلك بسعر تحويل واحد استمر أكثر من أربعة عقود. وقد أحبطت باريس مؤخرا مجهودات عدد من دول غرب أفريقيا في تجمع الإيكواس في فك ارتباطهم بالسيفا إذ قامت بحركة استباقية جعلت مجهودات المقاومة الأفريقية تذهب أدراج الرياح وتسببت في تقسيم مجموعة غرب أفريقيا[3]، حيث كافحت المجموعة لاقتصادية لدول غرب أفريقيا “الإيكواس” على مدى عقود ثلاثة من أجل إطلاق عملة موحدة “إيكو”؛ وذلك بهدف تنمية وتعزيز التجارة البينية في المنطقة. ولكن قيام فرنسا من خلال حليفها الرئيس الإيفواري الحسن وتارا بالإعلان عن قيام ثماني دول في غرب أفريقيا بالتخلّي عن استخدام الفرنك الأفريقي في نفس اليوم الذي كان من المفترض أن تجتمع فيه الإيكواس لإعلان العملة الجديدة.
د- الآليات الثقافية
أسس الرئيس الفرنسي بومبيدو الرابطة الفرانكفونية عام ١٩٨٦، حيث تسعى فرنسا لتحويل الفرانكفونية من مجرد تجمع ثقافي إلى حركة سياسية؛ حيث تهدف إلى إنشاء تجمع سياسي فرانكفوني في أفريقيا له صوت سياسي يؤخذ به في الساحة الدولية، والحفاظ على استقرار الأنظمة السياسية الأفريقية الموالية لها، ويمثل الحفاظ على استقرار الأنظمة الأفريقية
وقد حرصت فرنسا على خلق تجمع فرانكفوني في أفريقيا، ليس لأهداف ثقافية فحسب، بل أيضًا تحقيقًا لمجموعة من الأهداف السياسية، يأتي على رأسها خلق صوت متجانس يؤخذ به في الساحة الدولية بحيث يساهم في خلق تيار سياسي مناهض للتيار الأنجلوسكسوني- الأمريكي. وتمثل الفرانكفونية مجالًا من أكبر المجالات اللغوية العالمية، فهي ليست مجرد تقاسم لغة، بل تعتمد أيضًا على نقل مجموعة من القيم الإنسانية إلى القارة الأفريقية، الأمر الذي يساهم في تشكيل الوعي الأفريقي.
وفى إطار الفرانكفونية، ينصب الاهتمام على شقين بالأساس، ألا وهما نشر اللغة الفرنسية، وإنشاء المؤسسات التعليمية. حيث تظل اللغة الفرنسية هي الأقوى والأكثر استعمالًا في القارة السمراء، وتسود بين دول غرب ووسط أفريقيا، بالإضافة إلى جيبوتي في الشرق ومدغشقر وجزر القمر في الجنوب الشرقي، وتهتم فرنسا بمجموعة الدول الفرانكفونية بصورة أساسية، وتعتبر اللغة الفرنسية خامس أكثر لغة انتشارًا على صعيد العالم.
وتتفاوت درجة الاهتمام بتلك الدول وفقًا لأهميتها الاستراتيجية، الأمر الذى يعتمد على موقعها الجغرافي وما تمتلكه من موارد وعناصر أخرى تؤخذ في الاعتبار. وفى هذا السياق، يمتد الاهتمام الفرنسي ليشمل عدد من الدول التي لا تعتبر الفرنسية لغتها الرسمية، ومنها غينيا بيساو، وغينيا الاستوائية، وساو تومي وبرنسيب، ونيجيريا، وتنمو اللغة الفرنسية في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء بصورة أساسية.
وفى سياق المنظمة الدولية للفرانكفونية، يتم إطلاق مجموعة من المشروعات عبر شبكة الإنترنت والتي تستهدف تحسين اللغة الفرنسية ونشرها، فعلى سبيل المثال تهدف شبكة REFER إلى الربط ما بين عدد من الجامعات الأفريقية، مع إيجاد إمكانية بالنسبة للقائمين على التدريس وطلاب الجنوب للتمتع بخدمات الشبكة العنكبوتية بأقل تكلفة أو مجانًا.
كما تتدخل منظمة الفرانكفونية من أجل إرساء دعائم نظام قضائي قوى في أفريقيا، كما تقدم دعمًا للعمليات الانتخابية التي تتم عبر القارة، عبر تمويل الانتخابات، بل أيضًا عبر مراقبتها والتأكد من حسن سيرها، ومقاطعة الإشراف عليها متى ظهرت أي شبهه فساد.
وتهتم فرنسا بإنشاء مجموعة من المدارس الابتدائية والثانوية في الدول الأفريقية، منها ما هو تابع للإرساليات الدينية، ومنها ما هو مدني، كما تتجه فرنسا لتأسيس جامعات في دول القارة الأفريقية، كالجامعة الفرنسية في مصر، وتحرص على افتتاح أفرع لأقسام جامعاتها المرموقة في الكليات الأفريقية، والقيام بالتبادل الطلابي، وتصل نسبة الطلاب الذين يدرسون اللغة الفرنسية في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، إلى نحو 52% من إجمالي الطلاب[4].
كما تنتشر المراكز الثقافية الفرنسية في أنحاء القارة المختلفة، وتلعب دورًا هامًّا في توثيق الروابط الثقافية والحضارية بين فرنسا والشعوب الأفريقية، ولا تحرص تلك المراكز على نشر الثقافة الفرنسية فحسب، بل إنها تسعى إلى رصد الثقافات المحلية وتوثيقها، بما يسهم في تحديد أولويات السياسة الفرنسية.
- أثر السياسات الفرنسية على المصالح الأفريقية:
أفرزت السياسات الفرنسية في أفريقيا، وخصوصا ما يرتبط بالتوسع في العمليات العسكرية، حيث أنها صاحبة النصيب الأوفر في التدخل العسكري في تعقيد الكثير من الأزمات، خصوصا في رواندا حيث تسبب انحيازها للهوتو في الوصول الى مراحل الإبادة الجماعية، وكذلك في أفريقيا الوسطي، حيث تحولت الأزمة من أزمة سياسية بسبب رغبة الرئيس بويززي في امتداد حكمه إلى أزمة طائفية بين المسلمين والمسيحيين، حيث تم قراءة التدخل العسكري الفرنسي بأنه تدخلا لصالح المسيحيين ضد المسلمين، كما قوض تحالف G5 مجهودا مصريا سابق عليه، حينما أجتمع في شرم الشيخ عام ٢٠١٥، ٢٦ وزير دفاع في إطار تنسيق عسكري وأمني بين هذه الدول لمحاربة الإرهاب، في منطقة الساحل الأفريقي، ولكن هذا المجهود لم يكتمل.
وطبقا لهذه الشواهد فإن التدخلات الفرنسية في القارة الأفريقية، وإن كانت تعنون بهدف الحرب على الإرهاب فإن وجود قوات أجنبية على الأراضي الأفريقية من شأنه تحفيز الميليشيا السلفية الجهادية على الحشد والتجنيد، وبالتالي توسيع العمليات الإرهابية وليس تحجيمها، وهو ما يساهم في تقويض الأمن الإقليمي الأفريقي، ويحد من قدرات الدول الأفريقية على تنمية قدراتها الاقتصادية والعسكرية.
أما على الصعيد الأوروبي فهناك أكثر من عاصمة أوروبية ترفض السياسيات الفرنسية من زاوية أنها تقوض القدرات الاقتصادية الأفريقية، وبالتالي تكون أحد أهم المداخل في انتشار ظاهرة الهجرة غير الشرعية، المهددة لأوروبا حاليا، وفي هذا السياق يمكن رصد مواقف وتصريحات إيطالية وبلجيكية وألمانية مناهضة للسياسات الفرنسية[5].
الهوامش
[1] السياسية الفرنسية في أفريقيا، الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية، متاح على https://www.politics-dz.com/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7/
[2] نوراد مراد، التقرير الاستراتيجي العربي، ٢٠١٧، مركز الأهرام للدراسات، ص ص ١٠٢، ١٠٤.
[3] حمدي عبد الرحمن، فرنسا وفخ الاستعمار الجديد في غرب أفريقيا قراءات أفريقية، متاح على
[4] http://www.franceonu.org/Francophonie-8629
[5] حمدي عبد الرحمن، مرجع سابق.